البارزاني الكبير كما عرفناه

صلاح بدرالدين

  في بحر الأسبوعين الأولين من شهر آذار الجاري تتم الاستعدادات في اقليم كردستان العراق خصوصا وباقي مواقع الانتشار الكردي عموما لاستذكار الزعيم القومي الراحل مصطفى البارزاني ( 1903 – 1979 ) من جانب محبيه والمعجبين بنهجه في كل من يومي الواحد من آذار ذكرى رحيله والرابع عشر منه يوم ميلاده عبر المسيرات الشعبية نحو مزاره الذي يرقد فيه جثمانه مع نجله ادريس في قرية بارزان وكذلك الفعاليات الثقافية حول تاريخه الحافل بالأحداث الجسام والمليء بالعبر والدروس ودوره المؤثر في الحركة القومية الكردية والحركة الوطنية العراقية لعقود ومراحل مشهودة وسأحاول بهذه المناسبة وفاء مني لذكرى الراحل الكبير وكمعاصر لجزء من مسيرته ومتابع لكفاحه في أدق الظروف ومعجب بنهجه القومي والوطني أن أسرد بايجاز جوانب من مشاهداتي وانطباعاتي وفهمي حول هذا الرمز القومي ومن موقعي المسؤول آنذاك في الحركة الكردية السورية .
–         *  –

  اذا كانت الحركة الكردية السورية بمفهومها العام تبدأ من – خويبون – في عشرينات القرن الماضي الاأنها تدين بصورة مباشرة في بنائها السياسي الحديث لتأثيرات النهوض المتقدم في الحركة الكردية بكردستان العراق وتحديدا من جانب النشاطات الثورية للعائلة البارزانية منذ ثلاثة أجيال والتي برزت وقادت الانتفاضات والثورات ضد الاحتلال الاستعماري والأنظمة الرجعية ومن أجل الحرية كمثيلاتها من بيوتات وعوائل وزعامات وطنية ظهرت في بلدان الشرق الأوسط في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تتصدر حركات التحرر الوطني وكانت منطقة بارزان أكثر قربا الى غرب كردستان وأشد تأثيرا وبصورة أدق في عهد قيادة الزعيم الراحل مصطفى البارزاني الذي ارتبطت القضية القومية الكردية باسمه محليا وفي المحافل الاقليمية والدولية ومنذ أن دخلنا معترك العمل السياسي توجهت أنظارنا الى البارزاني كمرجعية قومية والى كردستان العراق كمركز متقدم لحركة التحرر القومي الكردستانية .

–         *  –

    تابع كرد سوريا بالكثير من الآمال عودة البارزاني من منفاه – السوفييتي – الى بلاده بعد ثورة تموز ومروره بمصر ولقائه وصحبه مع الزعيم العربي جمال عبد الناصر والانجازات الدستورية والسياسية التي تحققت في العهد الجمهوري بالعراق كما وقفوا بكل قواهم مع ثورة أيلول عام 1961 التي قادها البارزاني رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني تحت شعار ( الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان ) والى جانب التحاق المئات من الشباب الكرد السوريين بصفوف الثورة كانت أخبارها محط اقبال منقطع النظير من جانب كل الوطنيين الشرفاء الى درجة تحول قضية الثورة وشؤونها الى مسألة كردية سورية داخلية وجزء لايتجزأ من العمل الحزبي وانعكس انقسام ( 66 ) المؤسف بكل ذيوله وترسباته على قضايا الخلاف والصراع بين يسار الحركة الكردية السورية ويمينها .

–         *  –

   بعد انبثاق اليسار الكردي السوري في اطار تنظيمي مستقل منذ كونفرانس الخامس من آب لعام 1965 وحسم الصراع مع اليمين بانقاذ الحركة وتجديدها والانحياز الكامل لنهج البارزاني القائد الشرعي للثورة وبعد مرور عامين وتحديدا في ( أيار 1967 ) تم اقرار ارسال وفد قيادي للقاء قائد الثورة والحزب وكان لي شرف رئاسة الوفد والاجتماع مع البارزاني الكبير وبعد مشاورات ومباحثات مطولة والاطلاع على الوضع ميدانيا تبين لنا كما توقعنا بالسابق أن الثورة مستمرة ومعبرة عن ارادة كرد العراق ومتمسكة بالثوابت وأن قيادتها ملتزمة بالقضية الوطنية العراقية ومتحالفة مع الشيوعيين والديموقراطيين العرب وعازمة على تحقيق الديموقراطية ومنحازة الى فقراء ونساء كردستان وأن كل مايبث ضدها من اتهامات ماهي الا ادعاءات باطلة كما فهمنا المشهد على حقيقته عندما تبين لنا أن اليسار الديموقراطي الكردي في مختلف أجزاء كردستان هو الأقرب الى الثورة بل متحالف مع قائدها البارزاني وله مكاتب ومقرات في المناطق المحررة .

–         *  –

  لم تسبب نكسة ثورة أيلول عام 1975 بفعل عوامل خارجية بالأساس وذاتية أيضا وأولها اشتداد مرض البارزاني بداء السرطان في زوال وتصفية الحركة الكردية في العراق كما خطط لذلك نظاما صدام وشاه ايران وسكوت وتواطؤ الادارة الأمريكية والغرب عموما بل جددت الحركة نفسها وأعادت بناءها لتستكمل ثورة أيلول بثورة – كولان – والانتفاضة وتحرير المناطق وتنظيم الانتخابات البرلمانية عام 1992 واعلان الفدرالية وهي كلها خطوات وانجازات تحققت بفضل ثورة ايلول وماقبلها وتبقى بصمات البارزاني الكبير واضحة وشاخصة في كل ما يحققه شعب كردستان العراق الشجاع بكرده وكلدانه وتركمانه وآشورييه وأرمنه .

–         *  –

  كان البارزاني الكبير كزعيم وقائد قومي وبحكم ممارسته العملية في الانتفاضات والثورات وتنقله بين عدة أجزاء من كردستان ومشاركته في مسؤولية أول حكومة مستقلة في جمهورية مهاباد ولجوئه الى الاتحاد السوفييتي في أطول مسيرة شائكة ومكوثه هناك مع مئات من رفاقه قرابة احدى عشر عاما قد أسعفته خبرته وتجاربه وتعامل الدول والقوى الكبرى معه على أن تجتمع فيه كل الصفات القيادية لشعب يرنو الى الحرية وقد ظهرت كفاءته وسعة اطلاعه في كلمته بمؤتمر باكو عندما حدد استراتيجية الحركة التحررية الكردية كرافد من روافد الثورة العالمية وفي كونفرانس – كاني سماق – السياسي – العسكري – حيث كنت هناك كضيف – ألقى كلمة جامعة حول مهام الثورة والحزب القومية والوطنية والاجتماعية ورؤيته للعلاقات الكردية العربية على اساس الصداقة والعيش المشترك وكذلك حول عراق المستقبل والحرب والسلام والموقف من الانقساميين وتعتبر كلمتاه الآنفتان أهم المصادر الفكرية لنهجه في حركة – الكردايتي – .

–         *  –

   كان البارزاني الكبير يقضي جزءا كبيرا من الوقت والجهد وبمساعدة نجله الراحل – ادريس – في متابعة شؤون وشجون الحركة الكردية في أجزاء كردستان الأخرى ينسق مع قادتها ونشطائها ويصارحهم حول المواقف والسياسات ويقدم لهم النصح ولايألو جهدا في تقديم العون والدعم ويحرص على الوحدة والاتحاد وكانت مبادرته في توحيد الحركة الكردية السورية عام 1970 في مؤتمر ناوبردان ومهما قيل وتردد حوله تهدف الى تعزيز الصف الكردي السوري .

–         *  –

   خلال تواصلي مع قادة حركة التحرر العربية من فلسطينيين ولبنانيين ويمنيين وكذلك مسؤولي ودبلوماسيي الدول الاشتراكية سابقا وخاصة الراحل ياسرعرفات والشهيد كمال جنبلاط كنت أشعر بمدى اهتمامهم بمعرفة جوانب من حياة وتاريخ البارزاني الكبير والاحترام الفائق الذي يكنونه له .
  عندما رحل البارزاني الكبير في ظروف صعبة لم تكن بعيدة عن آثار النكسة والحصار وعم الحزن بين الكرد الطيبين في كل مكان وبعد أن تقاعس البعض من رفاقه القدامى واختبأ آخرون وقلب البعض له ( ظهر المجن ) وتبرأ منه اما لمصالح ذاتية أو خشية من أنظمة وحكام ظالمين وكنت حينها في بيروت تأثرت بذلك الحدث الجلل وتوجهت الى نجله الأخ مسعود بارزاني برسالة تعزية وتلقيت جوابه عليها وهذا نصهما :
  الأخ السيد مسعود بارزاني المحترم
 تحية وبعد – تلقينا بأسف بالغ نبأ وفاة والدكم المرحوم ملامصطفى بارزاني الذي تعرفنا عليه عن كثب وتربطنا به ذكريات لاتنسى وبهذه المناسبة الأليمة نتقدم منكم ومن خلالكم الى كافة أفراد عائلة الفقيد بالتعازي الرقيقة متمنين لكم الصبر على هذا المصاب الجلل , ان الاختلاف حول بعض المسائل الرئيسية في الحركة الديموقراطية للشعب الكردي لاينفي تقديرنا للدور البارز الذي لعبه الفقيد في مختلف مراحل تطور الحركة الكردية في العراق بشكل خاص وعلى مستوى الحركة الكردستانية بشكل عام حيث أضحى تاريخ حياة الفقيد جزء من تاريخ الحركة الكردية قبل وبعد ثورة ايلول 1961  وخلال مراحل المد والجزر المختلفة ذلك التاريخ الذي أصبح ملكا للشعب الكردي وجميع فصائل حركته التحررية يراجعه ويقيمه ويتخذ منه الدروس والعبر , ان المرحلة الراهنة التي تجتازها الحركة الكردية وعلى ضوء التطورات النوعية الهامة في الحركة الثورية بالمنطقة تطرح مجددا على مختلف القوى الكردية ضرورة تقييم سلوكها نحو المزيد من الارتقاء الى مستوى أهمية ودقة المرحلة وتمييز الأعداء من الأصدقاء وحسم الموقف من القضايا الأساسية على طريق ازالة الشوائب السلبية وادانة الممارسات الضارة التي تلتقي مع مخططات أعداء الشعب الكردي من امبريالية وصهيونية ورجعية وشوفينية والتلاحم بين فصائلها الوطنية والديموقراطية والاتحاد مع القوى الثورية لدى الشعوب العربية والايرانية والتركية والتضامن الكفاحي مع حركة الثورة العالمية والمنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي , نكرر لكم تعازينا الأخوية واحترامنا –  صلاح بدرالدين – الأمين العام للبارتي الديموقراطي الكردي اليساري في سوريا .
بيروت في : 3 – 3 – 1979 .
 الرسالة الجوابية : الأخ العزيز صلاح بدرالدين المحترم – تحية أخوية وبعد – أقدم لكم جزيل الشكر على تعازيكم الرقيقة بمناسبة وفاة والدنا , ونشارككم الرأي في أن تاريخ الفقيد أصبح جزء من تاريخ الشعب الكردي المناضل فقد ضحى الفقيد بكل حياته من أجل قضية شعبه ولانشك في ان الشعب الكردي سيقدره ويخلده , ان التجارب التي مرت على الحركة التحررية الكردية أكدت أن الموقع الطبيعي للحركة الكردية هو الوقوف بجانب الحركة التحررية في المنطقة والتآخي مع الشعوب العربية والتركية والايرانية في المنطقة والتحالف مع المعسكر الاشتراكي وأن محاربة الامبريالية والصهيونية والرجعية واجب من أقدس واجباتنا فقد تآمرت هذه الجهات للقضاء على حركتنا ناهيك عن الاختلاف الجوهري بيننا كأمة مضطهدة وبينها كجهات معادية للشعوب , ان المرحلة الراهنة تتطلب منا جميعا وحدة الصف لأننا لانصل الى النصر الا بوحدتنا ومن ثم بسلامة ممارساتنا , أكرر لكم شكري وتقديري ودمتم – المخلص :

  مسعود بارزاني    – 20 – 3 – 1979

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…