الدولة الكوردية (2-2)

جان كورد

 لا ينكر أنه عبر تاريخنا الحديث، منذ أن ظهرت حركة (كاژيك) المطالبة بتحرير الكورد وتوحيد كوردستان، في أوسط القرن الماضي، قد ظهر أيضاً مع الأيام عدد من الأحزاب والمنظمات التي طالبت جهاراً وبوضوحٍ تام بتحرير الأمة الكوردية، وباستقلال كوردستان وبناء الدولة الكوردية و بوحدة الأرض الكوردية، وكما ظهر عدد لابأس به من المثقفين والشعراء والفنانين وبعض رجال الدين والسياسيين الذين كافحوا من أجل تحقيق الهدف القومي الأسمى لأمتهم المضطهدة المجزأة، إلا أن كل تلك القوى والشخصيات ظلت مبعثرة مشتتة، أو محلية وضعيفة، أو أنها نشأت ونمت لقترةٍ من فترات الكفاح الوطني التحرري، قريبةً من القلوب ولكن خارج الحقول الكوردية، وبعيداً عن أرض الواقع، في المهاجر البعيدة،
 ولم تملك منفردةً أو مجتمعةً أسباب القوة التي تمكنها من اقتحام الساحة الوطنية لأسباب عديدة لامجال لحصرها هنا، كما أنها لم تقدر على التفاعل والتوحد فيما بينها لتصبح تياراً كوردستانياً قوياً وفعالاً، ومن شخصيات هذه المجموعات “الكوردستانية” من استغل حب الكورد للحرية والاستقلال من أجل بناء مجده الشخصي مع الأسف…

ونرى أن أحزابنا الكثيرة وقياداتها المختلفة قد تخلت بشكل منهجي وكامل عن مشروع وحق شعبنا في إقامة “الدولة الكوردية”، وهذا ما تسبب في خمود الفكرة بين جماهير الشعب أيضاً، إذ نجد سكوتاً تاماً في الشارع الكوردي حيال سياسة التخلي عن الأهم في حياتها السياسية، حيث رأينا كيف حافظ حزب العمال الكوردستاني PKK على كثيرٍ من جماهيره وأنصاره على الرغم من تخليه الصارخ عن معظم برنامجه القومي، كما رأينا لا مبالاة شعبنا وعدم اكتراثه بسياسات قياداتنا في جنوب كوردستان بصدد “العيش المشترك!” ضمن حدود العراق، على الرغم من أن هذه الجماهير  كانت قد خولت قياداته في استفتاء شعبي قبل سنواتٍ قلائل بالكفاح من أجل “دولة كوردية مستقلة”، كما رأينا كيف اختزل حزب الاتحاد الديموقراطي PYD القضية الكوردية والحقوق القومية لشعبنا ب”إدارة ذاتية ديموقراطية” مؤقتة و(لا) قومية، ومع ذلك فلا يزال يحافظ على جماهيره وأنصاره، بل منهم من هو مستعد للتخلي حتى عن هذه الإدارة البسيطة طالما حزبه أو زعيم حزبه يرى ذلك جيداً وصحيحاً، في الوقت الذي أصبحت “الفيدرالية” مطلباً للعديد من الأحزاب القومية الكوردية في غرب كوردستان.
هذا التخلي عن فكرة “الدولة الكوردية” وعدم احتجاج شعبنا على ذلك، خدما مخططات الدول التي تقتسم أرض كوردستان وتحتله عسكرياً وتنهب ثرواته وتخضع بالقوة شعبنا وتعمل على محو هويته القومية وإذابته في القوميات السائدة (العربية والفارسية والتركية) قدر المستطاع.
ولا يمكن لأي دولةٍ أو منظمةٍ أو شعبٍ في العالم الدفاع عن حق الكورد في أن تكون لهم دولة مستقلة، ما لم يكن هناك كورد مطالبون بحقهم في الاستقلال وتكوين دولة لهم. وكم من المرات التقينا بأناسٍ من شتى أنحاء العالم، يتحسرون لبقاء الكورد حتى في القرن الحادي والعشرين بدون دولة، على الرغم من أن هناك جزر صغيرة ومحدودة المساحة والسكان صارت مستقلة، ولكنهم يسألون :”- لماذا أنتم متخاصمون طوال الوقت في هذه المسألة وفي المسائل الأدنى شأناً أيضاً؟” بمعنى أنهم يربطون ربطاً وثيقاً بين عدم وجود دولة كوردية وبين الخصام الداخلي لحركة التحرر القومي الكوردية، ولايربطون الأمر باتفاق الدول المغتصبة على التصدي للكورد أو بتفوقهم العسكري، حتى أن كاتباً كبيراً (جوناثان راندال) قد وضع عنوان “أمة في شقاق” لكتابه عن الكورد وكوردستان.
من المزاعم التي يمكن تفنيدها بسهولة هو أن الكورد سيبقون بدون دولة حتى يوم القيامة، وهذا زعم باطل لم ينطق به نبي أو عالم صادق الإيمان، وإنما نتاج عقلٍ عنصري حاقد، تفتق به على العالمين كذباً وإحباطاً للهمم وتقطيعاً للآمال بين عامة الشعب الكوردي.
لا ينكر أن ثمة مشاكل وعوائق وعراقيل عديدة وكبيرة على طريق الكفاح من أجل وحدة الأمة الكوردية وحريتها، ولكن لكل داءٍ دواء ولكل مشكلة حل، إذا ما سعى المرء للتداوي ولإيجاد الحلول…
ومن أجل البدء بالعمل في هذا السبيل، يجب الانطلاق أولاً من نقطة هامة هي أننا نحن الكورد “شعب واحد” وليس عدة شعوب كما حاول بعض السياسيين تجزئتنا عن بعضنا، فإذا لم نؤمن بأننا شعب واحد، فلا حاجة أصلاً للتفكير في مشروع “الدولة الكوردية” أو الحديث عنها.
السيد تيودور هيرتزيل الذي ذكرناه في القسم الأول من هذا المقال وضع هذه النقطة كأهم أساسٍ لجمع المجموعات والجاليات اليهودية المتناثرة في الشتات حولها، وجعلها من أولويات العمل السياسي، في حين أن  غالبية الشعب الكوردي رغم حملات التهجير المتتالية عبر القرون في اتجاهات مختلفة، كالكورد في جمهوريات السوفييت (آذربايجان، أرمينيا، جورجيا، كازاخستان وقيرغيزيا) وكذلك في الباكستان وأفغانستان، وفي شرق إيران (خراسان)، وفي غرب تركيا على أطراف أنقره و قونيا وبوردور، وفي العمق السوري، كما في محافظات دمشق وحماه وادلب واللاذقية، وتكرار  اسم (صوران) الذي هو اسم منطقة في جنوب كوردستان، في عدة مناطق من سوريا دليل واضح على مدى تهجير الكورد وتعريبهم عبر القرون الماضية، لاتزال تقطن في كوردستان، وليس كاليهود الذين كانوا مشتتين في المهاجر  قبل تأسيس الدولة العبرية.
إن تعلق المجاميع الكوردية المهجرة بالوطن الأم كوردستان لا يقل مليماً واحداً عن حب الذين يقاتلون بالسلاح في سبيلها، حتى أن أمير الكورد في الباكستان البعيدة قد أبدى في مقابلة له مع مجلة “كوردستان المجاهدة” بأنه مستعد للمجيء إلى كوردستان مع كل عشائره ال(14) للقتال من أجل الحرية فيما إذا طلب زعماء الكورد في الوطن ذلك،
يحتاج السياسي الكوردستاني بنفسه إلى تعبئة معنوية ذاتية بأن قضيته الأساسية هي “تحرير الكورد وتوحيد كوردستان” وليس إلى الحشد الإعلامي لإقناع الكورد في الشتات بالعودة إلى وطنهم، بل اعتبار كل الكورد في الأجزاء المختلفة وفي المهاجر أبناء وبنات شعب واحد، لهم الحقوق والواجبات المتساوية في أي مكانٍ كان من كوردستان، لا أن يعاملوا كأجانب بحاجة إلى اكتساب حق الإقامة كسواهم من أبناء وبنات القوميات الأخرى. وما يجري حالياً بحق الكورد من خارج إقليم جنوب كوردستان القادمين إليه للعمل أو الإقامة هناك يوحي بأننا لا نزال ننظر إلى بعضنا بعضاً من غير إيمان راسخ بأن “الكورد شعب واحد” فعلاً.
علم السيد تيودور هيرتزل أيضاً أن شعبه بحاجة ماسة إلى اقناع الدول والحكومات والمنظمات الدولية بضرورة قبول تأسيس “الدولة اليهودية”، ولذلك فإن العمل من أجل هذه النقطة الثانية الهامة في برنامجه، صار الشغل الشاغل للمؤسسات والمنظمات والشخصيات اليهودية على صعيد العالم كله، وبخاصة في أوروبا وأمريكا، ولم يهملوا السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أيضاً، بل سعوا إلى وضع ذهبهم تحت تصرفه مقابل السكوت عن تأسيس إسرائيل، فرفض ذلك وأجابهم بأنه لن يتخلى عن حقٍ عائدٍ للمسلمين حتى مماته، وكانت النتائج بعد موقفه ذاك كارثية بالنسبة إلى دولة الخلافة. أما الكورد فإنهم يكادون يقسمون اليمين في لقاءاتهم ونقاشاتهم مع العالم الخارجي بأنهم ضد فكرة “استقلال كوردستان” و “توحيد الكورد”، وحتى اليوم لا نجد وثيقة واحدة موجهة إلى منظمة دولية من زعيم أي حزبٍ كوردي “واقعي!” منذ زمن الشيخ الثائر محمود الحفيد البرزنجي، يطالب فيها بدعم جهوده من أجل قيام “دولة كوردية”، ولكن لا ننكر أن ثمة مذكرات بهذا الصدد من لدن من ليس بلاعبٍ أساسي في الشأن الكوردي وليست له جماهير أو أنصار مقاتلون على الساحة الكوردية وهو بنفسه يعيش في المهجر منذ عقودٍ من الزمن… 
إن الموضوع شائك وكبير وخطير أيضاً، والمصاعب أمام تحويل الفكرة إلى واقع نضالي سياسي يومي يحتاج إلى اتفاق أدنى من قبل الشخصيات والمنظمات والأحزاب الكوردية على أن هناك قضية مركزية كوردية وليست قضايا كوردية، كما يحتاج إلى تضافر الجهود للإعلان عن الهدف القومي الكوردي بصراحة ودون حياء في وثيقة قومية كوردستانية، وليس الاستمرار  في التبريرات الكاذبة والزعم بأننا لا نريد العيش كقوم واحد معاً وأن نتصرف وكأن نضالات هذه الأمة المغلوبة على أمرها نضالات أمم متفرقة وبعيدة عن بعضها كجزر في عرض المحيطات الواسعة.

ولذا فإن مؤتمراً قومياً جديراً بحمل هذه الأمانة التاريخية الكبيرة مطلوب اليوم، وليس مؤتمراً لترسيخ أو تكريس الزعامات وتحديد نسب السيطرة الحزبية لهذه الجماعة أو تلك… كما هو حالنا حتى اليوم… 
 انتهى.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…