في العمق الحركي للقضية القومية في غرب كوردستان – 3

جان كورد

 

  ظلت الحركة القومية في زمن الحرب الباردة، أي منذ تأسيس أول حزب كوردي سوري في عام 1957 وإلى انهيار المعسكر الاشتراكي في نهايات القرن الماضي، ذات ميولٍ يسارية صارخة، تسير مع التيار العام للحركة السياسية العربية في المنطقة، حتى أن أشد الناس محافظةً في صفوف الحركة الكوردية كانوا مضطرين لملاءمة الإطار الظرفي الذي وجدت فيه الحركة نفسها، ومثال بسيط على ذلك: ظهرت الأحزاب الكوردية في غرب كوردستان كلها كأحزابٍ معادية لإسرائيل، التي لم تحتل شبراً من كوردستان، والتي لها نفوذ كبير على الصعيد الدولي، إلى جانب حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان يمارس سياسة فاشية ضد الشعب الكوردي، على الرغم من أن فصيله العراقي ارتكب المجازر الرهيبة ضد الشعب الكوردي في جنوب كوردستان،

وطبق فصيله السوري سياسة “استيطان” عنصرية عربية في ظل حكم “حافظ الأسد” ضد الشعب الكوردي في غرب كوردستان، في ذات الوقت الذي كان فصيلا حزب البعث، العراقي والسوري،  يهاجمان إسرائيل على سياستها الاستيطانية حيال الشعب الفلسطيني. ويتهمانها بالعنصرية، بل لم يتجرأ أي حزب كوردي على التصريح بأن سياسة البعث السوري الاستيطانية في الجزيرة ليست إلا تقليداً سيئاً لسياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهي سياسة بناء (أكثر من 42) قرية تم إسكان أهلها العرب المجلوبين من منطقة الغمر على أطراف نهر الفرات في أراضٍ يملكها الكورد عنوةً لتطبيق ما يسمى بأملاك الدولة “الحزام العربي”، بهدف الفصل بين الكورد في سوريا وتركيا والعراق بعمق 15 كم وطول يزيد عن الثلاثمائة كيلو متر، وهي سياسة تطبيقية لأفكار عنصرية تقدم بها ضابط الأمن المجرم محمد طلب هلال (وزير تموين بعثي) بدراسةٍ له عن أحوال الجزيرة ومحافظة الحسكة في فترة سابقة من حكم حزب البعث في سوريا. (أنظر كتابنا: الهلال المعقوف)… وكانت الحركة تبرر موقفها المعادي لإسرائيل بأنها مع حق الشعب الفلسطيني، إلا أنها في الواقع كانت غير قادرة مطلقاً على اتخاذ أي موقف آخر، لا يتفق وسياسات النظام الخارجية، وهناك أمثلة أخرى على أن الحركة القومية الكوردية كانت مضطرة للسير على مساراتٍ لا مصلحةٍ لها فيها، بل أحياناً على العكس من مصالحها القومية وكفاحها التحرري. ومن ذلك عدم قيام أي حزب كوردي سوري -على حد علمي- بإتخاذ موقفٍ صريح ضد سياسة “الاحتلال العسكري” التي مارسها حزب البعث العربي السوري في لبنان، طوال فترة بقاء القوات السورية وممارساتها المعادية للحرية والديموقراطية هناك. وكانت أحزابنا تبرر سكوتها عن إرهاب النظام السوري في لبنان بأن الدول العربية هي التي خولت نظام الأسد في اتفاقية “الطائف” بالدخول عسكرياً إلى لبنان. صحيح، إلا أن الدول العربية لم تقل للأسد وقواته: “لبنان جزء من سوريا فافعلوا فيها ما تشاؤون واغتالوا من تريدون!”
  حافظت الحركة السياسية الكوردية على استقلالها التنظيمي على مستوى الأحزاب، فلم تتمكن أحزاب البعث والشيوعي والإخوان المسلمين من وضع اليد على تنظيمات الأحزاب الكوردية، إلا أن الحركة في عهد الرئيس حافظ الأسد لم تتمكن من بناء منظماتها الديموقراطية كاتحادات العمال والمهنيين والأطباء والمحامين والطلاب والنساء والفنانيين المستقلة عن اتحادات النظام، وتركت الأمور للوطنيين الذين لم تكن لهم القدرة على تنظيم أنفسهم في اتحادات او نقابات، رغم العديد من المحاولات الجادة لبناء المنظمات الديموقراطية الكوردية/ الكوردستانية، وهذه المحاولات الفاشلة دفعت الكثيرين منهم إلى الانتماء للتنظيمات المؤسسة من قبل الحزب الحاكم، حزب البعث العربي الاشتراكي، أي خدمة النظام عوضاً عن خدمة الحركة القومية الكوردية. كرهاً أو طوعاً، وحقيقةً لا حراك شعبي دون وجود المنظمات الديموقراطية التي تشكل في الوقت ذاته قوة ضغط هائلة على سياسات الأحزاب السياسية، والاستقلالية التنظيمية عن أجهزة النظام وأحزابه التابعة تتطلب “الاستقلالية السياسية” التي فقدتها الحركة مع الأسف عبر الاحتكاك اليومي بشباك النظام العنكبوتية من أجهزة استخباراتية وإدارات ومنظمات مختلفة، هدفها جميعاً احتواء المعارضة مهما كانت ضئيلة وصغيرة في البلاد.
  بعد انهيار نظام المعسكر الاشتراكي ازداد النقاش في الشارع الكوردي، وبخاصة بين الشباب والكوادر الحزبية التي لها احتكاك يومي بالشارع عن جدوى ونتائج سياسة الأحزاب الكوردية، في ظل النظام التوتاليتاري للعائلة الأسدية، وعن مستقبلها في “النظام العالمي الجديد”، وعن دور الشباب والنساء في إعادة تأهيل الحركة للقيام بمهامها القومية والوطنية. زعلى أثر هزيمة نظام صدام حسين المحتل في الكويت تحت ضربات قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية قي عام 1991، دون أن تقوم روسيا بأي مقاومة تذكر  في مواجهة زحف هذه القوات، ومن ثم على أثر اسقاط حكم البعث كلياً في العراق في عام 2003 تبين للشباب الكوردي أن عليهم التعاون التام مع الشباب السوري عامةً للعمل معاً من أجل القضاء على حكم البعث والأسد في سوريا، وهذا يستدعي فهم العلاقات الدولية والمعادلات الجديدة الناجمة عن الانتصارات الكبرى التي حققها العالم الحر الديموقراطي على الشيوعية في روسيا وأوروبا الشرقية وفي أمريكا اللاتينية أيضاً، إضافة إلى الانتصار الساحق على نظام صدام حسين، أعتى النظم الدكتاتورية في المنطقة، كما تستدعي المرحلة الجديدة إرغام الحركة القومية الكوردية على انتهاج سياسةٍ أشد جرأةً وحزماً حيال النظام القائم في البلاد وحيال النضال العملي اليومي على الساحة الوطنية المعارضة، وكذلك ضرورة إفساحها المجال الأوسع لقوى الشباب والمرأة للقيام بدورٍ أشد فعالية في صفوف الحركة وفي بناء المنظمات الديموقراطية، والخروج من الإطار القديم الذي بات يشكل قيداً حديدياً يجب التحرر منه، وهذا يعني الاهتمام الفائق بالإفرازات التي أفرزها انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط الدكتاتوريات العاتية في المنطقة، كما جرى في عام 1980 في طهران وفي عام 2003 في بغداد…
  أضطرت الحركة الكوردية على التأقلم ولو رويداً رويداً مع الجديد الناشئ على الصعيد الدولي، فبدأت تغيرّ  في مناهجها وبرامجها واسمائها، ولكنها لم تتمكن من إحداث تغييرات جذرية على هياكلها التنظيمية، مما أدى إلى مزيدٍ من الانشقاقات والتمرد داخل صفوفها، وبدت بعض القيادات وكأنها أجزاءٌ من النظام الشمولي لا يمكن التخلص منها إلا بزوال النظام ذاته… ومنها من كان ولايزال كذلك فعلياً – مع الأسف -، وتحوّل النقاش إلى مشادة جادة بين الشباب والنساء من جهة وبين القيادات المنظمة للأحزاب الكوردية مع اندلاع الانتفاضة الشعبية في سائر المنطقة الكوردية في شمال سوريا في آذار 2004. ولقد أمعن النظام الحاكم في سياسة القمع ضد الشباب الكوردي الثائر الذي كان يتوقع أن يحدث شيء من هذا كحدٍ أدنى من رد الفعل على سياسات النظام العنصرية والدموية:
تدخل ساسي أو عسكري ما من قوى العالم الحر الديموقراطي “النظام العالمي الجديد” لإرغام الأسد على التخلي عن سياسته المعادية للشعب الكوردي.
قيام انتفاضات شعبية أخرى في مختلف المدن السورية الأخرى مؤيدة لانتفاضتهم.
تحرّك كفاحي من نوع جديد للحركة السياسية الكوردية وأحزاب المعارضة السورية، الديموقراطية والوطنية.
إلا أن أياً من هذه التوقعات لم يحدث، وبالتالي فإن النظام استمر في طغيانه وفي إراقة دماء الشباب الكوردي، بل إنه فرض على الأحزاب الكوردية أن تتآلف فيما بينها على أسس يضعها هو، ومنها:
عدم الخروج على السياسة الخارجية للنظام
إقامة العلاقات الكوردستانية (مع الأحزاب الكوردية خارج سوريا) تحت إشراف مخابرات النظام المكلفين للتنسيق في المنطقة الكوردية
رفض أي دعم من العامل الخارجي، عربياً كان أو دولياً. ومحاسبة كل من يشذ على هذه القاعدة بالتحديد.
لا بأس من بناء اتحاد أو تحالف أو مجلس كوردي سوري من قيادات الأحزاب للقيام بتنفيذ تام لهذه النقاط في الشارع الكوردي.
   واستمر الوضع على هذه الحال السيئة إلى حين اندلاع ثورات “الربيع العربي”، حيث وقفت الحركة بالمرصاد لكل من حاول تصعيد الموضوع الكوردي السوري لتصبح قضية هامة على الصعيد الدولي، بل حاولت قيادات بعض الأحزاب التهرب من واقع أن ما حدث في آذار 2004 في المنطقة الكوردية كان “انتفاضة” شعبية. ومنهم من اعتبر حراك شعبنا الذي كان يمكن أن يشعل النار سائر أنحاء البلاد مجرد “فتنة”! ومن الزعامات الباسقة من أعلن صراحةً أن الشأن الكوردي السوري قضية داخليه وأن المحاولات لجعلها قضية دولية أو الاعتماد على العامل الخارجي “خيانة للشعب الكوردي!!!”. هذا ما أغضب الشباب الكوردي والوطنيين المشاركين في الانتفاضة ومعظم المهاجرين الكورد الوطنيين الذين أيدوا الانتفاضة وسعوا باستمرار لفضح سياسات النظام أمام المحافل الدولية والمنظمات المهتمة بالحريات والحقوق المدنية.

  سنتابع هذا إن شاء الله في وقتٍ قريب.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…