مصير مناطق غربي كوردستان بعد محطة تل كوجر

  د.

آزاد
أحمد علي

 انجزت المانيا في عام 1912 بالتعاون مع الدولة العثمانية خط قطار الشرق السريع، لربط استانبول مع بغداد، وبالتالي اوربا مع الهند.

كان انجاز الخط ترجمة سياسية لتحالف تركيا مع المانيا، وكتعبير على طموحات المانيا للتمدد نحو قلب الشرق الأدنى.

هذا وقد شكلت الرغبة البريطانية – الفرنسية لاحقا للمشاركة في استثمار والتحكم بهذا الطريق الاستراتيجي أحد أسباب قيام الحرب العالمية الأولى.

الخط القائم مازال يربط  نظريا حلب مع الموصل فبغداد، عبر محطة تل كوجر، لكن حركة القطارات عليه كانت تتوقف أو تزداد حسب المؤشرات السياسية والأمنية وسوية العلاقات بين الدول الثلاث: تركيا، سورية، العراق، عموما وكمؤشر فيزيائي لدرجة حرارة العلاقات الحكومية العراقية – السورية على وجه الخصوص.
 فقد اغلقت هذه البوابة تماما لمدة تقارب العشرين سنة ابان حكم البعث في كل من سورية والعراق، حتى كادت البلدة ان تندثر.

ما هو مثير للانتباه ان هذه البلدة الصغيرة التي تأسست حول محطة على خط قطار الشرق السريع، تتصف بحساسية سياسية عالية، وتعود لتحتل واجهة الأحداث الأمنية والعسكرية في منعطفات حادة من تاريخ المنطقة السياسي.

لقد كانت سهولها الخصبة اصلا مراعي لماشية القبائل الكوردية الرحل (كوجر) طوال قرون عديدة، حتى استقرت فيها بطون من قبيلة شمر البدوية العربية ابان الحرب العالمية الثانية،  خاصة في عامي(1941-42)، وذلك بتشجيع من السلطتين البريطانية والفرنسية، ولتحقيق توازنات  ديمغرافية وتمرير أجندات سياسية على الأرض.

لذلك تم ازاحة سكانها الكورد الكوجر حوالي عشرة كيلو مترات شمالا.

 انتعشت المحطة – البوابة اقتصاديا، وأصبحت أحد أهم النقاط  الحدودية الآمنة بين سورية والعراق.

وارتقت اداريا، لتلعب دور سياسي جديد.

تحقق ذلك أيضا بدعم من سلطات دمشق التي ترجمت دعمها وتوجهها السياسي بنقل المركز الاداري للناحية من قرية (ديرون آغا) الحدودية اليها، بهدف السيطرة على الريف الكردي الشمالي وربطه مع هذه البلدة، المتشكلة حول محطة القطار.

حتى جاء حكم البعث فقام بتعريب اسم المحطة – البلدة الى (اليعربية)،
 الغاية من هذا السرد الوجيز هو التذكير بان هذه البلدة التي لايتجاوز عدد سكانها سبعة آلاف نسمة، كانت ومازالت تتسم بسمات جيوسياسية رمزية، منذ تأسيسها مطلع القرن الماضي وحتى الانتفاضة السورية الراهنة.

ففي أواسط عام 2012 وبعد الإنسحاب الجزئي لقوات النظام من المناطق الكردية، سيطرت مجموعات اسلامية مسلحة على هذه البلدة، فاغلق النظام احدى عينيه على وجودها حتى اواخر اوكتوبر 2013.

وبهذا  تكون قد سيطرت “كتائب المعارضة السورية المسلحة” عليها لمدة تقارب السنة، دون ان تبذل قوات النظام المتوجداة في مدينتي القامشلي والحسكة، أي حركة جدية لمنعها أو لإخراجها.

فقد كان وجدوها اشكاليا في الأساس، ويثير أكثر من تساؤل، لأنه من الصعب استقرار قوات المعارضة أيا كانت قدراتها فيها لمدة طويلة، بدون ظهير وحماية جوية.
  عمليا تبقى تل كوجر ثان أهم معبر حدودي رسمي بين سورية والعراق، وتتصف البلدة بقيمة استراتيجية مضافة تزداد اليوم بالتوازي مع ارتسام مسار التسوية السياسية المرتقبة للمسألة السورية.

لذلك لم يكن مستغربا ان المعارك الدائرة فيها أواخر شهر اكتوبر 2013  قد نالت اهتماما غير مسبوق من جهات استراتيجية واعلامية.

ففي الوقت التي أكدت قوات الحماية الشعبية التابعة لحزب P.Y.D سيطرتها على المعبر والمنطقة الحرة ومعظم أطراف البلدة، لم تتمكن قوات المعارضة السورية المسلحة الاحتفاظ بها، وبالتالي ضمت ادارة هذه البلدة الى المناطق الكردية المجاورة.
 ما هو مثير للاهتمام ايضا ان منطقة تل  كوجر ومحيطها القريب لم تكن ضمن أجندات الحركة الكردية السورية، حيث انها منطقة قد عربت منذ سنوات عديدة وتسكنها غالبية عربية (قبيلة شمر ذات العلاقات الطيبة مع جيرانهم الكورد، وينتمي اليها رئيس الائتلاف السوري الحالي أحمد الجربا)، وهي تقع وسط محيط ريفي كردي من جهات الشمال والشرق والجنوب، وبالتالي ليس لتوجه قوات Y.P.G  اليها في هذه المرحلة سوى معنى سياسي ذو بعد اقليمي، ولا يمكن أن يفهم إلا في سياق ترتيب الوضع العسكري والجيوسياسي على الحدود السورية العراقية، ومع اقليم كوردستان العراق، بما يتوافق ويخدم اجندات المرحلة السياسية القادمة.

بمعنى انه قد تم ترتيب الوضع عسكريا على الأرض كي يخدم مشروع التسوية السياسية المرتقبة للمسألة السورية.

وفي جانب آخر أكثر حساسية، يمكن للاحتفاظ بتل كوجر ان تؤمن لوجستيا حركة مرور وتواصل جغرافي بين قوات  Y.P.G والقوات العراقية التابعة لحكومة المالكي، وبالتالي تأمين طريق جغرافي آمن بين ايران والنظام السوري عبر معبر تل كوجر ومطار قامشلي الدولي كتحصيل حاصل.

اذا كتب لهذه الواقع العسكري الجديد الاستقرار والثبات، فيمكن لخط سكة قطار الشرق السريع ان يعمل من جديد، ولكن وعلى الأرجح  ليس لنقل البضائع وانما سياسيا فقط، حيث سينطلق في الحالة هذه من طهران باتجاه بغداد، فالى اوربا مطلع عام 2014… وتزداد فرص تحقق هذا التصور حسب درجة نجاح زيارة مالكي الأخيرة  في 1/11 الى واشنطن، وبناء على تفهم الادارة الأمريكية لإتجاه السير الجديد لقطار الشرق.
   مهما يكن فبعد  سيطرة  Y.P.G على معبر تل كوجر الحدودي بدأت ملامح مشروع سياسي كردي جديد يتشكل، فهذا المشروع بات يحدد احداثيات حزب P.Y.D وقواته العسكرية بدقة ووضوح أكثر على الساحة السورية والاقليمية، ولم يعد انخراطه في خدمة محور طهران – دمشق تكهنا، ولا قراءة نظرية، وانما انخراط عياني صريح ولوجستي.
    في الختام نقول لأصدقائنا في قيادات حزب P.Y.D ان الانغماس في خدمة هذا المحور الاقليمي، ستكلف شعبنا العديد من الضحايا والخسائر العسكرية، كما ان الاصرار على السير فيه سيولد شرخا كبيرا في البيت الكوردستاني سياسيا واجتماعيا، بل نؤكد على انه كلما إنغنس P.Y.D في علاقته وإنخرط في هذا المحور، فانه يبتعد بالقدر نفسه عن جوهر القضية الكوردية، وان اصرار هذا الحزب في موقفه يشكل ضربة للمشروع التحرري القومي الكردي في الصميم، ويجازف بمستقبل المناطق الكردية.

وعلى هذا الحزب الذي يضحي كثيرا، ان يتوقف عن سياسته التكتيكية المستمرة، فليس من مهام الكورد القيام بعملية اسعاف للنظام في شمال شرق سورية، ولا ان يمهدوا الطريق لعودة ادارته واعادة انتشار قواته، كما ليس من أهداف القوى الكوردستانية أن تكون حلقة الوصل الجغرافي بين طهران وبغداد ودمشق، على حساب الاستقلالية والخصوصية الكوردية التي رفع شعارها حزب P.Y.D قبل غيره منذ بدء الانتفاضة السورية.

ان محطة تل كوجر تبدو اليوم على رغم من صغرها أحد أهم المحطات السياسية وأخطرها في مسار التسوية السورية، وربما تكون اهم محطة لنقل ركاب غير مرغوب بهم الى جنيف انطلاقا من المشرق.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، من جديد، وعلى نحو متفاقم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، انطلاقاً من أصداء قضايا محقة وملحة، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…