الثورة السورية من السياق الزمني إلى الراهنية

دلدار قامشلوكي

ينظر البعض إلى الثورة السورية بوضعيتها الراهنة و بشكل تجريدي و معزول عن سياقها الزمني فلا يرى فيها إلا صراعاً دموياً بين طرفين مسلحين متنازعين يسعى كلٍ منهما إلى إنهاء الآخر عسكرياً دون الغوص في مآلات الواقع السوري و المراحل الزمنية، أو قسرية المنحى الدموي لمظاهرات سلمية اتسمت بالرقي و طالبت بالحرية و الكرامة التي حولها النظام بوحشيته المنقطعة النظير إلى حرب طاحنة رعناء حينما أرغم المواطنين (المتظاهرين و غير المتظاهرين) على حمل السلاح دفاعاً عن كرامتها المهدورة على أيدي قوات النظام و أمنه و شبيحته، ولم يكن لهم غير ذلك
 فليس ثمة خيارات في مجرى الأحداث مع تعنت النظام و تمنعه عن إجراء أية تغييرات في بنيته، أو حتى مجرد إصلاحات ذات فعالية و تأثير يذكر، لذا فما كان على المطالبين بالحرية إلا العودة لبيت الطاعة مهزومين و القبول مجدداً بحكم عصابات الشبيحة لعقود أخرى مع ما يعنيه ذلك من قبول شروط الخصم و قوانينه و ما يترتب على ذلك من تداعيات و مآسي على المهزوم في الحرب، أو السير في مسعى الحرية و حمل السلاح في وجه تلك العصابات مهما كانت مآلات الحرب و نتائجه على الرغم من عدم التكافؤ في ميزان القوى و العتاد.

القائمون على الثورة السورية و حاملوا لوائها قد استنفذوا عبر سنين من العمل المعارض سابقاً و في مسار الأحداث لاحقاً كافة خيارات العمل السلمي المعارض ابتداءً من النقد ثم الاحتجاج و التجمع، الاعتصام و التظاهر مروراً بتقديم عرائض تتضمن المطالب المحقة للمواطنين و حقوقهم على اختلاف انتماءاتهم و ولاءاتهم و الإفشاء الإعلامي، و اقتراح سبل المعالجة و مسارات الحل، و لقاء المسؤولين في أعلى مراتب السلطة، و ليس انتهاءً بمؤتمرات الحوار و قراراتها، أو مؤتمرات المعارضة (الداخلية منها و الخارجية)، و محاولات الإضراب العام أو العصيان المدني حيث تم مواجهتها جميعاً بردات فعل سلطوية شديدة القسوة و القوة، و موجات من العنف المفرط و المبرمج الذي تم تغذيته بحقد عقائدي مستدام.

 
إن المراحل التي مرت بها الثورة السورية على اختلاف درجاتها هي سياقات قسرية لا خيار للثائرين فيها و هي نتيجة حتمية لهمجية النظام و ممارساته الوحشية في ظل حماية روسية – صينية من المحاسبة و العقاب من جهة، و تراخي المجتمع الدولي – أو ربما تواطئه – عن إيجاد آلية مناسبة لحل يرضي طموحات الثائرين و يلبي مطالبيهم، و يحفظ حقوقهم من جهةٍ ثانية وكأنه ( أي المجتمع الدولي) يبتغي إطالة أمد الصراع لأطول فترة ممكنة بغية تفكيك كيان الدولة و تدمير بنيتها التحتية كذلك حرف الثورة عن أهدافها النبيلة بتشويه تفوقها القيمي – الأخلاقي عن طريق تسهيل دخول جماعات سلفية جهادية إلى الداخل السوري عبر أراضي دول مجاورة (تركيا على وجه الخصوص، و دول أخرى) تدعو لإقامة إمارة إسلامية تتعارض مبادئها مع مفاهيم الحرية و الديمقراطية، و تقديم الدعم الكافي لها حتى باتت تتصدر المشهد العسكري و تتحمل مهام مقارعة قوى النظام في أكثر من موقع و مكان بغية إرهاق المتقاتلين و إنهاكهم، و إضعاف جميع الأطراف لابتزازهم تمهيداً لفرض شروط الحل على الجميع بما يضمن مصالح القوى العظمى و يحقق أمن إسرائيل على المدى البعيد بغض النظر عن مصالح الشعب السوري و سعيه الدؤوب للحرية.

 
لا شك أن النظام قد افلح في فرض خياراته و تسيير الثورة السورية قسراً حسب السياق الذي رسمه، كذلك نجح في إطالة أمد الصراع و تحويله إلى أزمة مستعصية و بالتالي تأخير سقوطه الحتمي و تضخيم كلفة التغيير، كما أن العديد من القوى حاولت أن تركب أمواج الثورة و ما زالت تحاول اغتصابها، و قد استطاعت بعضها أسر الثورة لصالحها و تحوير توجهاتها بتلاقي أجنداتها مع أجندات أطراف إقليمية أو دولية مما ساهمت في وضع عقبات جمة في طريق سيرها نحو مبتغاها، أو إلقاء ظلال قاتمة على مستقبلها لكن ذلك لا يقلل من شأنها، و لا يلغي كونها ثورة الحرية و الكرامة لن تتوقف و ستبقى مستمرة بأشكال و طرائق مختلفة حتى تحقيق أهدافها في التأسيس لدولة تعددية و إقامة نظام ديمقراطي مدني، فالنتاج السياسي هو فعل نضالي تراكمي إذ أن ربيع دمشق الذي أنتج حراكاً وطنياً عاماً و منتديات حوارية في بداية القرن الحالي و على الرغم من حملات القمع و التنكيل التي طالتها و أدت إلى أفول نجمها بقي مزهراً و لم تزبل وروده بل ساهم بإنضاج ميثاق إعلان دمشق و انطلاقته، و تأطير نضال بعض قوى المعارضة السورية حينها، و نحن اليوم أمام ربيعٍ سوري شامل و مهما اجتاحت نقاؤه من ملوثات، أو اعترت راهنيته من شوائب، أو كيفما كانت المراهنات و التكهنات فلا بد له أن يزهر طال الزمان أم قصر.

 
30/1/2013م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…