من مهاباد الى مهاباد:الحلم الكردي الجميل!

بسام مصطفى

التاريخ:22/1/1946
المكان:مهاباد!
هناك، القيت البذرة الاولى في الارض العطشى للأفق والحرية.

في ذلك الميدان الجميل- جارجرا- من قلب مهاباد الجريحة اشرقت اشعة الامل الاولى.

كرد بسطاء تدحرجوا الى المكان بلهفة النبضة الاولى لحياة كم وكم قتلت ولم تمت.

كرد من كل حدب وصوب التقوا هناك ليضعوا اللبنة الاولى للبناء الذي لم يكتمل حتى الان.عيون البيشمركة ببنادقهم الطويلة كانت مسمرة في المكان تحرس الحلم.علم وجبل وألم وسماء ممتدة كالحلم كانت تراقب المكان المشدوه.بضعة رجال واقفين امام المنصة البسيطة بعماماتهم وازيائهم الكردية حيث البارزاني الخالد يسقي الحلم ويكسيه رجالا وبنادق ما هدنت قط.فوق المنصة القاضي البسيط والزعيم الكبير–قاضي محمد-يرفع التحية ويلوح للافق أن ها قد عدنا، نحن الذين لم نرحل قط!

في مهاباد–ابنة الشمس- بزغ الحلم الجميل كوميض آت من حكايا الجن وبلاد الأساطير ومهد الحضارات-ميزوبوتاميا-وحدود كلكامش وكاوا الحداد!حينها، ورحى الحرب ما زالت تدور، رأى القاضي أن الفرصة مواتية ليعاد للشمس المحجوبة ألقها.وأن تعاد الألوان لأصلها وترتيبها الأزلي.وفي جارجرا الحلم ومن منصته الصغيرة نطق بالحقيقة كلها…وكان يرى الافق كله مشرقا ورماديا كأنما كان يدرك ما تحبك الايام لشعبه وله، ولكن معرفته هذه لم تمنعه من ان يوسع للحلم طريقا الى الغد المنتظر كفتاة عذراء تنسج لحبيها البعيد بخيوط قلبها الصغير حلما بحجم السماء !وكان القاضي بسيطا….يكسي الفقراء من أهل مهاباد يصلح ذات البين ويمشي عند الغروب بين الحقول ويرجع الى بيته عند المساء ليأكل شيئا بسيطا مما تحضره امرأته لينام بعدها حالما بغد أفضل لمهاباد و أهلها الفقراء.

كان جميلا… بعينيه الناعستين ووجهه الطاهر ولحيته وشعره الخفيف ومسحة الحزن الكبيرة التي اخفاها في الاعماق .

كان يدرك ما يفعله ويقترب من الحقيقة بنيرانها المتوهجة وكان لا بد ان يفعل ذلك ويرسم البداية بدمه النقي ليكمل الابناء والاحفاد مسيرة الدم بعد ذلك.
احدى عشر شهرا استمر الحلم.وكان ابناؤه اوفياء له حقا وفعلوا في تلك المدة القصيرة ما يتطلب عشرات السنين فهم وحدهم مخترعوا البداية الصعبة كانوا يرون النهاية تقترب والرائحة النتنة للنفط تفوح منذرة بالسواد والألام.احدى عشر شهرا والعلم الكردي ذو الالون الزاهية يرفرف في سماء مهاباد والنشيد الابدي يعلو من المدينة والاض تتكلم بالكردية هناك.وهناك شاء القدر أن يولد الرئيس مسعود البارزاني نجل البارزاني الخالد الذي كان يحمي الجمهورية الوليدة ويسيجها بسياج الحب والوفاء قبل ان يجتمع الاعداء على قتل الحلم ويرحل مع خمسمائة من الابطال الى الاتحاد السوفييتي في مسيرة اسطورية قل مثيلها حاملا معه الامانة من القاضي محمد:العلم الذي لم يقبل النجل إلا به في سماء كردستان.احدى عشر شهرا كأنما ابناء مهاباد يتحسسون اقتراب النهاية من بدايتها فلا يتوقفون عن الحركة  ليلا نهارا، اسسوا مسرحا كرديا ونشيدا ومدارس وطبعوا الكتب واصدروا الجرائد والمجلات في هذه المدة القصيرة جدا بعزيمة لا تقهر كجبال كردستان الشماء.
وكان التاريخ لابناء كاوا بالمرصاد.ككل مرة بدأت القصة المريرة وهبت ريح السياسات الدولية التي لاترى من الافق سوى ما تريد ان تراه .وتمت المساومة والبيع والكرد الأقوياء الضعفاء ضحي بهم ثانية ليندثروا بين طيات الاساطير و المآسي الى حين، فهم في كل مرة يغيبون ثم ما يلبثون يعودون من جديد اكثر قوة وتألقا .
في الساحة نفسها بعد احد عشر شهرا من الولادة كان على المولود الجديد ان يذبح قربانا للغرباء وابناء العرق الذين باتوا عميانا لا يروق لهم سوى رائحة الدم المراق الى حيث تمتد ايديهم.وهم لا يعلمون ان الدم لا يجلب سوى الدم و ان الحقيقة لا بد آتية والحقيقة تأتي بهدوء، لا تعرف العجلة ابدا ولكنها تقترب رويدا رويدا كريح لا ترى.
في جارجرا انتقموا من كاوا وهم لا يعلمون أن كاوا الذي انتفض قبل الاف السنين على ازدهاك الشريرقد انجب الالاف منذ ذلك الوقت و هم مختبئون لا يظهرون إلا فجاءة حين يظن الآثمون انهم قد زيلوا عن الوجود ولم يبقى لهم من اثر!
في فجر ذلك اليوم تم إعدام القاضي محمد الذي كان هادئا ووقورا وبكامل لباسه ومن يراه معلقا على حبل المشنقة يدرك كم كان هادئا وراضيا عن نهايته تلك لا بل مفتخرا بها وهو الزعيم الذي وضع الحجر الاول للبناء-الحلم الذي لن يموت قط وقد روي بالدماء واخذ ما أخذ من القرابين والتضحيات العديدة التي انضمت الى القافلة المستمرة من الشهداء والابطال.وقاضي محمد–الذي لو أخذ الكرد بعادة الشيشان في تسمية جبالهم باسماء ابطالهم وشهدائهم-لكان اسمه الان على اكبر واشمخ جبل في كردستان.فهو–البيشوا- الشهيد الذي يشبه غيمة بيضاء وعالية لا تمطر الا خيرا ومحبة سلاما ، انه الكردي الأصيل الذي ترك عدا عن دمه وحياته وصية عظيمة للاجيال الجديدة ممن يسيرون نحو الامام ونحو الحلم المعطر بدم القاضي وكل شهداء الكرد الذين ما عاشوا الا لكردستان ولم يموتوا الا لاجلها
في ذكرى جمهورية كردستان الاولى-مهاباد– العشق، ليقرأ كل شخص وصية الزعيم القاضي و ليرى كيف ان الحلم قريب وأن الحلم عزيز وقابل للتحقيق.ومن مهاباد الى مهاباد لا شيء اجمل من الامل….

وتحقيق الحلم.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…