م .
بافي زين
لا شكّ أن الأزمة الخانقة التي يعيشها العراق تكاد تعصف بأمن واستقرار شعوبه من عرب وكرد وسائر الأقليات المذهبية والقومية المتعايشة فيه ( كالتركمان والآشورين والكلدان 000 الخ ) وقد تعصف بأمن ومستقبل المنطقة أيضاً ؛ فتضعُنا أمام حقيقة مريرة ، مفادها أن الوضع في العراق قد ينزلق إلى متاهاتٍ خطيرة ، حيث تخرج من نطاق السيطرة ، ولاحقاً قد تجّر العراق إلى حروب أهلية طاحنة ، بين الشيعة المتمثلة بالتيار الصدري واعتماده على الذراع العسكري العقائدي الضارب ( جيش المهدي ) المدعوم من النظام الرجعي الإيراني تمويلاً وتسليحاً ، وهذه التهمة لا تحتاج إلى دلائل وبراهين دامغة في الوقت الذي تصرّح به الجهات العليا و المسؤولة في التيار المذكور جهاراً نهاراً بهذا الدعم من جهة ؛ وبين بعض السّنة الذين لم ينخرطوا في العملية السياسية منذ البداية والمدعومين من قبل بعض الأنظمة العربية الاستبدادية التي لها اليد الطولي في زعزعة أمن العراق
من جهة ثانية ؛ إضافة إلى الحرب المفروضة على العراقيين ، على اختلاف فئاتهم القومية والدينية والمذهبية ، من قبل المنظمات الإرهابية العالمية كمنظمة القاعدة ، وجماعات أصولية متطرفة والتي تتخذ من الإسلام ديناً وديدناً لها، كأنصار الإسلام وجماعة التوحيد والجهاد والجيش الإسلامي في العراق وأخيراً ما سمي ( جند السماء ) والتي تذهب ضحيتها المئات من العراقيين يومياً بفعل السيارات المفخخة والعبوات الناسفة و الهجمات الانتحارية أو استعمال السيوف البتّارة التي تحصد الرؤوس البشرية وترمي بها في الشوارع .
بالإضافة إلى التهديد السّني – المشارك في العملية السلمية – بالانسحاب من العملية السياسية وتشكيل جبهات معادية للسلطة العراقية في دول الجوار العراقي لاستثمارهم من قبل هذه الدول واستخدامهم كورقة سياسية ضاغطة حين الطلب ، ودفعهم باتجاه التملص والتراجع من الاتفاقيات التي أبرمتها مع التحالف الكردستاني والائتلاف الشيعي ، وموافقتهم التصويت على الدَّستور الجديد بعد تشكيل لجان مختصة لمناقشته وتعديل ما يمكن تعديله ، وبالتالي الانخراط في العملية السياسية وقبولهم مبدأ الشراكة الوطنية وممارسة اللعبة السياسية كمخرج وحيد للوصول إلى مبتغاه .
لكن سرعان ما بدؤوا في التفكير والتراجع عن كل هذه الالتزامات بانسحابهم من العملية برمتها أو المشاركة فيها مع عدم قبولهم بمبدأ فيدرالية الأقاليم وتحفظهم على العديد من بنود الدستور وبالتالي وضع شروط جديدة تؤزم الوضع السياسي ، منها على سبيل المثال عودة البعث والجيش السابق إلى الحياة مرة أخرى في البلاد ووضع جدولٍ زمني لانسحاب القوات الأجنبية من العراق .
إن عشرات الخطط الأمنية التي رُسِمَت لوضع حدٍّ لأعمال العنف وتأمين المدن العراقية قد باءت بالفشل ، وقد لا تكون الخطة الأمنية الأخيرة في تأمين بغداد وبعض مدن الوسط ( الرمادي والفلوجة وغيرها ) التي تعيش على صفيح ساخن والموبوءة بداء الإرهاب أفضل حظاً من مثيلاتها السابقة ، هذه الخطة التي أخذت الكثير من جهد البنتاغون في إعدادها وكانت مصدر قلق و إرهاق لدى بوش لإخراجها إلى العلن لسبب بسيط هو أن العراق أصبحت ( حاضنة ) لقوى التكفير والإرهاب الدولي المنظَّم ، وساحةً مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية وتدخلات دول الجوار( إيران ، سوريا , تركيا ) .
حيث أن لكلّ دولة من هذه الدول حساباتها الخاصة ورؤيتها إلى المشهد العراقي بما يتوافق مع مصالحها ، ويعزّز موقفها في مواجهة الولايات المتحدة ، فإيران تسعى إلى إفشال المشاريع الأمريكية في العراق و توريطها في المستنقع العراقي لتصبح قوة أساسية ومنافسة لها، بل تقف حجرة عثرة في كثير من الأحيان أمام الإرادة الأمريكية ، وبات خطر إيران على شعوب المنطقة ، أكثر جلياً ، من السابق ، فسباقها المحموم مع الزمن ضد الإرادة الدولية للحصول على السلاح النووي وتطوير ترسانتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية يزيد من تفاقم الوضع المتأزم في المنطقة والعراق ، وهذا ما تريده إيران ، بل أن قرار الإرهاب والإرهابين والجماعات الخارجة عن القانون في الدولة العراقية أمست مملوكة ومسخّرة للجهات الممولة والراعية لها ، وهي تتحرك وفق مصالح هذه الدول وتنفِّذ أجندتها المعادية للمشروع السياسي والوطني العراقي من جهة ، ولمشروع الأمريكي – الأوربي الهادف إلى تأمين المنطقة وتدجين ( الدول المارقة فيها) إما بإزالة أنظمتها واستبدالها بأنظمة أكثر انفتاحاً ومسالمة مع شعوبها ومتفهمة لمقتضيات الراهن الدولي ومفاهيم النظام العالمي الجديد ، أو إرغامها على تغيير سلوكها لتتماشى وسياقات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط من خلال مشروعها الشرق الأوسطي الجديد من جهة أخرى .
يتوضح مما سبق أن الساحة العراقية أصبحت مرتعاً خصباً للصراعات والأفكار المختلفة من إقليمية ودولية والتي يسعى كلّ منها تصفية الآخر وإلغائه وتثبيت مشروعه على حساب الشعب العراقي الذي يتقلص دوره بفعل أعمال العنف التي تستزف طاقاته البشرية والاقتصادية .وبات من المهم أن تقوم القوى السياسية العراقية كلها بدورها الفاعل والإيجابي ، لتفعّل المشاريع السياسية الهادفة إلى توفير أجواء المصالحة العامة الوطنية ، وسحب البساط من تحت أقدام الدول المجاورة التي تستخدم الورقة العراقية في صراعاتها مع الولايات المتحدة ، وعليها رسم (خارطة الطريق ) الخاصة للخروج من الأزمة وفق استراجية واضحة تنشّط دور السياسة وتقضي على أعمال العنف ، من خلال حلول ناجعة غير الترقيعية للمشاكل والخلافات التي قد تعصف بالعراق ، وخاصة ما يتعلق بمسألة الفيدرالية للأقاليم التي تعزز الوحدة الوطنية ويوحد الشعب العراقي على قاعدة التفاهم والمصالح المشتركة والتعايش السلمي الحضاري بعيداً عن التدخلات الخارجية بعد انسحاب قوات الاحتلال .