صنم الأسد في القامشلي: لعنةٌ أم تعويذة؟

حسين جلبي

حقاً أنها لعلاقةٌ غريبة تلك التي تربط بين مواطني مدينة القامشلي و صنم حافظ الأسد الذي يتوسط الساحة التي تقع في قلب المدينة، فرغم الكُره المُتبادل بين الطرفين، إلا أنهما لا يُمارسان من طقوسه شيئاً، بل على العكس من ذلك، إذ يبدوان حريصين على سلامة بعضهما البعض، فالصنم الصامت يحرص من جهته على عدم إلحاق أذاهُ الكبير بالناس المُسالمين الذين يتناثرون حولهُ، و الذين يُحاولون تجاهل وجوده، و هم يضجون بالقلق، خلال مرورهم به، حرصاً منهُ على استمرارهم في السكوت عنهُ، و الذي يُفسره هو، من جهته، تنفيذاً لفروضٍ ما يُفسرها طاعة، و يحرص بعضهم، على عدم إصابة الصنم الضخم الأبيض بخدشٍ، لكي لا تصيب الناس ـ و حسب زعمهم ـ لعناتهُ.
و كأننا نشهدُ في الواقع قصةٍ من أعماق التاريخ أو نعيش نحنُ في أعماقه، فثمةَ إلهٍ أصم، لا رحمة في قلبه الصلد، مُزودٍ بكُل أسلحة الفتك و إمكانات التدمير، لا يرحل لأنهُ يمتلك حبلاً سرياً إلى بطن المدينة، إلا أنهُ في اللحظة التي سيقرر ناسها قطعهُ، فستكون عندئذٍ طقوس موته قاسية لن ترحم أحداً، إذ سترعد حينها سماءُ المدينة لتصب على مواطنيها جامَ شرورها، و ستهتز أرضها لتخرج الحمم و تدمرها.
هل حقاً ترتبط القامشلي مع صنمها، بقاءً و فناءً، أيُّ لعنةً هذه التي أصابت المدينة؟
*     *     *
المسألة في القامشلي لا تتعلق في الحقيقة بوجود مجموعة من الشجعان أو المتهورين الذين يفتقدون إلى الحكمة و لديهم رغبة أكيدة لتحطيم صنم الأسد مهما كان الثمن، و لا تتعلق كذلك بوجود مجموعة أُخرى هي بالمُقابل من الحُكماء أو لنقل من المُداهنين، التي تخاف من الاقتراب منه بِشر خشية العواقب، و في المحصلة بوجود صراع بين إرادة الطرفين، المسألة في حقيقتها هي أن إسقاط الأصنام عملية رمزية و تحصيل حاصل كما حدث في الرقة، لذلك عندما يتساءل البعض باستغراب عن أسباب عدم إسقاط ذلك الذي ينتصف القامشلي حتى الآن فلأن جهةٍ ما قد وضعت الجميع في صورة وردية عن تحرير المنطقة الكُردية، لذلك يشعر المستغربون أن نتائج التحرير و منها إسقاط الصنم قد تأخرت كثيراً بعد تلك المزاعم التي استفاد منها مروجوها عسكرياً و مالياً و سياسياً و أمنياً (و كل شيئياً)، إذ كيف يستقيم التحرير و حصد نتائجه من جهةٍ مع وجود الصنم و المستفيدين من طرد جماعتهُ ـ الغير مطرودين ـ من جهةٍ أُخرى.
و بهذا المعنى يُصبح الهجوم على الصنم في حال عدم صحة عملية التحرير ـ و هو الواقع ـ عملية غيرُ مجدية، فهو يُشبه الهجوم على (البردعة) لإسقاطها، في حين أن الحمار واقفٌ على قوائمهُ الأربعة يمنع وصولها إلى الأرض، ذلك أن إسقاط الحمار، و هو الأولوية هنا، و هو مرحلة المفروض فيها أنها قد مضت و انتهت، يتبعه في المُحصلة سقوط البردعة التي من غير الممكن أن تبقى مُعلقةً في الهواء بعد ذلك، إلا أن المُستغرب هنا هو تعانق التحرير و الاحتلال معاً و دخول (الثوار و أعداء الشعب) في رقصةٍ ثنائية على صفيحٍ واحد، بحيث أصبح صنم الأسد ذاتهُ ـ دون غيره ـ يذرف الدموع و هو يلوح لمواكب الشهداء مودعاً إياهم إلى مثاويهم الأخيرة، و هم الذين سقطوا ـ حسب الزعم ـ في قتالٍ ضده.
*     *     *
و أخيراً، أيُّ جدوىً لتنظيف الساحات من أصنام الدكتاتور إذا كان هناك من هو أكبر منها حجماً، يجثمُ على العقول، مُنتظراً الفرصة ليتجسد على المِنصات ذاتها..
ينبغي إذاً، و قبل توجيه المعاول نحو تلك الكتل الصماء في الساحات، فتح بوابات العقول لشموس الحُرية لتنير عتمات الخوف و الوهم و العبودية في تلك الأماكن المُعتمة التي لم يمر النور بين تلافيفها… ينبغي فتح النوافذ لنسائم الربيع لتقوم بفتح أزاهيرها و تنظيفها ما من أشواك الماضي.
عندها فقط سينهار من في الساحة على نفسهُ، من تلقاء نفسه..
حسين جلبي
jelebi@hotmail.de
https://www.facebook.com/hussein.jelebi?ref=tn_tnmn

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح…

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…

صالح جانكو حينما يتوهم القائمون على سلطة الأمر الواقع المؤقتة بأنهم قد شكلوا دولة من خلال هذه الهيكلية الكرتونية، بل الكاريكاتورية المضحكة المبكية المتمثلة في تلك الحكومة التي تم تفصيلها وفقاً لرغبة وتوجهات ( رئيس الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية)وعلى مقاسه والذي احتكر كل المناصب والسلطات و الوزارات السيادية لنفسه ولجماعته من هيئة تحرير الشام ، أما باقي الوزارات تم تسليمها…

خالد جميل محمد جسّدت مؤسسة البارزاني الخيرية تلك القاعدة التي تنصّ على أن العمل هو ما يَمنحُ الأقوالَ قيمتَها لا العكس؛ فقد أثبتت للكُرد وغير الكُرد أنها خيرُ حضن للمحتاجين إلى المساعدات والمعونات والرعاية المادية والمعنوية، ومن ذلك أنها كانت في مقدمة الجهات التي استقبلَت كُرْدَ رۆژاڤایێ کُردستان (كُردستان سوريا)، فعلاً وقولاً، وقدّمت لهم الكثير مما كانوا يحتاجونه في أحلك…