حركة (عائشة كولكان) و ليلة من المُعاناة الشخصية

حسين جلبي

كالغريق الذي يتمسك بقشة، تلقفت صورة السيدة عائشة كالكان، رئيسة بلدية نصيبين التركية و عضو حزب السلام و الديمقراطية الجناح السياسي لحزب العُمال الكُردستاني، و هي جالسة قُبالة الحدود السورية ـ التركية تعلن أضرابها عن الطعام أحتجاجاً على بناء جدار تركي عازل بين المناطق الكُردية في البلدين، ذلك أنهُ من النادر أن يشهد المرء هكذا موقف قومي كبير من الأخوة الكُرد في تركيا.

و هكذا كتبتُ منشوراً حييتُ فيه السيدة كوكان قُلت فيه مُخاطباً أياها بأن (أمثالكِ سيدتي، و هم جدُ قلائل، بلسمٌ يُشفي الكثير من جراحاتنا العميقة العميقة التي تسببت بها الأكثرية المُقيمة في الجهة التي أدرتِ ظهركِ لها..)، و قلتُ أيضاً بأن (نظرات عينينكِ يا أُختاه، و أن لم تنجح في منع مشروع الفصل العنصري، لكنها ستخترق كل الجدران لتنقل إلى قلوبنا رسالة الأخوة و المحبة التي تنشدينها، فشكراً لكِ من القلب).
لكن السيدة (كالكان) لم تترك خلف ظهرها تسونامي من الصمت الكُردي على ما يجري في الجهة الكُردية السورية من الحدود فحسب، بل أنها هي نفسها، لم تكتفي بأن تكون جُزءاً من هذا الصمت، بل لعبت دور البطولة في خرقه، ليس بشكلٍ إيجابي، بل بشكلٍ جعل المرء يتمنى أن تكتفي مثل كُتلتها بالسكوت عما يجري أمامها، فقد أساءت أستعمال سُلطاتها كرئيسة لبلدية نصيبين و تجاوزتها للقيام بعمل غير أنساني عندما منعت سيارة أسعاف تابعة للبلدية من نقل جُثمان شهيد عامودا (برزاني قرنو) إلى مسقط رأسه حيثُ كان من المفترض أن يُدفن أيضاً، و هو أحد الشهداء الستة الذي سقطوا برصاص حزبها في مجزرة عامودا الشهيرة، حيثُ كان قد جرى أسعافهُ عندما أُصيب وقتذاك بالجراح ليلفظ أنفاسه الأخيرة على الأراضي التركية، و نُقل عن عائشة وقتها قولها و هي تأمر بإيقاف السيارة التي تحمل جثمان الشهيد الذي وصفتهُ بالأرهابي و الخائن، بأن عليهم أنزال الجثمان، و بأن على من أحضرهُ لأسعافه أن ينقلهُ بالطريقة ذاتها.

و لم يكن ذلك العمل الوحيد الذي قامت به كالكان، فقد سبق لها و أن منعت قافلة مُساعدات أنسانية أعدها رجال أعمال و محسنون من دخول المناطق الكُردية السورية من نُصيبين بسبب أصرارها على أن تكون القافلة بأمرة حزبها و لصالحه و بالطريقة التي يشاء، و هو ما جوبه برفض أصحاب القافلة لشروطها مما حدا بهم إلى توجيه قافلتهم إلى أقليم كُردستان و أدخالها من هُناك، و ثمة معلومة شخصية عن قيام هذه السيدة الكُردية بالتفريق حتى بين الموتى الكُرد الذين يتوفاهم الله، فقد سبق لها و أن وضعت سيارة أسعاف في خدمة أحد الذين توفوا في أحدى البلدان الأوربية فتم أدخال جثمانهُ عبر معبر نُصيبين لمجرد أنتمائهً إلى حزبها، في حين يُعاني الكثير من الكُرد الذين يعيشون في الغُربة من أرسال جثامين أبنائهم لدفنها في مساقط رؤوسهم، إذ يتم أدخالها بطريقة التهريب عبر الحدود التركية السورية أو عبر معبر تل أبيض.

و هكذا جاءت ردود الأفعال على أكباري لعمل السيدة كولكان الأحتجاجي ضد ما تُسميه الجدار التركي، مما دفعني إلى التساؤل فيما إذا كانت تستحق حقاً أن نُحييها و نشد من أزرها رغم تعاملها اللأنساني مع جثمان أحد شهدائنا و مع أهلنا و تفرقتها في التعامل بيننا لأسباب شخصية و آيديولوجية، تساءلتُ فيما إذا كان يُمكن أن يغفر لها ما تقوم به اليوم ماضيها الذي أصبحنا على أطلاع على بعض ملامحه، و بالتالي فيما إذا كان ينبغي علينا نسيان الماضي، أم أن التعامل مع شهيد بتلك الفظاظة، و كان يمكن لها أن في الواقع أن تقوم بغير ذلك، لن يغفره كل ما ستقوم به من إنجازات حتى لو كانت من مستوى إيقاف مشروع الجدار؟

كتبتُ لأحد الأصدقاء الذي تواصل معي لمناقشة الموضوع مُبرراً موقفي بالقول بأن (الهجمة كبيرة و واسعة و متشعبة، و نحنُ الذين نتصدى لها قلائل كما تعلم، لذلك نسهو أحياناً فتحصل بعض الأختراقات، ألا أن الناس تساعدنا و تغفر لنا هفواتنا لأنها تعرف جوهرنا جيداً، و تدرك بأن لا أجندات شخصية وراء الموضوع).

و هنا فأنني أعتذر من شهدائنا و خاصةً في عامودا على أنني أحسنت الظن بحركة عائشة كالكان، و قد سببت لي هفوتي تلك مُعاناة شخصية لبعض الوقت، و أقول للسيدة المذكورة: مهما فعلتِ يا سيدتي، لو لم توقفي مشروع الجدار فحسب بل أزلتِ الحدود كلها من أقصاها إلى أقصاها، و لو لم تتولي رئاسة بلدية كُردية بل رئاسة دولة كُردستان نفسها، فإن ما أرتكبتيه ذات يوم بحق شهدائنا و أهلنا، بسبب من أنانيتكِ المُفرطة و كُرمى لمصالحكِ الشخصية و لمصالح حزبك و أنتصاراً لآيديولوجيتك، فان كل ذلك لن يغفر لك، لأنك كُنتِ تستطيعين في تلك المواقف التصرف بأحسن مما قُمتٍ به أو البقاء على الحياد على الأقل، و أن ما زرعتيه أنتِ و حزبك من جدران نفسية بيننا لا يُشكل ما سيبنيه الأتراك بالنسبة إليه شيئاً، و لا أستبعد نظراً لماضيكِ أن يكون ما تقومين به مُجرد حركة إعلامية سيستفيد منها من يستفيد دائماً من مثيلاتها، لذلك لُمي نفسكِ و أذهبي إلى بيتك، و كُفي عن لعب دور البطولة في مُسلسلٍ فاشل لكي لا تُصبحين ضحية نفسكِ، فأنتِ تُثيرين من السُخرية أكثر مما تثيريه من تعاطف و تضامن.

حسين جلبي
jelebi@hotmail.de

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…