زمن الديمقراطية والحوار

   صالح جانكو

إن إلقاء نظرة سريعة على مسيرة الحركة السياسية الكردية تجعلنا أن نصاب بخيبة أمل للوهلةِ الأولى ,وذلك لكثرة الصراعات والممارسات الإقصائية التي رافقت مسيرة هذه الأحزاب التي تشكل بمجموعها الحركة السياسية الكردية في سوريا , حيث افتقدت معظمها لغة الحوار فيما بينها على صعيد الهيئات الحزبية وأعضاء الحزب من جهة وفيما بينها وبين الأحزاب الأخرى من جهةٍ ثانية ,وبالتالي لم تتمكن من مد جسور التواصل مع الجماهير , مما أوصلها إلى حالة من التمزق والتشرذم وتكوِّن كم هائل من الأحزاب غير المؤهلة لاستيعاب الجماهير وقيادتها ,
كما أنها لم تتمكن على الصعيد السياسي من إنجاز المشروع القومي السياسي المتكامل الذي من شأنه رؤية سياسية واضحة المعالم لأهداف وطموحات الشعب الكردي في سوريا مما جعلها -الأحزاب الكردية- تعيش حالة من العزلة عن هذه الجماهير بالإضافة إلى بقائها لفترة طويلة من الزمن تعتمد لغة الإقصاء ورفض الآخر حيث بلغ بها الأمر في أغلب الحالات إلى تخوين بعضها البعض الأمر الذي كان ينسف أية إمكانية للحوار حيث ان وصف أي طرف للآخر بالخيانة ينهي الحوار لأنه ببساطة لا حوار بين خائن ووطني شريف لأنهما يقفان على طرفَي نقيض ويحاول كل منهما إنهاء الآخر وتصفيتهُ.
لن أذهب بعيداً في سرد تفاصيل وأسباب الانشقاقات في جسد الحركة الكردية في سوريا  هذه الانشقاقات التي حدثت معظمها لغياب الديمقراطية داخل هذه الأحزاب على صعيد التعامل الداخلي كهيئات تنظيمية وعدم قبول الاختلاف في الرأي داخل التنظيم لدرجة عدم التمييز بين الاختلاف في الرأي والخروج على الحزب ,كذلك عدم التمييز بين الخطأ الذي يقع فيه العضو الحزبي والخطيئة التي تتمثل في خيانة الحزب .
من هنا لا يمكن أن نتصوَّر أن يكون حزبٌ ما ديمقراطياً في تعاملهِ مع الأحزاب الأخرى أو مع المنظمات الجماهيرية أو حتى مع الجماهير ذاتها إن لم يكن يتبنى ويمارس الديمقراطية في حياته الحزبية  .
لذلك لا يمكن أن ينمو أي حزب ويتزايد نفوذه بين الجماهير على المدى الطويل ما لم يسمح بتعدد الآراء والاتجاهات في داخله ,فالديمقراطية اقتناع فكري أولاً ,لذلك يجب العمل على أن نجعل هذا الاقتناع سائداً لأنه بذلك سيتم معالجة جميع القضايا والعقبات التي تعترض الحزب وبالتالي الحركة السياسية في مجملها , فمتى استطاع أي حزب من تحقيق الديمقراطية الداخلية سيكون من اليسير حينها قبول الآخرين والتعامل الديمقراطي معهم
ومن هنا نرى بأنه من الضروري التأكيد على هذه الناحية وكذلك التأكيد على تبني لغة الحوار فيما بين الأحزاب بعضها البعض وبين فئات المجتمع الأخرى حيث أن عصرنا هو عصر التعددية والديمقراطية ذلك الحوار المعتمد على فكرةٍ أساسية وهي أنه ليس هناك طرف بشري أو مجموعة إنسانية مهما بلغت من الحكمة أن تمتلك الحقيقة الكاملة حيث يجب علينا جميعاً تخطي الأفكار والأحكام المسبقة و المنبثقة من بعض ثوابت الذهنية المتخلفة غير القابلة للنقاش ! والتي عانت منها الحركة الكردية في سوريا وكذلك الأحزاب الكردستانية .
فالحركة السياسية الكردية في سوريا مطالبة اليوم أكثر من أي وقتٍ آخر بقبول التعددية واعتماد مبدأ الحوار في التعامل مع الآخر والبحث عن النقاط المشتركة والعمل على الحد من حالة التشرذم وتقليص العدد المفرط من الأحزاب التي أفرزتها الممارسات غير الديمقراطية التي كان من شأنها أن تصرف الناس عن الاشتغال بالسياسة للوصول إلى حالة منطقية من التعدد الصحي لأن التعدد مع الممارسة الديمقراطية يجذب إلى ساحة العمل السياسي أعداداً متزايدة من المناضلين ويرهف الحس السياسي لأوسع الفئات الجماهيرية ,فكلما اتسعت قاعدة المشتغلين بالسياسة وزاد الاهتمام الجماهيري بأمورها تضاعفت فرص دعم الأحزاب والقوى الوطنية وترسيخ نفوذها الشعبي.
إن عدم القبول بالتعددية يعني عدم قبول جدية التعبير والحوار الأمر الذي سيؤدي إلى تصاعد حدة التعامل مع الآخر للوصول إلى حالة من الاغتراب والمغالاة في السرية والتنظيمات الأحادية وتحطيم جسور التواصل مع الغير وتكريس مفهوم القيادات المعصومة عن الخطأ .
إن من يحلم بالإنفراد بالساحة يجري وراء السراب ففي أحسن الأحوال قد ينجح مرحلياً في إنشاء تنظيم يعتمد على التسلط والقهر وقد يصل به الأمر إذا توفرت له الظروف إلى ممارسة العنف في التعامل مع كل من يخالفه الرأي بغية إقصائه عن الساحة ,وقد عانت الحركة السياسية الكردستانية طويلاً من هذه الحالة ودفعت فواتير باهظة من دماء الشعب الكردي , فالخاسر الأكبر من مثل هذه الحالات هو الإنسان الكردي لكن المرحلة التي نعيشها لم تعد تقبل بمثل هذه الحالات والتفرد بالقرارات المصيرية التي من شأنها الإضرار بمصير الشعب الكردي ومستقبله ,والمطلوب هو عدم ادعاء أي طرف باحتكاره للصواب دون الآخرين احتكارا مطلقاً يجعل منها المصدر الوحيد للحقيقة ,فإن نفي الواقع لا يلغيه .

وإذا كان لابد من انتهاج مبدأ النقد في التعامل مع الآخر يجب أن لا يستهدف هذا النقد تصفية الطرف المنقود وإزاحته تماماً من ساحة العمل السياسي وبذلك سيتدعَّم موقف الحزب وتتسع قاعدته الشعبية أما تصفية أية قوة وطنية فلن تجر من جرائها إلا إضعاف الحركة السياسية للجماهير.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…