برزت الحقيقة البشعة وبشكل فاضح بعد مؤتمر جنيف-2، وزال الخمار عن وجوه الأصدقاء قبل الأعداء، وتبين القبح، وبشعت، يوم صرح باراك أوباما بأنه سيبحث في خطط جديدة لحل القضية السورية، مبيناً إعلامياً أنه لا يملك مفاتيح الحل، وأن روسيا هي الآمرة والناهية في معظمه، أصبحت إدارة أوباما عارية في العراء بعد هذا التصريح بالنسبة للذين يقيسون الأبعاد السياسية، وظهرت نوعية مساندتها للمعارضة أو للمقبرة السورية، وحقيقة إصرارها على زوال أو بقاء الأسد وباتفاق روسي، والغاية في كل هذا التماطل بل النفاق الدبلوماسي، هي الإتيان على منظمات جمعت على أنقاض سوريا وحوصرت في جغرافيتها، و فوق قبور أطفال الشعب السوري، فالمساومة بين الدولتين تجري على زوال السلطة والمنظمات الجهادية معاً، ومادامت داعش والنصرة موجودتين في سوريا ( كنموذج عن المنظمات الجهادية المتواجدة على الأراضي السورية اخترت داعش والنصرة) فالسلطة بمجرميها ستبقى قائمة ضمن تلك الجغرافية.
لم تكن ظهور المنظمتين التكفيريتين اعتباطيا، جلبوهم إلى سوريا بكل الطرق، كما وأن مساندة السلطة لهما كان مخططاً ضمن سوريا خلال السنتين الماضيتين وكانت تحت مراقبة الدولتين، والتغاضي عن توسعهما وسيطرتهما وشذوذهما كان مدروساً بدقة مع السلطة السورية، مثلما كانت مدروسة من قبل السلطة تحويل الشخصيات الوطنية ضمن المعارضة خلال هذه الفترة إلى متشددين جهاديين وعنصريين في المذهب والقومية. جمعت معا كل هذه الأبعاد إلى أن حانت الفترة المناسبة لتوجيه فوهة بندقية قسم من المعارضة المسلحة وعلى رأسهم الجيش الحر إلى داعش ربيبة السلطة السورية وأئمة ولاية الفقيه وغداً ستكون النصرة على المحك فهما من ضمن المنظمات التي فضحت دورهما في الفساد والتدمير لثقافة المجتمع وللثورة السورية.
أمريكا وروسيا ومعهم الدول المعنية بالأمر أرادوا إيجاد جغرافية ملائمة لجعلها مقبرة لهاتين المنظمتين الإرهابيتين المتطرفتين، فظهرت أرض سوريا بعد اندلاع الثورة، وحيث ملائمة نوعية السلطة الشمولية التي لم تنتمي يوما إلى هذا الوطن إلا من باب النفاق والتلفيق والسيطرة، ولم تكن ترى الشعب السوري سوى رعاع لخدمة الطاغية. كانت الثورة الشبابية الانطلاقة الجريئة للحد من هذه المخططات، لكنهم كانوا أضعف من المحاط بهم من الأشرار، فتكالب عليها الانتهازيون من كل الأطراف، ونهشها الدول المذكورة، ووجهت الثورة إلى حيث المخطط له، وتلاءمت ورغبات السلطة الشمولية للقضاء عليها، ولم تأبه بأن تجعل من سوريا مقبرة جماعية للشعب، قبل أن تجعلها الدول المخططة مقبرة للتكفيريين، ومعهم أو بعدهم وليس قبلهم مقبرة للسلطة الأسدية، إنها جدلية تفرض ذاتها ولا قدرة لكل المعنيين بإيقافها حتى ولو كانوا يملكون بعض السيطرة على تمديد الفترة الزمنية، ولا شك أن أمريكا وروسيا والدول المعنية كانوا يدركون نتيجة جنيف-2 وهم الذين يدرسون تفاصيل مسيرة هذا الصراع في سوريا، وعرفوا كيف ستخرج الوفود المفروضة عليها بالحضور مع سلطة غارقة في مستنقع المجازر من قاعات جنيف-2، وعليه كان غياب مشاركة الدول الكبرى في الجلسات، مع خلل واضح في دعم أطراف المعارضة على الأرض السورية أثناء المحادثات.
جماعة أوباما من الليبراليين ضمن الحزب الديمقراطي الأمريكي يقترحون رحيل الأسد لكنهم لم يقرروا متى وكيف ولا يؤكدون عليه، على الأقل في الإعلام، وسكتوا عنه أثناء المحادثات وأكتفوا بإثارة قضية الأسلحة الكيميائية في الإعلام، وإن كانت معروفة ومدروسة بينهم وبين روسيا والبعض الآخر المرحلة واللحظة التي يجب ترحيل الأسد وسلطته، والذين يقتنعون بما يظهر للعالم من خلال الإعلام على أن إدارة أوباما تتقاعس، لا يدركون حقيقة السياسة الخارجية لهذا الجناح، ولا يعلمون أن التردد والتساهل في الأمور وتركها لدور المسيطر المطلق تقع ضمن استراتيجية ونهج هذه الشريحة من الحزب الحاكم، وهي تتفاقم في هذه المرحلة تحت ضغوطات الظروف الاقتصادية العالمية والأمريكية بشكل خاص، وأهمها عجز ميزانيتها مقابل الديون المتراكمة التي تجاوزت الدخل الوطني العام والبالغة أكثر من 16 تريليون دولار، فترك أمور سوريا إعلاميا ومنها عملية جنيف -2 بكليتها وما بعدها بيد روسيا، من ضمن مخطط هذه الشريحة الليبرالية، التي لا تأبه بمصير الشعوب بقدر ما يهمها الداخل الأمريكي، وعليه درجت جنيف -2 كخططة ضمن معظم خطط سياستها الخارجية للتركيز على الداخل الأمريكي أولا، ولتمرير الوقت للاتفاق على قضايا الشرق الأوسط بشكل عام.
لهذا ستستمر السلطة السورية وإيران وبمساعدة روسيا في دعم المنظمتين الإرهابيتين داعش والنصرة إلى أطول فترة ممكنة، وستظهر خطط جديدة مثل تشكيل وفد الجامعة العربية ووفد هيئة الأمم وجنيف-2 لكن بألبسة مغايرة ونفاق أبشع، ودعاية إعلامية وحراك دبلوماسي أوسع، وعلى مدار الفترة القادمة ستبقى في الظاهر مفتاح الحل بيد روسيا، لتبرير إجرام السلطة واستمراريتها، كما وستتولى السلطة وبمساندة إيران وحزب الله وغيرهما وبمساندة السلاح الروسي تدمير الوطن وتهجير الأمة، إلى أن تقتنع الدول المعنية بأن خطر هؤلاء التكفيريين شبه عدم، بعدها سيصدر قرار مصير الأسد والسلطة الحاكمة، الذي رفض النقاش عليه في قاعات جنيف-2 من قبل وفد السلطة والخارجية الروسية بشكل مطلق، والإدارتين الروسية والأمريكية بل وجميع الأطراف المعنية كانوا يعلمون ما هي المقترحات والنقاط التي ستعرض من قبل الوفدين والنتيجة بمطلقها.
وللأسف، على أنقاض الوطن، ومن على مقبرة الشعب السوري، وتحت خيمة كل هذا النفاق، وآخرها خيمة جنيف-2، وبمساندة مباشرة وغير مباشرة من كل الأطراف، العدوة والصديقة، تمكنت السلطة الأسدية من تشويه الثورة السورية وتحريفها، وتمكنت من التغطية على حقيقة الصراع الدائر بينها وبين الشعب، وإبرازه كصراع مع الإرهابيين، أو بين الطائفتين العلوية والسنية، والتي ساندتها في هذا وليدتها من المنظمات التكفيرية، إلى أن أصبحت هذه حقيقة لم يعد يتجرأ أحد إنكارها. فلم يفرض أحد من الأطراف على السلطة في قبول تشكيل الحكومة المؤقتة، ولم يطلب أحد من الطاغية ترك السلطة، وهكذا كانت هذه اللعبة مدروسة، ولم تأتي جنيف -2 إلا بزيادة البراميل المدمرة للوطن، وتهجير الأمة بشكل أبشع. فقط الذين يدركون حقيقة الاستعمار الذي كانت تعيشه سوريا الماضية والبنية التي انطلقت منها الثورة الشبابية في بداياتها، كانوا يعلنون أن جنيف-2 مخطط فاشل وجدت لتمرير الوقت مثلها مثل غيرها من المؤتمرات والوفود.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية