دهام حسن
وكانت هذه الولاءات من أمتن روابط الوصل بين الجماعة البشرية الواحدة.
أما القول بوجود القومية في المجتمعات القديمة فمثار جدل و اختلاف شديد بين الآراء، فجميع الرعايا في المملكة أو الولاية أو المقاطعة كانت تتساوى في التبعية، ولم يكن هناك أي اضطهاد على أساس قومي بتعبير اليوم، ربما شغلت جماعة ما مكانة متميزة إما بسبب صلة قربى الملك أو الأمير لإحدى تلك الجماعات أو أن أحدهما قد عاش في كنفها ونهض من بين ظهرانيها.
وعلينا هنا أن نميز بين الولاء للملك أو للقبيلة أو للدين أو الولاء للموطن الذي يحضن بعض الجماعات البشرية ويؤطرها في نظام سياسي ، اقتصادي، اجتماعي معين.
ينبغي أن نميز بين هذه الولاءات وبين الولاء للقومية الحديثة، أمر آخر في هذا المنحى.
عاشت البشرية قروناً وهي تكابد شظف العيش، وكان همها الأول هو البقاء والتواصل في الحفاظ على الجنس البشري، ولم تكن لديهما فسحة للتفكير والتخطيط خارج هذا النطاق في جو مشبع بمواعظ رجال الدين كما لم تكن الرابطة القومية هاجسهم أو تدر في خلدهم كهدف أو كمشروع، علاوة على ذلك نقول: في النظام الإقطاعي لم تكن ثمة أمم تتشكل على أسس قومية، فالإقطاعية المناطقية عادة تتشكل من أجزاء متفككة، كل جزء يستقل بنظام اقتصادي اجتماعي معين على رأسه أمير إقطاعي، ثم أن هذه الاستقلالية التي قد تخلف بمرور الزمن تراكماً ثقافياً يجعل ترابط مكونات هذه المقاطعة ترابطاً متيناً ويولد لديها شعوراً جماعياً مشتركاً، مثل هذا الشعور يمكن أن يصطبغ باللبوس القومية لكنها لا تفضي إلى ظهور القومية الحديثةبيد أن هذه الاستقلالية لا تدوم بسبب الطبيعة السياسية للحكومات في تلك الحقبة، فسرعان ما تجد نفسك تنتقل من مملكة إلى أخرى، أو تتوسع هذه المملكة نتيجة الحروب والغزوات غالباً وأيضاً بسبب مصاهرة الملوك فيما بينهم أو موتهم أو بسبب الشراء أو المخادعة، أو جراء انتقال الجماعات من منطقة إلى منطقة أخرى لتنخرط ضمن رعايا المملكة الجديدة.
في ظل هكذا مناخات غير مستقرة لا يمكن للمفاهيم القومية أن تنتقل أو تتثبت في أذهان الناس، فضلاً عن رداءة الطرق، وطغيان الأمية، وصعوبة التجارة، وبدائية الصناعة، ناهيك أن سكان الكرة الأرضيةفي منتصف القرن الثمن عشر كان بحدود 700 مليون، ترى ماذا كان نصيب العرب وبلاد الشام خاصة من هذا العدد الصغير نسبيا والمتشظي على القارات الخمس 0 كل هذه الأمور كانت تحول دون انتقال الأفكار وبروز الوعي القومي.
ما يؤكده الباحثون في الفكر القومي أن هذا الفكر هو نتاج البرجوازية في أوربا، ويرجعون تاريخه إلى الثورة الفرنسية عام 1789 ليتبلور كممارسة سياسية في القرن التاسع عشر عصر القوميات كما هو شائع ومتداول.
بداية في ألمانيا إثر حروب نابليون على الدويلات الألمانية فجاءت وحدتهم القومية على يد بسمارك لاحقاً كما توضحها كتب التاريخ.
إن القومية من مخلفات الثقافة التراكمية بمجموعها، فالإنسان لا يصبح قومياً بالولادة لكن مساهمة مختلف العناصر الثقافية والاجتماعية والسياسية تكسبهم هذه الهوية، فالقومية ليست من الطبيعة البشرية فهي ظاهرة اجتماعية وسياسية كأية ظاهرة تظهر وتختفي تبعاً للظروف التاريخية.
إن ظهور الفكر القومي لا بد أن تسبقه قرون من حراك القوى الاجتماعية وتفاعلها في إطار قضايا سياسية واجتماعية وفكرية.
ففي عصر النهضة، أعاد مفكرو الغرب النظر في كل القيم والمفاهيم والمبادئ السائدة في القرون الوسطى ثم جاءت حركة الإصلاح الديني التي أفسدت على الملوك واللاهوتيين الحكم بحق موهوب من الله، ثم كانت الثورة الصناعية التي ساعدت في توحيد الأقاليم، وهدم التجزؤ وتشكل المدن وخلق مناخ من الترابط والتواصل والتوحد، إن ظهور الثقافات الجماعية في المجتمع البرجوازي الذي اكتملت فيه عناصر الحداثة ساهمت على تبلور الفكر القومي، فتحررت بعض الدول، وتوحدت بعض الأقاليم، حيث انتهى بها الأمر آخر المطاف إلى تكوين الأمم القومية من ( تداخل وتمازج عشرات الأقوام ) بتعبير ساطع الحصري – وليس بدعوى الأصول المشتركة، تلك الخرافة التي يدحضها العلم والتاريخ.
ففرنسا الحالية لم تكن سوى جزيرة تحيط بمدينة باريس، ثم توسعت حتى وصلت بمضي الزمن على ما هي عليها اليوم بحدودها المعروفة.
ولا ننسى أن منطقة الإلزاس كانت ألمانية، ضمت إلى فرنسا، ثم جاءت الثورة الفرنسية، فآثر سكان الإلزاس أن يكونوا فرنسيين تحت تأثير شعار الثورة ( الإخاء، العدالة، المساواة ).
وربما انطلق العالم الفرنسي رينان في تعريفه للأمة عام 1882 بنظرية انبنت على الحالة الفرنسية وكيف ضم إليها إقليم الإلزاس فتحول سكان الإقليم إلى فرنسيين بإرادتهم.
يقول رينان ( الأمة جماعة من الناس اتفقت مشيئتهم على أن يعيشوا سوية) وأيضاً..
حتى عام 1539 كانت اللغة الإنكليزية هي اللغة السائدة في فرنسا، ثم صدر مرسوم بجعل اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية بدلاً من الإنكليزية واللاتينية، فقد ساهمت الطباعة بعد انتشارها في إحياء لغاتٍ عديدة.
.
مثال بلجيكا ما إن تحررت من هولندا حتى راحت تستعمر “كونغو” وهنا يدفعنا الاستنتاج إلى القول بأن الحركات القومية لا يمكن أن توسم بالتقدمية بالضرورة مثال الفاشية والنازية فهما برزتا كحركتين عنصريتين استعماريتين بامتياز.
إن الحركة القومية قد تلعب دوراً تقدمياً في صراعها مع القوى الخارجية المهيمنة، وهنا يمكن أن يصطبغ نضالها ضد المحتلين بالصراع الطبقي لكنها تفقد هذا السلاح بزوال الإحتلال، وتستنفد بالتالي نهجها النضالي لتتحول إلى حركة شوفينية تتستر بعباءة القومية، لتخيب آمال أولئك الذين اندفعوا نحو الحركات القومية تحت تأثير الموروث الثقافي، وتجاوب الجانب السيكولوجي في الفرد، فالنداء بإقامة دولة قومية على أساس الأصول المشتركة القومية ليس أمامه سوى ممارسة جميع أشكال الاضطهاد والتمييز و إضعاف للمواطنة .
.
.
وهذه الممارسات تؤكد ما يقوله الياس مرقص من أن نوازع الاستعلاء والتوسع والتسلط والتحكم جزء من مملكة الفكرة القومية وهذا – بلا ريب – مذهب صعب، ومركب مضطرب.