كـوردّمشــــق

أمجد عثمان

نحن الكُرد في سوريا آمنا أن ولعنا القومي المعنوي لن يشرعن كمسلكٍ وطنيٍ، إلا بإشهارٍ شرعيٍ دمشقي يؤذن هذا الارتباطِ المتصالحِ، رغم قسريةِ منشأه، ودمشقُ ركيزةُ البلاد وحاضرتها ابتغينا أبداً معها عناقاً حميماً، التفينا حول عنقِها التفاف المحبِ، لكنها أمسكت أبداً عن الإشهارِ وامتنعت دوماً عن الصداق، ولم يقيّد يوماً أن “كرد سوريا” قد رفعنا مظلمتنا لما فوق قاضٍ دمشقي، جميعنا الهينا أنفسنا بحبِ الارتباطِ عن الكراهية، وديدننا أن إذما انتابتنا في سعينا هزيمةٌ حديثة انتظرنا بشوقٍ مكابرٍ العثورَ على مسوغٍ مشرفٍ للتواصلِ من جديد مع ايما يمت لشرعية دمشق.
كم هي منكوبةٌ ذاكرةُ عشقنا الجبريِ لهذا البدنِ الدمشقي، الذي لم يستشعر كياننا إلا في افتقادهِ لمن يقاسمهُ الألم، فيما لم تمتع دمشق إلا نفسها، مذ جثت ليعتلي صهوتها فيصلٌ معتمرٌ قلباً يعربياً، أبدلها تباعاً شقيقتها، تاركاً لها كوفيةً أخفقت دمشق مذاك في اعتمارها رمزاً أصيلاً، سوى انتحالُ عقالٍ عربيٍ مزورٍ لا عقلاً وطنياً راشداً، تتقاسم دمشق البراءةَ ثوبَ طهارةٍ مع بغداد، والدمشقيون يهوون كذب حكامهم، يبغضون من يخدم الحقيقة، يصفقون بعمقٍ لمن يصدقُ أساطير عروبتِهم، بغداد المالكي تشبه كثيراً دمشقُ الأسد ولا خلاف بين دمشقَ عبد الناصر وبغدادَ صدام، جميعهم فكروا بنا كثيراً في سرهم، فالقوا الشكوك علينا، وكل من يتشاغل الناس به كثيراً، تحلق حوله خرافاتُ الشبهة، لقد كذبوا كثيراً لكنهم كانوا يكذبون برصانةٍ باردة، امتنعنا عن التصديق وبقيت كلتاهما “بغدادّمشق” مدعاةُ مباهاتنا نحن اصحابُ الشوقِ المكابرِ للوصال، صرّفنا دائماً انتصاراتهما انتصاراتٍ لنا وانكساراتها أيضاً لنا، وهما ما بذلتا لنا إلا ما إذا بذلناه نحن لأعدائنا ما ازددنا به أبداً فقراً.
دمشقُ ليست بريئةً كما كنا نعتقد، ونفكر كل يومٍ، ونبلع ببلاهةٍ نفاق غرباءٍ لا يعنيهم أمرنا في النهاية، ولم نكن أقل نفاقاً منهم في إيماننا الذي كنا نلوكه في مقاهي دمشق وصالوناتها وصروح حكامها، إيمانٌ مسفوح لم يستبقي لنفسهِ موعظة، تلاشت آياته دونَ ارتجالِ الثورةِ والعصيان أمام ارتجالِ الحكمِ والنفوذ.
توهمت ثورة سوريا المرتجلة أنها ستبلغ في هذه البلادِ من التحرر والتجدد ما ليس في هذه البلاد، راحت تحيل إيماننا إلحاداً وكفراً، هو _إلحادنا_ الأقرب ،قياساً، إلى الإيمان، رغم الدماء التي مضى يسفكها المنادون بالموت، يتقاسمان أدوات نقش القبور، واكتظت البلاد بهؤلاء ممن يصمون عن أي صوت سوى نداء الثبور، ولا تباين عندنا بين ذاك وهذا طالما كلا الفوجين يعجلون إلى إخلاء البلاد من القوم موتاً ونزوح.
ما وجدت الصراعاتُ إلا لخدمةِ هؤلاء الفضوليين، انظروا كيف تجتذبُ ثورتنا هؤلاء الغرباء، وأنظار رأس النظام منطلقة تفتش عن عدوٍ لها، وفي بريقها ما يدعوها للمباهاةِ، فثورةٌ كهذه تجتذبُ الدخلاءَ وتضمهم إلى صدرها هي تُرَخِصُ للنظامِ ورجالهُ ما اجتذبوهُ من أشياعِه، أينما كانوا وتجعلُ من صدرها حضناً لمحبي الموت وباغضي التحرر، أُحيلت الثورة إلى ثأرٍ وأحيلَ الثوارُ إلى ثأريين، والفرقُ كبيرٌ بين من يناجزُ كسيراً بعد أن خسر عرضَ بيتهِ وأهله ومن يُغتالُ ويُسجنُ ويكدحُ بصمتٍ مذ عقودٍ لأجل دمشقٍ ما راودتنا يوماً عن نَفسِنا، عسفت بنا وجردتنا وأنكرت علينا لساننا.
استطعمنا المرارةَ في أشد ايامِ دمشقٍ حلاوةً، دوماً كانت سعادةُ دمشقَ تابعةً لإرادةِ حاكمِها المبجل، أما سعادتُنا فبقيت متوقفةَ على إرادةِ دمشق، إذ كلما اقتربت منا دمشق خطوةً أدركنا متأخراً أننا لم نكن إلا وسيلةً لها أما غايتُها فهي اتقاء الشرَ بنا، ترساً لها لا تأسفُ دمشقَ لهتكه، تورثنا ألماً متزايداً مرة تلو أخرى، ونحنُ متحيرينَ في نعتِ ما نحنُ عليه، هي في النهاية لذةٌ بائسةٌ تحكمت فينا وحدنا، أما دمشق فكانت دوماً تخبأ السوطَ خلف ظهرِها إذ ما دنت منا إلى أن يتناها مبتغاها، فإذ بها بين ليلٍ وضحاه تنهي أحلامنا وتتلف حياتنا ثم تقف لتدعوا هذا الإتلاف بطولةً وتكسيه أزيف الأثواب قدسيةً، أليس من واجبنا بعد هذا أن نكف عن عرض أنفسنا لمن لمن يعرض عنا.
وفي الثورة والثأرة وحديث ثوارها وثأرييها، وجه دمشق الجديد افتراضاً، ظاهرة المزايدةِ في الدمِ راجت وفي الدينِ ومحمديةِ الانقلابِ المتفجرِ من أفواهِ جميعِ المغرمين بماضوية روحهم المتقهقرة، محرمين على سواهم متعة التحرر والعتق من تخاريف لا تعني أحداً غيرهم، هم قلبوا الثورة إلى مرتعٍ للمتشاعرين ومرتلي مهاوي التفكير، لن يفهموا أبداً قساوة النقرات التي تطحن رؤوسنا بعد إجهازهم على بتولية الثورة وعفتها، سلميةً عفويةً، فللبارود استفراده بالحضور الباذخ في أوفر المشاهد السورية هدوءً، زمجرة الدم في مواجهة البصيرة تخنقها تجهز عليها، كما حاكمُ دمشق يرخي مديته مجهزاً على ما تبقى من ياسمينِ الشام، لكن الولهونَ بالموتِ والاستشهادِ يجهلون خبايا الدم، لا يعونَ أنهُ ليس سوى مهلكٍ لأطهرِ المفاهيمِ والوصايا، يحيلها أحقاداً وثأراً لا يتناهى، يجزلون الحديث عن العدالة ابتذالاً، ليبقوا أنفسهم على قيد الانتقام ما استطاعوا.
أصدقاؤنا في الثورة أغضبهم أننا أقمنا للسلاح ضريحاً في قرارنا، هم وجدوا في السلاح حلاً لكل مشاكلهم، دمشق بشقيها، نظاماً ومعارضة، تريدنا مريدين صاغرين لما تمليه، بتنا نحكم بالنيابة عن القداسة المشطورة، يقولون لا جدال في السلاح وفي الموت الحق، ونسوا أن حياتنا وآبائنا بأسرها انقضت نضالاً لم يعيروه بالاً، ولم نعر في نضالنا السلاح بالاً، لا يخفون “عرعرة” سعادتهم حين نموت معهم، ولا عجب أن يشعر أصدقاؤنا اليوم بالرضا والسعادة إن حاصرتنا المتاعب والمآزق، فدمشق معتزمة ألا تقاسمنا سوى أوجاعها، وشعبة الإخوان المسلمون السورية تعيد تعبئة الرأي العام المسلم، تكرر همساً، تنديدها بجذرنا الكردي باسم الإسلام والعروبة.
حاكمُ دمشقَ يريد شنق كل من لا يهابُ أوثانهُ في هذه البلاد، والإخوان المسلمون سيشنقون من يناكفُ في عروبةِ سورية وفي هواهِم الطائفي، شهيتنا لا تقلُ قوةً عن شهيتهم لكن أسناننا نخرة، يهدرون وجودنا ومشيئتنا، ودون سأم نحاول إنتاج الطلاء الشرعي لوجودنا في حيزٍ من هذا التعاقد المكاني التصادفي، لا أحد في زمن الثورة يرفض مقابلتنا، جميع الأبواب تفتح لنا بلباقة، تحت أعين العالم، لكن لم يشتر أحدٌ بعد شيئاً منا، لنعلن ونحن نتصافح بلباقة في كل مرة “لم نصل إلى اتفاق”.
لقد سايرنا دمشقَ لنتعرف إلى طباعِها ومتعنا أنفسنا بتعلقنا بحُسنها عن كذبها وشيدنا أمامها مشانقاً لنا، نستلطفها، نستنطقها، في شأننا، لكن ما نظرناها إلا تعيدُ السؤالَ عن علةِ انقيادنا، لنجعل نفسنا خاضعين في حكمها، ونحن نضاجع كل يومٍ طيف حلُمٍ ورديٍ من خلفِ أسلاكٍ شائكة، تقاسمتنا بها دمشق مع شقيقاتها، تشتهينا خونةً لأحلامنا خنوعين لأحلامها، كيف وقلب دمشق يتعالى عن الخفقان في صدورنا، وفي سبرنا لفؤادها دمشق، تيقنا أن مضض الدمشقيون اسكندرونٌ مراق على عروبةٍ مبددة وشرفٌ يهتك كل يومٍ في ذكرى عروسٍ جولانيةٍ لم ترفع بعد عن محياها إكليل العرس الواجد، إذاً نحن اللذة الوحيدة الباقية لها، لدمشق، لن تتنازل عنا، لن ترضى عنا، لتبقى هي الخاضعة المثخنة مزهوةٌ كلما نظرت إلينا، مستخلصةً متعتها بنفوذ موتورِ، نحن لذتها الوحيدة، شعورها الوحيد بالعظمة، والجمال فيها لن يظهر أصيلاً إلا بعد أن تتعب من هذا الشعور، حين تدعونا لنذوق طعمها، حينها لاشك سنجد لدمشق طعماً مختلف.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…