والسؤال المطروح هنا هو كالتالي: “هل يعيش حزب العمال الكوردستاني مرحلة تحنيط الذات آيديولوجياً منذ اعتقال رئيسه في نهاية القرن الماضي، فيبدو بشعاراته وأعلامه وخطابه وإعلامه وتصرفات أعضائه المسؤولين، وكأن كل هذه التغييرات التي جرت في العالم من حوله لا تهمه؟”
في الحقيقة، إن هذا الحزب لديه أسلحة مختلفة استخدمها للبقاء حياً، منها تجييش الجماهير بشكل يومي، سواءً في داخل البلاد أو خارجها، وتسخير عنصر النساء بشكل خاص، ومنها الضرب على وتر التضحيات الجسام التي قدمها كوادره أثناء فترة حكم العسكر في تركيا، التي بدأت بانقلاب الجنرال كنعان إيفرين، وتم فيها اعتقال وتعذيب الكثيرين من الكورد، ومن بينهم كوادر مؤسسة أو متقدمة من حزب العمال الكوردستاني، كما أن الحزب استخدم سلاح “الكفاح من أجل حرية الكورد وتحرير كوردستان” بقوة السلاح، وسهر على أن لا تتشكل أي معارضة سياسية له في شمال كوردستان، فسحق العديد من التنظيمات الكوردستانية، الديموقراطية واليسارية، وحارب التيار الإسلامي بين الشعب الكوردي، وظهر مستفرداً بالقرار السياسي الكوردي بعد بدئه القتال بمعونة “الحلف الإيراني” في المنطقة ضد “تركيا الفاشية” التي اعتبرها السيد أوجلان بصراحة في كتاباته وتصاريحه النارية إحدى قلاع “الماسونية” في العالم، ومن ذلك قوله: “والآن، فإن تركيا تلعب دور الشرطي للماسونية في المنطقة، وهي بذلك تشكل خطراً كبيراً. وكذلك فإن إسرائيل تلعب الدور ذاته في منطقة الشرق الأوسط”، كما قال بأن: “جميع رؤساء الجمهورية التركية ووزرائهم والإداريين الكبار فيها هم ماسونيون. ولكي يصلوا إلى المراتب العليا يحصلون أولاً على تصريح من الحركة الصهيونية ومن ثم يصبحون وزراء ورؤساء للوزارة ورؤساء للجمهورية.” إضافةً إلى أنه اتهم مصطفى كمال، مؤسس الجمهورية التركية، الذي يعتبره الأتراك أباً لهم (آتاتورك) بأنه من مبتكرات الماسونية: “إن (آتاتورك العظيم) وصاحب أسطورة النظارات الزرقاء لم يكن سوى ابتداعاً من الصهيونية واليهودية، إنه يرتبط بروابط الدم مع (الدولة العبرية) وهذه حقيقةٌ لا يمكن إنكارها.” (أنظر: مختارات جزء 2 – ص 176-183)، وهذا الموقف لا يختلف كثيراً عن موقف ملالي إيران من تركيا ومصطفى كما آنذاك. إلا أن أهم الأسلحة التي استخدمها حزب العمال الكوردستاني في بداية ثورته، وما قبل اندلاعها، بعد أن تأكد السيد أوجلان من أن سوريا “الأسد” ومن ورائها إيران ملالي الشيعة يحمونه ولن يسلموه لتركيا، كان سلاح “الوحدة الآيديولوجية” للحزب، وهذا يعني تصفية سائر العناصر التي ليست على خط “القائد” سياسياًـ وإن اقتضى الأمر جسدياً أيضاً، وهذا ما تم بالفعل داخل الحزب واعترف به السيد أوجلان وشقيقه فيما بعد أيضاً، وحاولا تبرئة النفس من ذلك، واتهام عناصر قيادية أخرى بتلك الجرائم السياسية، وفي مقدمتهم العضو القيادي العريق في صفوف الحزب وقيادته، السيد جميل بايق، المتشدد والمخلص لرئيسه لدرجة أنه قال له مرةً (أنت الذي خلقتني أيها الرئيس آبو) كما قرأنا وسمعنا عنه.
إن رئيس الحزب كان يؤكّد على سلاح “الوحدة الآيديولوجية”، وأهمية الآيديولوجيا التي يعتمدها، ومن كلامه المشهور في هذا الصدد: “التزمنا دائماً موقف تعميق النظرية ورفع المستوى الآيديولوجي مقابل كل التطورات السياسية المستجدة والتشكيلات الفوقية والتحتية الجديدة. وحققنا الوضوح لدرجة أن لا سبيل أمام الشرفاء والنزيهين سوى اعتماد (الوحدة الآيديولوجية) أساساً لهم…”(المختارات، جزء 2، ص 240)، كما قال أيضاً: “PKK الذي يحسب له الجميع ألف حساب، ليس الممارسة العملية (بالمعنى العام) ولا الكفاح المسلّح وبعض الممارسات العملية الأخرى، وإنما السوية الآيديولوجية الرفيعة المتحققة في يومنا…” (المصدر ذاته، ص 241)
إن قيادة الحزب، اليوم، بعد أكثر من عقدٍ ونيفٍ من الزمن، إذ تؤكد بخطاب السيد قره يلان أنها قد حنطت الحزب آيديولوجياً كالمومياء رغم التغيّرات الجسيمة على صعيد تركيا وسياساتها الإقليمية والدولية، وعلى صعيد القضية الكوردية التي اتخذت أبعاداً دولية، وبخاصة بعد قيام حكومة كوردية منبثقة عن برلمانٍ منتخب في جنوب كوردستان، وكذلك بعد سائر التحولات المعاصرة التي طرأت على النظام العالمي القديم، وكذلك رغم كل التغيرات الطارئة على مفاصل سياسة رئيسها السيد عبد الله أوجلان، لا تزال تنتظر اتفاقاً بينه وبين الحكومة التركية، يفسح لهم المجال للعودة إلى ديارهم، ويضمن لهم ممارسة العمل السياسي مثل أعضاء حزبهم المنخرطين في تنظيمات مدنية تشارك في اللعبة الديموقراطية التركية، وذلك بالتخلي عن سائر المطالب القومية الكبرى للشعب الكوردي كالحرية والاستقلال، وإلغاء التنظيمات العسكرية لهم، وحتى بمجرد منحهم “إدارات ذاتية ديموقراطية” بلا هوية قومية كوردية، بمعنى أن تضحيات الشعب الكوردي الكبرى كلها لن تجلب لهم سوى “حرية القائد” و”إصدار عفوٍ عن مقاتلي الحزب” و”السماح لهم بحياةٍ آمنة” وإدارة ما أسموها مؤخراً ب”المناطق الديموقراطية” (!!!).
إذاً، ما السر الكامن وراء التمسك ب”الوحدة الآيديولوجية” على هذا الشكل الذي ظهر به خطاب السيد قره يلان باسم قيادته، وما سبب الإبقاء على قوات الحزب المقاتلة بعد أكثر من عشر سنوات من السلام الهش في داخل كوردستان العراق (جبل قنديل)، وما الرسالة التي يوجهها السيد قره يلان الذي تحدث في ذكرى تأسيس حركة فارك الكولمبية؟ وهي رسالة محشوة بالألفاظ الأممية واللهجة الثورية؟
أرى أن هناك ثلاث سهام كبيرة أطلقها السيد قره يلان، الا وهي:
السهم الأوّل منطلق صوب القواعد الحزبية غير القانعة بنهج اللاقتال واللاسلام الذي عليه الحزب منذ سنوات، ومن الحياة اليومية الرتيبة التي لم يعد يحدث فيها شيء مثير في الجبال، مما يبعث في الأعضاء السأم والملل والشعور بأن الفشل قد أصاب “المشروع الأوجلاني” برمته، حيث لم يتحقق السلام وليست هناك ظروف دولية مساعدة على شن قتالٍ على غرار قتال الحزب أثناء فترة الحرب الباردة. فمع هذا السهم تنطلق الفكرة الكلاسيكية الداعية إلى رص الصفوف والانتظار وتطير البيت الحزبي من الخارجين على “الوحدة الآيديولوجية”.
السهم الثاني منطلق في اتجاه الرئيس المعتقل ورئيس الحكومة التركية، حيث تقول الرسالة، إما أن يتحقق السلام العاجل وإما نلجأ إلى استخدام السلاح من جديد، رغم أن إمكانات الاستمرار فيه ضعيفة، لأن المحور الإيراني الذي كان يدعمنا من عدة وجوه يسعى لتحسين علاقاته مع دول النيتو ومنها تركيا.
السهم الثالث منطلق نحو سائر الحركات السياسية المتقاربة فكرياً ودعوتها إلى مراعاة ظروف حزب العمال الكوردستاني الحالية، الذي لا يزال وفياً للأممية البروليتارية، والذي لا يزال يؤمن بتحالف القوى الثورية العالمية، والذي قد يعود للقتال من جديد، على الرغم من أن الناسخ لكل مبادئ الحزب ومطالبه الكبرى هو رئيس الحزب ذاته، وإذا ما تبدلت الظروف فإن القيادة على إعادة المنسوخ للحياة، فبقايا هذه الحركات “الثورية” هي كل ما تملكه قيادة الحزب من “أصدقاء” في العالم الواسع.
وفي الحقيقة، لم تحرز قيادة هذا الحزب، في غياب رئيسها، طوال هذه الفترة التاريخية، أي إنجاز قومي للشعب الكوردي، وأي إنجازٍ أممي للحركات الثورية التي ضعف شأنها في شتى أنحاء العالم تحت وطأة المتغيرات الدولية العظيمة، بل لم تحقق اي تقدم يذكر في مجال العلاقات الدولية، ولم تحسّن من صورتها، لا في تركيا ولا في العالم الخارجي، على الرغم من توقفها عن القتال بالسلاح، ولذل يمكن القول بأن هذه القيادة الكلاسيكية تبدو وكأنها تعيش في شرنقة نسجتها بنفسها حول ذاتها، أو أنها دخلت منذ اعتقال رئيسها ومؤسسها الأوّل في دور التحنيط الآيديولوجي الذاتي، وكأنها مومياء ملقاة في جبال شاهقة، لا خير من وجودها، إلا إذا قامت بتغيير جذري وشامل على بنيتها وسياساتها الحالية هذه.
للإطلاع على خطاب السيد مراد قه ره يلان:
Gotina endamê serokatiya PKK, Murat Qereyilan