هذه الثورة…!

جان كورد

لايمر يوم إلا ويتساءل الموطن السوري “وماذا بعد؟” إلى أين تبحر سفينة ثورتنا المجيدة هذه، بعد أن اجتازت العديد من المضائق المرعبة الصعبة، وتعرضت للأهوال والمشاق، وخسرت في رحلتها التاريخية هذه الكثير من الأرواح والممتلكات السورية، نظراً للوحشية التي مارسها ولايزال يمارسها النظام الأسدي ضد شعبنا وثواره بهدف ايقاف رحلتنا صوب الحرية والكرامة والسيادة الوطنية الحقيقية.
بعض الاجابات تكون على هذا الشكل:”إن هذه الثورة تنقلنا من عهد الاستبداد والظلام إلى أجواء الحرية والسلام. وهذا صحيح إلى حدٍ كبير لأن السواحل التي فارقتها سفينتنا كانت قاحلة وعارية من الإنسانية التي اهترأت في ظل دكتاتورية عائلية ناهبة، ونفاقٍ عالمي لاحرمة فيه لحقوق الإنسان السوري، ولأن المستقبل في ظل كل هذه التطورات العالمية الكبرى لايمكن أن يكون أشد قتامةً واحتقاراً للإنسانية من البقاء في ظل هذا النظام الذي نسعى لنزع أصفاده من أيادينا وأرجلنا بارادة فولاذية وبتصميم وارادة شعبنا، ولو تطلب ذلك تضحيات أعظم مما ضحى به هذا الشعب حتى الآن.
إلا أن البعض من السوريين وأصدقائهم يتوجس خيفةً من هذه الثورة، بعد انتقالها من “ثورة سلمية” إلى “قتال مسلحٍ عنيف”، وتحوم الشبهات والشكوك فوق رأسه كسربٍ من الغربان، فيقول:” أي ثورة هذه؟… أليست هي مجرد أداة انتقال من المربع الايراني – الروسي إلى المربع التركي – الأمريكي؟ وما الفارق في أن نكون نحن السوريون تابعين لملالي الشيعة الصفوية في ايران أو لشيوخ الصوفية العثمانية في تركيا؟ ونبقى بعد ذلك مسلوبي السيادة والارادة السياسية وبحقوق ناقصة في الموارد والثروات الوطنية، فتنهبها الشركات العملاقة الروسية أو الأمريكية؟ أليست هذه الثورة مجرد اصطفافٍ آخر من اصطفافات المصالح والاستراتيجيات الكونية لبعض الأقوياء دولياً في الشرق الأوسط؟.”
بل من السوريين من يتساءل:“وماذا عن فئتي التي أنتمي إليها؟ فماذا سيكون مصيرها في ظل من يحمل سيفاً أطول من قامته ويهدد كل من لايرضخ لتفسيراته التكفيرية للنصوص القرآنية، وهي في معظمها تفسيرات خاطئة أو ناقصة أو نابعة عن ضيق فهم لجوهر وأصالة الرسالات السماوية التي جاءت رحمة للعالمين وسمي  آخر أنبيائها ب”نبي الرحمة” وتبدأ قراءة سورها وآياتها باسم الله الرحمن الرحيم، فجعل بعضهم الدين مرعباً كأفلام الفرانكشتاين وقصقصوه ليلائم قامات الإرهابيين وأنصاف الملالي والطالبان والقتلة الذين يتلذذون بتعذيب ضحاياهم، سواءً أكانوا من المحاربين ضدهم أم من الناس الذين لايملكون في أياديهم أي سلاح.

ويتساءل بعض “الفئويين” عن أوضاع أولادهم بعد الثورة، هؤلاء الذين يخرجون منذ انطلاقة الثورة إلى الشوارع متظاهرين رغم تعرضهم لرصاص القناصة المجرمين وهراوات الشبيحة الآثمين وشظايا القنابل المتفجرة في الأحياء السكنية والشوارع والمساجد والمدارس والمستشفيات، عما إذا كانوا سيتمتعون بالحرية والكرامة وحقهم في المواطنة من الدرجة الأولى كأبناء الذين فئتهم أقوى وأكبر وأقدرعلى تشكيل “الأغلبية”؟ وهؤلاء الفئوييون يخافون من أن لايتبدل وضعهم فيما بعد الثورة لأن كلام الليل يمحوه النهار بعد نجاح الثورات، وها هو رئيس الوزراء العراقي نورالدين المالكي يقدم لنا أنموذجاً واضحاً عن “حكم الأغلبية” الذي لايمت في العراق إلى عالم الحرية والديموقراطية والإنسانية بشيء، ويتنكر للعهود والمواثيق التي وقعها من قبل الثورة.
والأمر مذاقاً من هذا كله، هو أن بعضنا متأثر للغاية ب”نظرية المؤامرة” ولايرى في هذه الثورة سوى مساهمة جماعية من السوريين في تنفيذ “مؤامرة دولية” هي مؤامرة “تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ” ويعتقد هؤلاء بأن “ليس بالامكان أحسن مما كان فلنرقد في بيوتنا ولنسخر من هذه “الثورة!”.
ولكن، مهما كثرت الخسائر المادية وتعاظم التشرد الإنساني وازداد عدد الضحايا، فهذه الثورة قد أثبتت للعالم كله أن السوريين لن يتوقفوا عن الكفاح من أجل انهاء عهد الطغيان الأسدي الذي يشكل مع سواه من حلقات النظم الاستبدادية مرحلة مظلمة وغير منتجة في تاريخ الشرق الأوسط، وأن السوريين الذين يرفعون شعارات “الحرية والكرامة والحقوق” سيجدون طريقهم إلى أهدافهم التي نظموها معاً، أو من خلال مصالح كل فئة حسب منظورها الخاص لهذه المعاني الإنسانية الخالدة، ومن خلال الفهم السوري  العام لهذه الشعارات النبيلة، حتى ولو ضلوا أربعين أو خمسين عاماً في صحارى التيه وتنازعوا فيما بينهم حيناً من الدهر، لأنهم يعلمون جيداً أن الانتكاس والتراجع يعني بقاء ليل الشمولية المعتم مستمراً، ولا حرية أو كرامة أو حقوق في ظل الشمولية والحكم العائلي الذي يسخر المرتزقة والشبيحة لاغتيال شعبه.

والسوريون لن يقبلوا بأي نمط من أنماط النظم السياسية، أياً كانت عقائدها ومجاريها، يسلبهم الحرية والكرامة والحقوق التي منحهم الله إياها منذ ولادتهم على سطح الأرض.
لذا، أنا متفائل من مسار هذه الثورة، رغم كل التحديات والعراقيل، ورغم الجراح المثخنة التي في جسدها والعاهات التي تعاني منها الآن، ورغم كل المحاولات اليائسة التي يسعى البعض بممارستها تحريف مسار الثورة أو نسف طريق السوريين إلى الحرية أو لغرق سفينتهم قبل وصولها شاطىء الأمان.

فليتعانق السوريون جميعاً وليتكاتفوا وليكونوا صفاً واحداً في خندق ثورتهم المجيدة هذه وليعملوا على سد كل الثقوب والمنافذ التي تهب من خلالها رياح مسمومة بهدف تفتيت عضدهم وتبديد طاقاتهم ودحر ارادتهم في الحرية وكبح تطلعاتهم الإنسانية المشروعة في تطهير بلادهم من الرجس والدنس، واقامة المجتمع السليم العادل الحر الكريم على أسس ثابتة وبناء دولة القانون والمؤسسات وصون الحقوق للجميع.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…