انطباعات من أربيل

عريب الرنتاوي

كانت الساعة تقترب من الثالثة فجراً، عندما حطت بنا الطائرة في مطار أربيل … دقائق فقط، وكنّا خارج قاعات المطار، نستقبل التكسي إلى فندق “جوار جرا” (أو القناديل الأربعة)، فإجراءات المطار الحديث سريعة وقياسية … كانت الشوارع هادئة، الإنارة جيدة للغاية، تمكن الزائر من ملاحظة الاهتمام الفائض بنظافة المدينة التي تنتقل سريعاً، من بلدة ريفية طرفية محافطة، إلى مدينة حديثة وعصرية، تنبض بالحركة والحياة.
 

لا يصعب على زائر أربيل، ملاحظة حركة العمران السريعة التي تجتاح المدينة بكل أحيائها، عمارات حديثة وفنادق راقية ومطاعم ومقاه تنتشر على امتداد الطرقات … لا شيء يشي بأنك في العراق … الأمن مستتب، وهدوء الليل وسكينته، لا يقطعهما سوى صوت محرك السيارة … لا أثر لحواجز عسكرية أو انتشار أمني … أربيل باتت ملاذاً آمناً، لا لأكراد العراق، بل ولكل اللائذين بالإقليم … حدثني بعض الأصدقاء أن كثرة من رجالات الأمن والسياسة في بغداد، “وطّنوا” عائلاتهم في الإقليم، فالأمن في بغداد مفقود حتى حواف المنطقة الخضراء.
أجندة العراقيين مزدحمة للغاية، الأمن والاستقرار ليسا أكثر من عنوان واحد من جملة عناوين مدرجة على جداول أعمالهم … لا أحد يمتلك تصوراً عن مستقبل العراق ومالاته … لا أحد لديه الثقة، بأن العراق الذي عرفناه، أو حتى العراق بصورته القائمة، سيظل على ما هو عليه في قادمات الأيام … الانتخابات العراقية، تثير القلق ولا تبعث على الطمأنينة، وسط تشكيك جميع العراقيين، باستثناء تيار المالكي، في نزاهتها وشفافيتها … صدمة الانتصار الساحق لرئيس الحكومة، وشبح الولاية الثالثة للمالكي، هي الموضوع الذي يشغل العراقيين ويسيطر على مجالسهم.
 
في الإقليم، تبدو صورة المستقبل واضحة للغاية، هم يعرفون ماذا يريدون، وإلى أين يتجهون … سيذهبون مع أي رئيس حكومة، إن قبل بمطالبهم، ولديهم لائحة طويلة منها، تذهب جميعها في اتجاه تعزيز استقلال الإقليم ونمائه وتعظيم موارده … إن تعذر ذلك، فالاستفتاء هو الخيار لحسم مصائر “المناطق المتنازع عليها”، و”التوطئة” لتوقيع وثائق “الطلاق” مع العراق، من دون خشية من ردات فعل إقليمية غاضبة، كما كان عليه الحال قبل سنوات، فمواقع هذه الأطراف، تغيرت، وكذلك مواقفها، تركيا بشكل خاص.
 
بخلاف الوضع في الإقليم، الذي تحول إلى دولة لا ينقصها سوى حفل الإشهار، تتلمس مناطق العراق ومكوناته الأخرى، طريقها العاثر نحو المستقبل، من دون أمل ولا رهانات عظام … المناطق السنية بمكوناتها المختلفة، تخضع لسيطرة مثلث قوى غير متساوي الأضلاع، أطولها “داعش” التي تصول وتجول في العاصمة ومناطق غرب العراق، ناشرة الذعر والجثث والخراب في الساحات والميادين، تقاتل بشراسة، من الفلوجة والرمادي وحتى قلب الموصل الذي نجحت في الوصول إليه، بضربة خاطفة، وبغفلة (البعض يقول تواطئ) من الحكومة، مروراً بالأنبار التي احتجز طلبة جامعتها بالجملة على أيدي المجاهدين.
 
أما الضلع الثاني، فيتمثل في بقايا البعث والنظام القديم، الذي نجح في مقاومة “الاجتثاث”، وما زال حاضراً بقوة في بعض حواضنه السنيّة … أما الضلع الثالث، فتمثله قوى تعد “رأس جسر” لنفوذ المالكي، يعوّل عليها في تشكيل حكومة “الأغلبية السياسية” والتي إن وجدت شريكاً كردياً وازناً، ستكون خيار المالكي الأول، وستبصر النور، لكن مهمة رئيس الحكومة مع الأكراد، تبدو صعبة للغاية، حتى وفقاً لحسابات أكثر القوى الكردية قرباً من المالكي وحلفائه الإقليميين.
 
“تسونامي” الانتخابات، أوصل المالكي لاحتلال ثلاثين بالمائة من مقاعد البرلمان … هو يفضل بلا شك، شركاء من الائتلاف الشيعي لتظهير التمثيل العريض لحكومته، وإن كان حصل على عدد من الأصوات، يمكنه من ادعاء تمثيل شيعة العراق … هنا تتجه الأنظار للمجلس الأعلى وكتلة “مواطن” وآل الحكيم، فيما التيار الصدري، يؤثر مغادرة البرلمان على المشاركة في حكومة يقودها “صاحب صولة الفرسان”.
 
نتائج الانتخابات العراقية، وأشكال التحالفات التي ستنشأ عنها، وطبيعة الحكومة التي ستنبثق منها، سيكون لها الأثر الحاسم، في تقرير مستقبل العراق ومالات وحدته الوطنية وشكل نظامه السياسي ومضمونه، والعلاقات بين مكوناته المختلفة … لهذا قيل فيها أنها “انتخابات مفصلية”، وهي كذلك بالفعل … نتائج الانتخابات وشكل الحكومة القادمة، ستقرر موقع العراق على خريطة المحاور الإقليمية المصطرعة، فالحروب المحتدمة في العراق وعليه، لم تضع أوزارها بعد، وليس متوقعاً لمدافعها أن تصمت قريباً، والأرجح أن تداعياتها الجيوساسية والأمنية والاجتماعية، ستنعكس على جواره القريب، وربما على المنطقة برمتها.
———–

الدستور

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…