سلوكيات غير ثقافية

ابراهيم اليوسف

ثمة خلط كبير، يتم، الآن، في المشهد الثقافي العام، لاسيما في تلك المناطق التي تلوثت بأدران وآثارالفوضى التي عمت، خلال ثلاث السنوات الماضية، بين الثقافي واللاثقافي، إلى درجة الانفلات من كل ضوابط القيم والأخلاق، من قبل بعضهم الذي بات يجد أن الظهور في رداء المثقف بات غير مكلف، لاسيما أنه بالطريقة ذاتها، يمكن نشر ما تتركه أصابع نصف متحرر من أميته، وما ينشره أكبر مبدع في عالمنا، بل ربما يستطيع بعض مثيري الغبار الوصول إلى درجة محاولة النيل من الأثر الذي طالما تركه، ويتركه أصحاب البصمات الراسخة، والمشغولون بأسئلة الثقافة، بل وأسئلة الواقع، والأهلين.
وبدهي، أن مثل هذا الخلط العجيب، المريب، له آثاره الكبيرة، في الحياة الثقافية العامة، إذ بات من شأنها محو تلك الحدود بين الثقافة، والمتسلقات، والطفيليات، على شجرة الثقافة، بعد أن باتت وسط الأجواء غير الصحية، تسجل حضورها، بل باتت تسعى ليس لإخفاء ملامح هذه الشجرة الباسقة، بل حتى لاجتثاثها، من جذورها، مادامت أنها لا تمتلك  من المقومات التي تتوافر في غيرها، إلا مقدرة التلون الحرباوي الذي يصل أعلى مستوياته، في زمن الحرب، بل إن حيادية وسائل ثورة الاتصال، تجاه الأصيل، والزائف، بل تجاه الإبداعي والدعي، والواقعي والملفق، والصادق والافترائي، في آن، مكن هذه الطفرات من أن تصل إلى أطنابها.
 ولعل سبب انتشار مثل هذه الأوبئة الثقافية التي نعاني منها، هو انعدام المقاييس، وزوال المعايير، التي يجب الاحتكام إليها، للتمييز بين المتناقضات الهائلة، ووضع حد للدمار، والتلف، اللذين باتا يصيبان حيواتنا الثقافية، بالترافق مع فضائهما العام، مما نسمع بآذاننا، بل ونشم بأنوفنا، ونبصر بعيوننا، من خراب، وقتل، ومحاولات محو التاريخ، والجغرافيا، كي يكونا على مقاس هذا الأنموذج-العابر- الذي دأبت الشعوب، وعبر سيرورة الزمن، على ظهوره، في الحالات، والظروف، غير الطبيعية، وفي غياب المنطق، والعقل.
إن قارىء اليوم، لاسيما الذي بات يكتفي باستقاء المادة الثقافية من الوسائل التي وفرتها لنا ثورة الاتصالات العارمة، بات أمام كم هائل من المعلومات التي تصله، حيث يستوي السم والدسم، وهو-هنا- بحاجة كبيرة أن يتم التوجه إليه، ومؤازرته، وتعريفه بما هو صالح، وتمييزه عما هو طالح، بل مؤذ. إن مثل هذه المهمة هي من صلب المهمات الكبرى المطلوبة من المثقف المبدئي، الذي يرى أن أي خطاب ثقافي- لا أهمية له البتة- ما لم يكن هناك ذلك المعني به، أو المرسل إليه، وفق  المصطلح الذي تعتمده الدراسات الحديثة التي تعنى بالخطاب، والأطراف التي تدخل في إطار معادلته.

ولا يخفى على أحد، أن هؤلاء الجوف الذين يستهدفون-الثقافة- ويريدون تشويهها، وتزييفها، إنما هم يؤدون دوراً بيدقياً جدّ خطير، مفاده نسف الوشائج التي تربط بين الكلمة، ومن تتوجه إليهم-من جهة- بل لتنسف هاتيك الوشائج الجميلة، بين المشتغلين، بإخلاص، في عالم الكلمة، ونشر ثقافة الفتنة، والريبة، والتنابذ، والتلاغي، وكلها تخدم-في نهاية المطاف- آلة الشر، ولابد من الانتباه إليها، من قبلنا مثقفنا الذي يعيش حالة فضائه العام، كائناً، ومكاناً، كما هي روح رسالته الأسمى…!.

إبراهيم اليوسف

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خضم التحولات العميقة التي تمر بها المنطقة، تبقى سوريا واحدة من أكثر الدول تعقيداً وتشابكاً، ليس فقط لما شهدته من دمار ومعاناة وحروب ، بل أيضاً لما تمثله من عمق استراتيجي وسياسي في قلب المشرق العربي ، ومن هنا، فإن استقرار سوريا لا يُعدّ شأناً سورياً داخلياً فحسب، بل هو مصلحة عربية وإقليمية ، ولكل من…

حوران حم منذ انطلاق الثورة السورية في عام 2011 وما تبعها من انهيار مؤسسات الدولة وبروز قوى الأمر الواقع، أتيحت فرصة نادرة للكرد في سوريا لإعادة طرح قضيتهم الوطنية بصورة جديدة تتجاوز عقوداً من الإنكار والتهميش. غير أن المأساة لا تكمن فقط في عداء النظام والمعارضة لمعظم الحقوق الكردية، بل في أن الرؤية الكردية للحل، رغم الفرصة التاريخية، جاءت مضطربة،…

دلدار بدرخان في قلب سوريا وفي شمالها الغربي تقع منطقة عفرين”كرداغ” التي تعرف اليوم بعفرين، حيث تتشابك الحكايات وتروى الأساطير عن موقف أهلها في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، عندما كانت المنطقة على مفترق طرق بين القوى الكبرى، وفي مرحلة حرجة من تاريخ سوريا الحديث لم تكن كرداغ مجرد جزء جغرافي من سوريا، بل كانت مركزاً ينبض بالروح الوطنية…

صلاح بدرالدين من المعلوم انتهى بي المطاف في العاصمة اللبنانية بيروت منذ عام ١٩٧١ ( وكنت قبل ذلك زرتها ( بطرق مختلفة قانونية وغير قانو نية ) لمرات عدة في مهام تنظيمية وسياسية ) وذلك كخيار اضطراري لسببين الأول ملاحقات وقمع نظام حافظ الأسد الدكتاتوري من جهة ، وإمكانية استمرار نضالنا في بلد مجاور لبلادنا وببيئة ديموقراطية مؤاتية ، واحتضان…