فما هي الخيارات المطروحة ؟
وأمام جملة من التساؤلات المشروعة, تأتي المناطق الكردية متميزة في تلازمها مع الازمة في عناوينها البارزة القديمة منها والحديثة, المستترة منها والمعلومة, بالرغم من حالة الركود والجمود والمناورة والتفاضل والتكهن الحاصل في الحرب الباردة السائدة في شكلها والمتفجرة في مضمونها, فواقع الحال ماهو إلا استمرار لنهج السياسة الشوفينية المقيتة طوال نصف قرن من الأزمات المتلاحقة تقصدت أن تدخل المناطق الكردية في عزلة تامة (سياسياً- اقتصادياً- اجتماعياً- ثقافياً- خدمياً) وتبعاً لذلك فلقد استطاعت أن تشل كذلك قدرة الحركة الكردية بقواها التقليدية المعروفة على النهوض بمسؤولياتها وطموحاتها المشروعة, فانكفأت على نفسها مشغولة بإتمام أعدادها إلى العشرون عنوة, إما بحشر الأقواس في أسمائها المتشظية أصلاً, أو تدجين البنود المكررة والمعاني الدخيلة, أو تبجيل الأصنام الهرمة المتهالكة التي يعود إليها الفضل مناصفة في أحد أوجه القضية بما نحن فيه من تبدد للطاقات الكامنة المختزنة عبثاً, وفقدان للمصداقية والمرجعية والحيوية السياسية, سمتها التشرذم والتقزم والتقزز من بعضنا البعض, أما النصف الآخر فلهؤلاء المارقين الذين انتهزوا فرصة الوضع القائم, والفراغ الحاصل, والثقة المهزوزة المتبادلة بين أركان الصف الكردي, ففرضوا هيمنتهم المبيتة من وقتئذ وحتى الآن في تكريس المفاهيم الفوقية والأنا المذلة على (أهل مكة) بصياغة جديدة, وجدل عقيم, وخطأ جسيم في بنية صروح مشيدة للتو, حيث أزادوا في حجم الإناء طولاً وعرضاً, وأتخموها بكل ما لذ وطاب, وحين الدعوة إلى العربدة ما استطاعوا إليها سبيلاً, ولم يزحزحوا الإناء قيد انملة, فأصبح الإناء بما فيه ينضح, وفي كلتا الحالتين فالمسرح خال من الجمهور تماماً إلا لفيف من دائمي العضوية في كل ما هب ودب, أما السواد الأعظم من الناس البسطاء فقد ولّوا أدبارهم وانصرفوا لشؤونهم وشجونهم الخاصة, وعاودوا الهم اليومي على مضض علّ الأيام تزيح همومهم وتفرج كربهم وتحقق مآربهم ولو إلى حين, ولكن خاب المؤمل فيه والرجاء, فلقد جارت عليهم وقست, جارفة إياهم إلى حافة الهاوية في موجة جديدة من الأزمات الارتدادية الهالكة, وباتت تهدد كيانهم ووجودهم بالانقراض والتحول ومن قبلها بالهلاك والتيبس, وهذا حال الكورد منذ النشئ الأول وحتى سفر التكوين وإلى ما شاء الله (على ما يبدو).
وقد دأب الناس في ظل الأزمة برصيدهم الثري في البؤس والشقاء, وبحكم الدوافع المكنونة لديهم إلى التشدق بالبقاء والديمومة بتأقلم وتكيف وتماه مع أوجه الأزمة وتداعياتها المأساوية التي استشرت وباءً ووبالاً عليهم في كل مرافق الحياة ومقوماتها الأساسية بدءاً من رغيف الخبز وانتهاءً بكوابيس الأرق والسهاد في ساعة غفلة وغفوة, وتجسد ذلك بجملة من التدابير الوقائية البسيطة, والطرق والوسائل البدائية المحدودة, وإعادة تدوير واستعمال ما كان تالفاً أو معطوباً أو حتى منسياً في حكم الزمان فأعاده الزمان كما كان, وقد استنبطوا أفكارهم وتصوراتهم الآنية والمسبقة من وحي المعاناة اليومية القاسية, والحاجة الملحة دائماً إلى الاستفادة مما يملكون كي لا يحتاجوا إلى ما لا يملكون وترجموا ذلك إلى لغة الحياة العملية ضمن سياق معين من نمطي المعيشة والتفكير وكان من أبرزها :
1) – تكرير النفط الخام: اعتمد على عملية التقطير والتسخين في استخراج المشتقات النفطية, وهي عملية بدائية محفوفة بالمخاطر في محطات صغيرة سميت (محطات سفرية) بعد الحصول على النفط الخام من خلال التعديات المستمرة على الحقول النفطية بأنظمتها الناظمة, والآبار المنتشرة بمعداتها وخطوط أنابيبها التي قد تخترق أو تفجر أو حتى تمتلك وضمن قطاعات واسعة وتوزع هدراً (مال داشر) أما المشتقات المستخرجة فكثيرة ومنوعة فهناك المحلي والمكرر والأصلي والوطني والسوري والعراقي, والأبيض والليموني والأصفر والأخضر والأحمر والزيتي و…….
2) – الكهرباء الإنارة: تدرج الناس في البداية إلى تبادل خطوط الشبكة الكهربائية بمآخذ تصل بين منزل وآخر مغاير في الخط, ولكن ومع شمولية الانقطاع المتكرر ولفترات طويلة فقد تم الاعتماد على المصادر البديلة للطاقة الكهربائية مثل (لمبة الكاز – لوكس الغاز المعدل – الشموع ومصابيح الجيب وأضواء الشحن بأنواعها – أضواء الليزر على الهاتف المنزلي – الأضواء المترية على بطاريات الموتورات والسيارات – المولدات الكهربائية بأنواعها – الشواحن مع البطاريات ومحولات رافع الجهد إلى ال220 فولت وباستطاعات مختلفة .
3) – خبز الحياة: ما أحوجنا في هذه الأيام الصعبة إلى معجزة المسيح في أرغفة الخبز والسمكتين, فالطوابير لا تنتهي والإهانات والضرب والشتم تتواصل تباعاً و (تبتلع) لأجل رغيف مغمس بالدم, أما البدائل فهي فيما أمكن الحصول عليه من مادة الدقيق كمعونات في أكثرها عشوائية أو شرائية متوفرة بشكل أو بآخر, والعودة إلى خبز التنور الأهلي أو التجاري وخبز الصاج وأفران الخبز المنزلية الجديدة على الكهرباء وسعتها رغيف واحد في كل مرة .
4) – المحروقات والتدفئة: في ظل شح مادة المازوت وخاصة في شتاء قاس كان مجبولاً برائحة الموت, فلقد لجأ الناس مرغمين في أغلبهم إلى حرق المواد الأكثر ضرراً بالصحة والبيئة , بعد نفاذ ما لديهم من الاسرة والطاولات والخزائن الخشبية والحطب المباع والمقتطع والمنهوب تجاوزاً, وقد عدلوا على مدافئهم الفلاحية البسيطة لتعمل على الحطب والدخان والوباء بآن واحد
5) – الغاز المنزلي والطبخ والنفخ: ضمن الإصطفائية القائمة حتى في توزيع مادة الغاز وتوفرها مهربة ومعبأة وبوزن أقل وسعر أكثر تجاوز حدود (4000) ل.س وأحياناً قد تباع بالكيلو, ومن أجل الاقتصاد في استهلاك الغاز أو نفاذه تشترك عدة عوائل في آن واحد بطبخة واحدة يومية وخاصة أصحاب الشقق السكنية أو غيرها, وعاد الناس أخيراً إلى مواقد الحطب الحجرية وبوابير الكاز القديمة الصفراء والحديثة العراقية الخضراء والمحلية الصنع والمعدلة, أما السخانات الأرضية على الكهرباء فوجودها من عدمها, ورغم ذلك فقد أغتنم الناس فرصة الساعة الوحيدة في توفر الكهرباء في أكثرها أو أقلها, وصنعوا سخانات متميزة من الاحجار أو القرميد الأحمر أو ما شابه ذلك, مستخدمين استطاعات عالية جداً في وضع أصنص التسخين, واستخدموا ذلك حتى في تسخين المياه ضمن براميل مياه عادية أو بلاستيكية .
6) – البطالة والأعمال الحرة: هذا الطاعون الذي يفتك بأرباب الأسر المتهالكة تحت طائلة الديون المتراكمة, فبدون العمل ما العمل ؟ …ها قد أنحاز أكثر الناس إلى العمل بضرورات الحياة في الأزمة الراهنة, من حاجة السوق المحلية والأكثر رواجاً فيه, تاركين تخصصاتهم وحرفهم ومهنهم وورشهم في عهدة التاريخ, وتم مزاولة العديد من الأعمال الحرة والمرة ومن أهمها :
1) – التجارة بمحدوديتها من خلال المعابر الحدودية وخاصة مع أقليم كردستان العراق من المولدات الكهربائية واللحوم المجمدة والزيوت والدخان و…..
2) – بيع وشراء السيارات بأنواعها من معبر تل أبيض الحدودي وبأسعار منافسة وزهيدة .
3) – العمل بشرائح خطوط الاتصالات التركية والهواتف النقالة المسجلة وفلاشات الإنترنيت .
4) – بيع وشراء الخردة المنزلية والأغراض العتيقة وخاصة في سوقي الأحد والمركزي وغيرها
5) – تجارة وتهريب الأسلحة والأنفس بظروفها الخاصة .
6) – بيع المشتقات النفطية بأنواعها بما فيها مادة الغاز المنزلي .
7) – بيع مادة الخبز أمام الأفران الآلية وفي محيطها وبأسعار مرتفعة .
8) – البائعون الجوالون بكثرة في المدن والأرياف المنتشرة وخاصة ممن نزحوا إلى المنطقة .
9) – مهنة تصليح البوابير على الأرصفة بعدة بسيطة ومردود جيد, وورشات تصليح المولدات الكهربائية, وتصليح السيارات المعطلة جراء النوع الرديء المتوفر في مادة البنزين أو المازوت, والتعديل على سبطانة المسدسات الخلبية لتصبح حقيقية قاتلة .
10) – مهنة السمسرة المنتشرة بكثرة وخاصة في المكاتب العقارية والتجارية والعامة في بيع وشراء البيوت السكنية للعوائل الكوردية النازحة إلى الإقليم, لصالح العوائل النازحة أيضاً من المناطق الساخنة في الداخل السوري إلى حيث الملاذ البارد والفاتر والساخن في آن واحد, ولكن المؤمن يجب الّا يلدغ من الجحر مرتين, فلقد كنّا في الغمر نعاني فأصبحنا في الغمرين كالواقع ما بين فكي كماشة تضيّق الخناق شيئاً فشيئاً وتغير ديموغرافية المناطق الكوردية من أصالتها وخاصة قامشلو التي غاب عنها ألقها وحيويتها في أهلها الطيبون الكرام الذين يعرفون معنى الواجب الأخلاقي والإنساني تجاه بني قومهم في المحنة نفسها وينادون منذ الأذل بالأخوة والتعايش السلمي جنباً إلى جنب .
أفلا تعقلون .