وكان هذا جل ما فهمناه من رسوخ الماركسية اللينينية في أذهاننا , تراهات مجتزأة واجتهادات مغلوطة وسفسطائية قل مثيلها , وسجال سياسي مضني قد أصبح في صلب برنامجنا اليومي على أساس أنها استحقاقات الالتزام بالنظرية المشيدة والتي لاقت رواجاً كبيرا لدى معظم أحزابنا الكوردية, فاسترشدت بعضها ولم تهتدي, والتزمت أخرى نصا وتغافلت روحا على اعتبار أنها كلية القدرة وتصح في كل زمان ومكان, ومقياس الحزب الطليعي و الثورية والثقل الجماهيري يكمن في تبني هذه النظرية برمتها كحل جذري للمسائل العالقة والمستعصية ومن ضمنها مسألة القوميات وحقوقها المشروعة, وهذا يعني وضع العربة أمام الحصان تجاوزا والعد تنازلياً من الأعلى إلى الأسفل ثم إلى الأعلى مجدداً, وظل هكذا النص غامضا ويتيما نستظل به فقط مثل مسمار جحا ونضخم به أقاويلنا , بياناتنا , أسباب انشقاقاتنا إلى حزب ممسوخ آخر يكمن فيه ثانية بذرة نفي النفي نحو انشقاق آخر وآخر, بينما ظلت الروح الوثابة غاية لا تدرك وهو يحوم أسيرا حول ما يناسبه نصاً في النظرية والتطبيق , فتحول الروح روحا أو مساً أو شيئاً منه مقلداً بحرفيته , وأصبح بعيدا كل البعد عن الواقع وروح العصر ومتطلباته, وأن ما هو هو والواقع شيء آخر لا يمكن القفز فوقه, وتجاهل خصوصياته وضروراته المرحلية في القبول أو الرفض.
وبقي الوضع معلقاً من عرقوبه فلا النظرية ألزمتنا ولا الالتزام المفرط بها أخرجتنا من قمقمنا الخرافي , ولم نهتدي ببريقٍ أو سرابٍ أو بصيص أملٍ إلى طرف خيط النجاة من متاهات النظام وأحابيله , وبدا واضحاً بأن ما كان موصوفا أو مفترضا في الأحجية الملهاة إنما أصبح وبحكم العادة والتكرار رصيد آخر من التخبط و الإخفاق وبعثرة الأوراق مرة أخرى, ففي الوقت الذي أصبحنا فيه عمياناً في تقليد للأعمى وبحلبة الصراع ندعي الفوز دائماً ونكون أول الخاسرين, كان (نظام الأبد) وحراسه الأبديون آنذاك ينسجون خيوطهم العنكبوتية بإحكام وتخطيطٍ مسبق لكامل جغرافية المناطق الكوردية , وقد ارتأوا أخيراً إلى نتيجة مفادها (جوّع كلبك يتبعك) وتصرفوا على هذه الشاكلة المنحوسة وبهذه العقلية المريضة والممجوجة, فالجوع هنا شامل لسلسلة متكاملة من المشاريع والإجراءات العنصرية والقوانين الوضعية الجائرة الطويلة المدى والقصيرة من طمس وصهر وتعريب وتجريد وإقصاء وفصل , وهل نتذكر معا حريق سينما عامودا وحريق سجن الحسكة وأحداث الملعب البلدي المفتعلة في قامشلو وشهداء انتفاضتها الباسلة واغتيال الشخصيات الوطنية المخلصة وقانون تسعة أربعون الجائر وقوائم الظل والذل البديلة و….الخ والتي كانت ترمي في مجملها إلى النيل من كبرياء الشعب الكوردي وإذلاله بذر الرماد في العيون وتحطيم ما تبقى من معنوياته وطموحاته المشروعة ليكون آخر القوافل المنسية المتهالكة بعد نزع فتيلها تحسباً واستدراج من لا هم لهم سوى التقريع على الرؤوس لكل ظاهر مبان وهو ينادي حتى بالتآخي والتعايش السلمي والديمقراطية والحوار وحرمة حقوق الإنسان , ناهيك عن المطالبة برفع الغبن الحاصل وإلغاء السياسات الشوفينية والحقوق القومية المشروعة للشعب الكوردي وإن كانت في إطار وحدة البلاد والعباد , وهذا جل ما كان الكورد يناضلون من أجله عن حسن نية وتدبير إلا أنها بدت غاية في التعقيد وصعبة المنال ولو بجزء يسير منها , وسهلة مرضية ومرهونة بجرة قلم لأزلام النظام وأنصابه الذين تلقفوا ومنذ البدء بشغفٍ ومكر ونية مبيتة فكرة الأممية ومريديها والتيارات الموالية الرخيصة وأبواقها واغتنموا منها أضعافاً مضاعفة بالمزيد من المكاسب الفئوية ودفعا رباعياً للنهج الشوفيني المقيت وكبر مقتاً بنشره لثالوث الوحدة والحرية والاشتراكية زوراً وبهتانا ً وتكبيره بها في كل الأوقات ونحتها عميقا على صدر الصفحات الأولى لثقافته العرجاء , فليس في جعبته للوحدة سوى النخبوية المختارة في سياسة (فرق تسد) ومفهومه للحرية هي ملاحقة الأفكار واغتيال الكلمات وتدشين المزيد من السجون والمعتقلات السرية المتخمة بالأشلاء المخصية المشوهة, وتبقى الاشتراكية لقيطة تستخدم فقط كواجهة في حسن السيرة والسلوك وتعميق وشائج القربى والقرابين لأصحاب القبعات الحمراء القاتمة قتامة دماؤهم الباردة , وقد أجهزوا على الشيوعية المبجلة واتحاداتها وبددوها ومرغوا فكرها بشبكة من المصالح المتشابكة على حساب قهر إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها , وقد أسعدهم جدا سير العمل والإنتاج في مكننة البعث الجديدة بفكره الشمولي المتوافق, الآمر والناهي, المقصي والمفتي وبالقانون المفصل دوماً ودونما حسيب أو رقيب أو في أحسن الأحوال إما قد ماتوا ورؤوسهم محنية أو تحولوا إلى دمى متحركة في الأطراف العلوية ومهمتها التصفيق والهتاف في محافل ملأى بالتشبيح والتشليح.
تلك كانت مرحلة مؤلمة في تاريخ الحركة الكوردية بقواها التقليدية المزمنة وأحزابها المنتكسة التي أودت بعجزها هذا عقودا من الزمن أدراج الرياح نحو التشتت و الضياع , ولم يكتب لها النجاح يوماً في المخاض وولادة مشروع كوردي الأصل والانتماء والتوجه ويستقرأ الواقع والظروف المعاشة بمفرداتها البسيطة الحقيقية وينهل من تجارب الشعوب والأمم ما يناسب تجربتها الفريدة بحرفيّة وإمعان .
وإذا لم يكتب للتاريخ يوما أن أنصف قضيتنا العادلة كقضية أرض وشعب وأمة له تاريخه المشرف ولغته الأم ومصيره المشترك , وفي كونها من أكثر القضايا الساخنة والمتشابكة فلننصف بعضنا البعض أولاً, رأفة بهذه القضية المكلومة, ووفاءً لأرواح شهدائنا الأبرار واحتراماً لكل القيم الإنسانية, واستخلاصاً للدروس والعبر واستكمالا لما هو قادم وآتٍ من عاديات الأيام , فليس لنا والله حيلة أخرى سوى المصلحة الكوردية العليا ملجأ وملاذا ومصداقية, إن كنا فعلا أمناء صادقين وغيورين على قيادة السفينة بحكمة ودراية إلى شاطئ الأمان في خضم هذا البحر الهائج وهذه الأجواء المكفهرة التي قد تعيدنا ثانية إلى دورة الزمن العاثر وبضاعته الفاسدة, ليتقاضى ضعف ثمنها , بينما نخرج نحن بخفي حنين وننال الندامة والخسران وبئس المصير وليس تقريره كما هو مفترض في هذه الفرصة التاريخية السانحة .
فثمة ثورة شعب برمته يناشد الحرية والكرامة على كامل الرقعة السورية, وإن طال الزمان وفاق كل ّ التصورات الممكنة على غرار ما كان وحصل , فالخطب جلل والتضحيات جسام وحجم الدمار والقتل والفتك اليومي كبير جدا ً , ألا أن إرادة الشعب لن يقهر طال الزمان أو قصر والأنظمة المعتلة ستتهاوى عن بكرة أبيها وهذه حقيقة أزلية لا تحتاج إلى ألغاز تعجيزية في صيرورة التاريخ.
ومن المؤسف أن الواقع الكوردي لا يبشر خيرا على الإطلاق فيما نحن فيه من (تشرذم وتقزم وتقزز من بعضنا البعض) ومن السخرية أن ندعي عكس ذلك ونبني لأنفسنا ثانية أبراجا عاجية ومدناً من الملح تكاد تكشف عورة كل مسيء على إساءته , وكل متهاون ومتقاعس ولا مبالٍ على فعلته في مسار المصلحة الكوردية العليا ولينظر كل منصف وعادل محايد إلى واقع الحال في الشارع الكوردي وما آلت إليه الأوضاع جملة وتفصيلا من تدهور وتأزم وانفلات طوال هاتين السنتين على الأقل ولينطق بالحكم بعدها, فهل يستلزم بالضرورة أن نُمنا ونبتلى نحن الكورد بهذا القتل والدمار ونرى شهاب الحرب تسطع في مناطقنا لكي نعود إلى رشدنا وجادة صوابنا في استدراك الخطأ الفادح قبل وقوعه , ألا يكفي كل هذا الدمار الفكري والنفسي والبنيوي والمادي الذي يهدد جيل بأكمله بالتحول إلى مسخ هائجٍ فاقد البصر والبصيرة والأمل والمرتجى بمن ساهموا بشكل أو بآخر, بقصد أو بدونه في إتمام ما تبقى من تركة النظام المشئومة وبصورة أقسى وأشد , فلو خُيّر لأحدهم الاختيار مجازا بين كوردستان و (نان) الخبز اليومي في مثل هذه الظروف القاهرة لأختار الثانية بدون تردد وأجهش في البكاء طويلاً بعدها
فمن المحال إذاً اللجوء مجدداً إلى اعتماد منطق ركوب الرأس في حل المشاكل والمشاغل الثانوية بين الأخوة الأعزاء التي تلهي في الكثير من الأوقات عن التناقض الرئيسي بالإستقواء أو التشفي في مراكز امتحاناتٍ يهان المرء فيها أو يهان إما بالتخوين أو الملاحقة أو حتى الاعتقال, وقد أصبح مقياس الوطنية أن تكون أو لا تكون , والحل الكوردي مبتذلا في ديناميكيته ومختزلا بمسألة أشخاصٍ أو مكان.
وأخيراً..
وليس آخراً من المؤسف جداً التشكيك في حسن النوايا الطيبة التي أكدت مرارا وتكرارا وهي على مسافة واحدة من كل الأطراف المعنية المخلصة , حرصها الشديد على توحيد الصف الكوردي بالشراكة والوفاق والتعاضد والوحدة , واستنهاض الهمم بعيدا عن روح الاستفراد والتهميش والهيمنةً في هذا الظرف العصيب وهذه الفرصة المؤاتية تمهيداً لمخاض طال انتظاره , يعيد ترتيب البيت الكوردي على كلمة سواءٍ ويلم الشمل والرؤى والمسارات المتشعبة….
ولكن…… كم…… سيكون المخاض عسيرا… … أيها الأخوة .