وصباح اليوم 13 مارس، أطلق حزب العمال الكوردستاني سراح (ثمانية ) أتراك كانوا محتجزين لديه قيل أنّ بينهم ضابطان كبيران.
على أيّ حال، ثمّة اختلاف وتباين واسعين حول دوافع وخلفيات كلّ من الحكومة والحزب مثلما هناك خلافٌ داخلي شديد في تركيا حول العملية الجارية بينهما.
فهناك مَنْ يعتقد أنّ جلّ اهتمام الحكومة التركية ينصبّ على نزع سلاح الحزب أو على الأقلّ إخراج السلاح من الخدمة داخل حدود تركيا ووقف تهديده عبر حدودها وأنّها تسعى إلى استغلال وضعية أوجلان الأسير لديها وتستثمر تأثيره المطلق على رفاقه المعنيين بالقرارين السياسي والعسكري لتحقيق ذلك الهدف لقاء وعود بإصلاحات دستورية تقرّ وتوسّع هامش الحقوق الثقافية والاجتماعية والسياسية «لمواطني تركيا الأكراد» ولتُظهِر بالتالي حزب العدالة والتنمية وقادته بصورة القاضي على الإرهاب والمحقّق للسلام والاستقرار في البلاد وبالتالي قطف ثمار ذلك من خلال إجراء تحوّل في النظام السياسي والانتقال به من البرلماني إلى الرئاسي وتأمين هيمنة الحزب على مقاليد حكم البلاد لأمدٍ طويل وكذلك تهدئة مخاوف الأوروبيين من آثار النزاع المسلّح داخل تركيا وتخفيف تحفّظاتهم على انضمامها إلى اتحادهم.
كما يُمكن الاعتقاد بأنّ تركيا، وبعد تورطها العميق في شأن سوريا وطول أمد الصراع في هذا البلد، تسعى إلى دفع حزب العمال الكوردستاني إلى نقل مركز ثقله العسكري إلى الساحة السورية ومن ثمّ توريطه في صراع داخليّ سوري هناك يُلهي الحزب عنها بدايةً ويسهّل لها القضاء عليه لاحقاً، خاصّة إذا ما نجحت في إحداث شرخٍ في جسم الحزب بإثارة صراعٍ داخليّ في صفوفه أو بينه وبين قوى كوردية أخرى .
لا يقتصر التباين على تفسير دوافع الحكومة بل ويمكنه أن يطال أيضاً موقف الحزب، بين الاعتقاد بأنّ الحزب مسلوب الإرادة والقرار بعد اختطاف أوجلان وأنّ الرجل يتحكّم، من معتَقله، بالقرار ويجيّره لصالح مصيره الشخصي حيث الهاجس الوحيد من وراء مبادراته هو التحرّر من السجن والخروج إلى فضاء ممارسة دوره طليقاً وأنّ قيادة الحزب ترضخ ولو على مضضٍ لتوجّهه والاعتقاد بأنّ الحزب يعيد تقييم حساباته بعد تأكّده من سقوط النظام السوري عاجلاً أو آجلاً وما سيتركه هذا السقوط من آثار عليه وعلى حركته إذا ما حكم سوريا نظامٌ حليف لتركيا ولذلك يسعى لتبريد الصراع مع تركيا مؤقتاً ليمرّر سيطرته على الساحة السياسية في غرب كوردستان دون مقاومة تركية عنيفة لذلك.
كما يمكن الاعتبار أنّ الحزب وبعد ما حقّقه من تقدّم على ساحة المشاركة السياسية في تركيا من سيطرة على عددٍ كبير من البلديات والإدارات المحلية والوصول القوي إلى مركز القرار التشريعي، عبر ذراعه السياسية حزب السلام والديمقراطية أكبر الأحزاب الكردية المرخّصة والذي حقّق أكثر النسب فوزا في تاريخه بالبرلمانات التركية المتعاقبة وذلك في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 12 من يونيو 2011 ، حيث حقّق مرشحوه البالغ عددهم 36 فوزاً كبيراً ، بتحالف واسعٍ ومتنوع مع طيفٍ سياسي كردي و يساري، يسعى لتعزيز هذا التوجّه السلمي والمدني في النضال الذي يحرج السلطات التركية ويعززّ موقفه على الساحة الدولية ويمهّد لتغيير الموقف الأوروبي من وضعه على لائحة المنظمات الإرهابية.
وإلى جانب كلّ هذه التحليلات النائحة باتجاه إعطاء الطابع التكتيكي للعملية الجارية بين الحزب والحكومة، يمكن التصوّر بأنّ كلاً من الحكومة والحزب قد توصّلا، بعد ثلاثين عاماً من النزاع الدامي، إلى قناعة بأنّ لا حلّ لهذا صراع إلا بالسبل السياسية على قاعدة الحوار والتفاوض وأنّهما جادّان في سلوك مسارٍ تفاوضي يفضي في نهاية المطاف إلى تسوية للمسألة الكوردبة.
وبغضّ النظر عن كلّ هذه التحليلات، وعن الخلاف التركي الداخلي بين الحكومة والمعارضة التي تتّهمها بالإذعان للإرهاب والاستسلام له والمجازفة بتعريض وحدة البلاد للخطر بل وحتى ربّما التباين داخل الحكومة نفسها حيث صرّح رئيسها أردوغان بأنّ حزبه مستعدٌّ لتجرّع السم من أجل إيقاف الحرب صرّح وزيرٌ فيها يوم الخميس 14 مارس بأنّ حكومته غير مستعدة لتقديم أيّ تنازلات لحزب العمال الكوردستاني، بغضّ النظر عن كلّ هذا، لو لم يكن هناك مناخ عامّ يسود الرأي العامّ التركي الصانع لتوجّهات السياسة العامّة للبلاد على مستوى نخب اقتصادية وسياسية وثقافية وإعلامية واجتماعية تُشاع فيه القناعة بضرورة إيجاد حلّ سياسي للقضية الكوردية وبأنّ هذا الحلّ لا يمكن أن يتحقّق من دون إشراك حزب العمال الكوردستاني ولاسيما زعيمه فيه، لما أقدم حزب العدالة والتنمية وحكومته على هذه الخطوة (التفاوضية) مع الكوردستاني.
إلى ذلك، يمكن أن نلاحظ تغيّر المعطيات الداخلية والإقليمية التي كانت تؤثّر على قرار طرفي النزاع في المرحلة السابقة.
فقد سبق وأُطلِقَت مبادرات عدّة كان أهمّها في بداية التسعينات من القرن المنصرم، بوساطة من الزعيم الكوردي العراقي جلال الطالباني، حين جرى تفاهمٌ غير مباشر بين حكومة الراحل تورغوت أوزال والكوردستاني على إعلان الحزب وقفاً لإطلاق النار تمهيداً للبحث عن سبلٍ للحلّ السلمي للمسألة الكوردية ولكنّ الممانعة الداخلية في تركيا من قبل المؤسسة العسكرية ومن خلفها المتطرفين القوميين من جهة والقوى الإقليمية المتضررة من تلك المبادرة من جهة أخرى نجحت في إفشال تلك الميادرة إذ أقدم قائدٌ محلّي في الكوردستاني، خلال فترة وقف إطلاق النار، على احتجاز حافلة عسكرية وإعدام مَنْ فيها من جنود بينما يُشاع الاعتقاد بأنّ أوزال وأحد كبار جنرالات الجيش قد دفعا حياتهما ثمناً لدعمهما مبادرة الحلّ السياسي.
والحال أنّ محاولات التوسّط بين الحكومة والحزب لم تتوقّف لإقناعهما بضرورة التخلّي عن النزاع المسلّح واللجوء إلى الحوار والتفاوض لإيجاد حلّ سلمي.
ربّما تكون أكثر هذه المحاولات جدّية هذه التي تأتي من قيادة إقليم كوردستان، والتي يُشاع الاعتقاد بأنّها معزّزة بتأييد أوروبي بل وأمريكي، خاصّة بعد التحسّن الكبير في العلاقة بينها وبين الحكومة التركية ويبدو أنّها قد نجحت حتى الآن في فتح الباب أمام هذا الحلّ.
ولكن إذا أريد لهذه الخطوة أن تحظى بالجدية والمصداقية وأن تتحوّل إلى مسارٍ سياسي استراتيجي هدفه النهائي تحقيق الحلّ العادل للقضية الكوردية، لا بدّ، أوّلاً، أن تنتقل الحكومة التركية من التفاوض الخجول والمحرج وغير المباشر عبر جهازها الاستخباري مع الأسير لديها إلى التفاوض الواضح والصريح والمعلن مع المرجعية السياسية الكوردية وهذا لا يعني إقصاء أوجلان وإنّما إطلاق سراحه ليكون جزءاً من هذه المرجعية طالما أنّ الحكومة التركية مقتنعة بأنّه صاحب القول الفصل في هذا الشأن، كما يتطلّب من الكوردستاني عدم الاستئثار والاستفراد بالتمثيل الكوردستاني وإنّما السعي مع كلّ القوى الكوردستانية الأخرى إلى بناء هذه المرجعية الكوردية وربّما تشكّل دعوة أوجلان إلى إشراك الزعيم السياسي كمال بورقاي في جهود الحلّ إشارة إيجابية ودلالة على ضرورة هذه المرجعية.
ثانياً، لا بدّ لتركيا أن تُقلِع عن سياسة تصوير القضية على أنّها مسألة نزاعٍ مع حزبٍ توصمه بالإرهاب وتسعى لتسوية تُقنع به الحزب للتخلّي عن عمله المسلّح والإقرار بأنّ القضية قضية شعب لا بدّ أن تتفاوض مع ممثليه للتوصّل إلى حلّ عادلٍ يحقن دماء أبناء الشعبين الكوردي والتركي ويقطع الطريق أمام احتمال عودة النزاع الدامي بينهما وعليها أن تسعى إلى إقناع شعبها بذلك.
في اللحظة التي يدرك فيها ملايين الأتراك الذين احتفلوا بفوزهم الرياضي أنّ نجاح جهود وقف إراقة الدماء وحلّ القضية الكوردية حلاً سلمياً ديمقراطياً عادلاً يخدم مصالح بلادهم وشعبهم أكثر من فوزهم ببطولة دوري أبطال أوروبا سيكون هناك أملٌ حقيقي في حلٍّ تاريخيٍّ حقيقي.
إذا كان وحدهم الأتراك يهمّهم إلى أين سيصل فريقهم في مشواره فإنّ شعوب المنطقة برمّتها، ومعها العالم أجمع، يهمّها إلى أين سيصل التفاوض في مساره!