ولكنني حسمت خياري, وصديقتي حية ترزق واتمنى لها كل الخير والمودة.
وبعدها بثلاثة أيام وفي الساعة الثانية والنصف ليلاً كنت في غرفتي التي كان يشاركني فيها أخي الصغير, وإذ بزوار الليل يتقاذفون فوق جدار الحوش ومدججين بالاسلحة الرشاشة وطرقوا الأبواب بدون أذن أو دستور, افتح افتححح افتحححح …….
لقد اخرجوني من البيت ووضعوني في سيارة ولا أدري إلى أين وجهتي, وأخذوني إلى مفرزة أمن الدولة التي لم تكن بعيدة عن بيتنا, وهناك بعد نصف ساعة شعرت بحركة غير طبيعية وادركتً بأنني لست لوحدي المعتقل واتوا بآخر وركبونا السيارة مرة أخرى, وحاولت أن أعرف من الذي معي لذا قمت بحركة صوتية, عندها تكلم عدنان وقال لي هل انت ايضا معتقل ومع جوابي بنعم حصلت على صفعة على رقبتي ونبهوننا بان لانتكلم مع بعض الكلمات النابية تلقيناها مباشرة, وطبعا يدي مازالتا مقيدتين إلى الخلف واتعذب في قعدتي الغير مريحة في السيارة, إلى أن وصلنا إلى القامشلي مع بزوغ الفجر, وفي اليوم التالي عرفنا بأننا أربعة أشخاص هنا أود أن أذكر أسماء الاخوة الآخرين وهم: بهذاد دياب وعدنان سليمان وكاميران خليل, وبدأت أساليب الترهيب والتعذيب والتحقيق الشكلي, لان الأمن نفسه قد صنع التهمة, لذا كان التحقيق شكلياً!! هكذا بقينا شهراً كاملاً في زنزانات فرع أمن الدولة في القامشلي, وفي إحدى المرات التي طلبت فيها الذهاب إلى الحمام حاولت أن افهم من الحاجب لماذا نحن هنا, قلت له بأنني لم نرتكب أي ذنب ونحن أبرياء, قال لي أنتم تلعبون بألسنتكم, فهمت السبب, في هذا البلد يجب أن تكون من مكتومي الافواه ومهمتك فقط التصفيق وإلا مكانك هو السجن ! وفي اليوم الأخير من الشهر مساءً وضعونا كل اثنين معاً وكان هناك سجان ديري يدعى (خلف) في المساء بشرنا بأننا سنكون غداً أحرار وسيخلوا سبيلنا لذا علينا أن نعطيه الحلوانية, ومن الفرحة أعطيناه كل ما نملكه من النقود لاننا لم نكن نصدق بأننا سنحصل على حريتنا ثانية, لان الانسان لايعرف قيمة الشيء إلا بعد أن يفتقدها لذلك الحرية أصبحت لنا كالحلم لم نكن نصدق بأننا سننالها مرة ثانية, اقتنعنا بأننا فقدنا أغلى وأثمن شيء في الحياة.
سهرنا طوال الليل ولم نستطع أن ننام تلك الليلة من الفرحة, وفي الخامسة صباحاً رن جرس التلفون وبعدها بدأت محركات السيارات تعمل وأحسسنا بالخوف لماذا في هذا الصباح الباكر شغلوا السيارات وبدأت الافكار تتراود, هل سيخلون سبيلنا أم سينقلوننا إلى الشام ؟؟!! وعشرات الاسئلة اختلطت في أذهاننا, ونحلل الوقائع ونسرد الاحداث وبعد كم دقيقة قالوا لنا جهزوا أنفسكم وسألناهم إلى أين فقالوا لنا اتت برقية معاكسة علينا أن نبعثكم إلى الشام, وقتها عرفنا بأن (خلف) نصب علينا وأفرغ ما في جيوبنا وأخذ ما كنا نملكه من النقود, هذه هي أخلاق البعث وعناصر أمنه في سوريا الاسدين, لامبادئ ولاقيم ولاأخلاق, أنهم مجردين من الإنسانية.
واكتفي هنا عن الاعتقال ولكن في مناسبة أخرى سأسرد تفاصيل أربع سنوات التي قضيتها في السجن وأسباب الاعتقال والطرف الذي سبب باعتقالنا والآثار النفسية والجسدية والمادية التي تركتها علينا بشكل مفصل.
لقد ارتبط مفهوم الاعتقال السياسي في سوريا بمجيء حزب البعث إلى السلطة عبر انقلاب عسكري في الثامن من آذار عام 1963,عبر مجموعة من العسكريين المغامرين وبدوافع ونوازع مختلفة, لكن القاسم المشترك هو إلغاء الحياة السياسية والتعددية الحزبية لصالح حزب واحد هو القائد للمجتمع والدولة (حزب البعث العربي الاشتراكي) وترافق ذلك بمراسيم وتشريعات سنتها السلطة التنفيذية كان في مقدمتها قانون الطوارئ الذي حول سوريا إلى مزرعة لآل الأسد وإلى دولة أمنية حكمت العباد والبلاد بيد من حديد, وأنشئت المحاكم الاستثنائية الغير شرعية (محكمة أمن الدولة العليا, المحاكم الميدانية والمحاكم الاقتصادية) لتدعم قانون الطوارئ واستخدمتها السلطة في مواجهة خصومها السياسيين.
وفي الازمات التي مرت بها سوريا خصوصاً في الثمانيات والصراع مع الحركة الاسلامية التي قادها الاخوان المسلمين وصل الاعتقال السياسي إلى ذروته في عام 1980, حيث أصبح نسبة المعتقلين السياسيين (المعترف بهم من قبل السلطة) واحد من كل ألف مواطن من الشعب السوري, ناهيك عن التصفيات الجسدية, التي تكفلت بها أجهزة الأمن مباشرة أو المحاكم الاستثنائية التي كانت تصدر حكم الإعدام فيتم تنفيذه مباشرة في أقبية التعذيب وحتى في الساحات العامة.
واشتملت ظاهرة الاعتقال السياسي في سورية على عدة مراحل كان القاسم المشترك فيها على الدوام هوعدم الاعتراف بالخصوم السياسين, واتهامهم بالانتماء إلى التنظيمات الارهابية التي تهدف إلى زعزعة نظام الحكم ومعاداة أهداف الثورة, أومحاولة اقتطاع جزء من أراضي الوطن أواثارة الشغب والبلبة وهكذا …
بعد وفاة الاسد 2000 وتعيين أبنه بشار في خمس دقائق تفائل الشعب السوري خيراً ولكن الاجهزة الامنية أعادت سطوتها بقتل ربيع دمشق واعتقال المعارضين السوريين واصدر بحقهم أحكام جائرة أمثال: رياض سيف وعارف دليلة وحبيب عيسى وآخرين..
كان للكرد نصيب كبير في الاعتقال السياسي وتم بشكل ممنهج, وهنا أود ان أذكر الرعيل الاول الذين أسسوا حزب ديمقراطي كردستان سوريا(البارتي) واعتقلوا في آب 1960 وهم الدكتور نورالدين ظاظا وعثمان صبري ورشيد حمو حمزة نويران وأخرين.,والدفعة الثانية من المعتقلين كانوا من أعضاء القيادة تم في 31/7/1973 وهم: (دهام ميرو, أمين شيخ كلي ,نذير مصطفى وكنعان عكيد وأخرين …
وفي انتفاضة قامشلوا الدموية في 2004 التي عمت كل المدن الكردية و التي راح ضحيتها أكثر من 36 من شباب الكرد على أيدي جلاوزة النظام واعتقل أكثر من ثلاثة ألاف شخص وبعد الانتفاضة تم تصفية أكثر من خمسين عسكري كردي بشكل ممنهج في الجيش السوري بيد القوى الخفية التي كان يديرها ماهر الاسد انتقاماً لانتفاضة آذارالمجيدة , ولم تتوقف اعتقال النشطاء الكرد لحظة وما اعتقال الشيخ والعلامة معشوق الخزنوي واستشهاده على ايدي مخابرات الاسد إلا دليلاً ساطعاً على مانقوله وهناك آلاف الحالات لسنا بصدد ذكرها الآن.
وهي مهمة منظمات حقوق الانسان عليها أن توثق هذه الانتهاكات التي حصلت في عهد الاسدين, ولكن أسد الابن تجاوز والده في بطشه وعندما طالب الشعب السوري بحريته بطرق سلمية حضارية في 15 آذار 2011 تعرض مئات الألاف إلى الاعتقال وحتى الان استشهد أكثر مائة الف حسب منظمات حقوق الانسان ولكننا نعتقد بأن العدد أكثر من ذلك بكثير, وهناك أكثر من مائتي ألف مفقود وشرد أكثر من خمسة ملايين سوري, ودمر المدن والبلدات ورجع سورية خمسين عاماً إلى الوراء هذا مافعله حزب البعث والعائلة في سوريا ولكن الشعب السوري مصر على أن ينال حريته وأن يتخلص من حكم حزب الواحد الذي لم يجلب إلا الخراب والدمار لهذا البلد الجميل.
وعلى السوريين أن يأخذوا العبرة من هذا النظام ومن الانظمة الاستبدادية وأن يبنوا سوريا ديمقراطية اتحادية يتساوى فيها الجميع وأن المعارضة السورية مطلوبة منها أن تتخلص من آثار العقلية البعثية, وأن تعترف بحقوق الآخرين, ليشعر السوريين بأن الوطن للجميع, وبدون تكاتف الجهود وتوحيد الطاقات لا يستطيع السوريون أن يتخلصوا من هذه الطغمة الفاسدة والمجرمة.
ادريس عمر-المانيا