النّخَب الكردية السورية إزاء أوتوقراطية قياداتها السياسية

خالد جميل محمد

يُقرّ العنوانُ بوجود فئاتٍ كردية سورية يمتلك أفرادُها كفاءاتٍ متميزةً تجعلها قادرةً على التأثير في مجريات الأحداث وتأدية أدوارٍ يعجز عن تأديتها آخرون يفتقرون إلى مثل ما يتمتع به هؤلاء من خصائص وسِماتٍ كالذَّكاء، المهارات العقلية، القدرات التعبيرية واللغوية والفنية، الإنتاج الإبداعي والفكري والاقتصادي وغيرها مما يؤهّلهم للتأثير في الرأي العامّ بتنظيمه، ضبطه، توجيهه، سلامته وتطويره.

هذه الفئات التي يمكن تسميتها بالنخب الكردية السورية، وَعَتْ قيمتَها وأدركتْ أهميةَ دورِها وضرورتَه، وجدتْ نفسَها في مواجهة سُلطات قمعية، تتقدّمها سُلطةُ النظام السياسي السوري بآلته القمعية المدمِّرة للآمال والطموحات، حيث أثبتت ممارساته حجم الدمار الذي ألحقه بالنخب وغيرها.

تليها سلطة القيادات السياسية الكردية ذات الممارسات الأوتوقراطية المتحكمة بقرارات الحركة السياسية من خلال هيمنتها المطلقة على تنظيماتها، واستبدادها بالقرارات المتعلقة بمصائر الكرد السوريين، دون أن يمتلك أغلبُ هذه القيادات كفاءاتٍ تؤهِّلهم لأن يكونوا جزءاً من هذه النخب، بقدر ما كانوا ولا يزالون عقبةً في طريق صعود النخب وظهورها، سوى أنها فئات فرضتها ظروف الاستبداد والقحط السياسي في سوريا.
إخراج القيادات من دائرة النخب يأتي من عدم أهليتها لأن تتوافر فيها سِمات النخبة.

إضافة إلى انشراحها بتقريب عقلياتٍ تَحوّلَ تقديرُ تلك القياداتِ في قاموس تفكيرها وممارستها إلى ضروبٍ من التقديس تَـكْـفَل تصييرَ النصيرِ/ الرفيقِ مُريداً عَـديمَ الشخصية، تابعاً ممسوخَ الفكر، خانعاً مقموعَ الإرادة، ذليلاً راضياً بما يُرضي زعامةَ تلك القيادة في محرابِ التأليه والتبجيل دون اكتراث لِما يُحْدِثه هذا السلوك مِن خرابٍ يقضي على أسمى القيم الإنسانية وأرقاها.

كما أثارَ امتعاضَ تلك القيادات أنَّ النُّخبَ الكردية السورية لم تَرضَ لنفسها وخُلُقها خصائصَ أولئك الأنصار المريدين المصفِّقين الممجِّدين التابعين المنافقين، حتى نتج عن ذلك أنّ قسماً من تلك النخب تجنّب شرور الانتقام فنأى بحياته عن الإرهاب والانتقام، وأنّ قسماً منها ارتأى لنفسه أن يكون صامتاً، وأنّ قسماً منها أراد أن يكون في مواجهة آلة القمع ووحشية العنف بجميع أصنافه المتاحة حتى دفع أفرادُه ثمن مواقفهم غالياً (بالتصفية الجسدية، بالملاحقة، بالتضييق والتعتيم عليهم، بالتشهير بهم، بتأليب الغوغاء عليهم، بـإفقارهم، بإقصائهم، بتهميشهم، بتهجيرهم قَسْراً، بإكراههم على القَبول بالأمر الواقع، بالإساءة إليهم…) حيث مورس بحقِّ النخب الكردية السورية سلوكاتٌ أدت إلى إفراغ المجتمع من الطاقات الفاعلة فيه، فأصابه الشلل والعجز عن النهوض والعمل؛ خاصةً أن سلطة معظم القيادات التي تسببت في ذلك الإفراغ باتت تدّعي حرصها على إنقاذ المجتمع من الآفات والمشكلات والأزمات التي يعيشها ويعاني مخاطرَها دون أن تنجح في مساعيها غيرِ الجادّة، فضلاً عن قناعتها الراسخة بأنها وحدها القادرة على إحياء “العظام وهي رميم”.
مارس معظم هذه القيادات نمطاً أوتوقراطياً من السلطة، وأدّى دوراً سلبياً، إضافة إلى دور النظام السياسي، في إجهاض كل مجالات النشاط الإنساني الكردي وتفريغها من فاعليتها ومحتوياتها الحقيقية والنزول بها إلى درجات الإسفاف والرُّخْص في مجال ما يُسمى مجازاً بـ (العمل السياسي) وما يُسمّى تجاوزاً (التنظيم الحزبي) وما يسمى جَوراً بـ (العمل الفني، الإبداعي، الفكري) وما يسمى شكلياً وخطأً بـ (البحث العلمي: التاريخي، اللغوي، القانوني، الجغرافي، الإحصائي، الإداري، الإعلامي، التربوي..) حيث بلغت هذه المجالات أعلى درجات الابتذال مقارنة بالمعايير الحقيقية لتلك الأنشطة التي كان من شأنها أن تجد الحلول لما هو كائن من مشكلات وما يمكن أن يكون.

فإذا كانت النخب في البلدان المتقدمة هي صانعة القرارات والمخططة لها والضابطة لها فإن النخب في المجتمعات المتخلفة عامة وفي المجتمع الكردي السوري خاصة صارت دريئة تصوِّب جهاتٌ كثيرةٌ أسلحتَها نحوها، لتثبّط دورها وعملها وتمنعها من أن تكون حاضرة رافضةً الرضوخ أو المساهمة في جرائم الاعتداء على الديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء المجتمع وسلامته.

حيث تسببت القيادات السياسية الكردية السورية بعقليتها الاستبدادية هذه في تشتيت طاقات المجتمع الكردي ومَحْقِ آمال إنسانه وعرقلة صعود النخب الكردية أو صناعتها.

كذلك عجزت عن تأسيس خطاب سياسي كردي واضح المعالم قائم على التحليل الدقيق والموضوعي للمشكلات، لأنها هي نفسها المسؤولُ الرئيسُ (لا الوحيد) عن الإخفاقات المتكررة والمتراكمة في حياة هذا المجتمع وحركته السياسية، بل هي المسؤول الرئيس (لا الوحيد) عن غياب المؤسسات الفعلية للمجتمع المدني لعدم اكتراث هذه القيادات إلا لما يخدمها فحسب، والدليل على ذلك ما آلت إليه أوضاع المجتمع والحركة السياسية على أيديها حتى الآن.

كما أنَّ عُجْبها ومبالغتها في الاعتداد بقدراتها جعلها المسؤول الرئيس أيضاً عن التلكُّؤِ والتعثُّر في التطور والتغييرِ، بصفتها عقبةً أمام النخب الحقيقية التي لا تعترف بها تلك القيادات أصلاً ليبقى المجتمع في حالة عُقْم مزمن في حضرة قيادات سياسية لا تدخل ضمن الحقل الدَّلالي لمفهوم النخبة/ النخب.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…