الطالباني والقيادة السورية في مرحلة الاحتضان السياسي المتبادل

د.آزاد أحمد علي
pesar@hotmail.com

بعد حوالي نصف قرن من العلاقات السياسية المميزة مع سوريا، وبعد انتظار طويل وترقب درامي دام أشهر.

يأتي هذا السياسي السبعيني المخضرم  ليزور سوريا بوصفه رئيساً لأهم وأعقد دولة مجاورة، جاء مشبعاً بالذكريات والافتتاحيات والمبادرات، تماما كحياته السياسة الصاخبة والمديدة والتي كانت دائماً عبارة عن مبادرات ومفاوضات وحوارات، لدرجة أن هزائمه العسكرية كانت بداية لمرحلة سياسة جديدة، وإخفاقاته السياسية كانت تؤسس لمرحلة دبلوماسية مديدة.

وعندما توجت حياته السياسة الشاقة بترشيحه واختياره لمنصب رئيس جمهورية العراق، لم يشكل التتويج ذروة لمسيرته السياسية فحسب، وإنما بداية لفعالية دبلوماسية وسياسية  متسارعة، وباعتباره نصف سوري ـ إذا أخذنا إقامته الطويلة وعلاقاته بعين  الاعتبار ـ  فكل نشاطه كان متوقعاً له أن يتمحور وبخاصة بعد  تسلمه لمنصب الرئاسة حول بناء العراق الجديد وحسن علاقتها مع سورية القديمة إن جاز التعبير.

فالطالباني اليوم ليس زعيما كوردياً وحسب، وإنما هو سياسي عراقي بامتياز، وفي الوقت نفسه صديق قديم للقوميين العرب، بدءاً بالمرحوم جمال عبد الناصر وبعض أوساط البعث العراقي المنحل، مروراً بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد في سورية،  وهذه العلاقة قد مهدت لإعلان (الإتحاد الوطني الكوردستاني عام 1976 في دمشق).
ونظراً لتمتعه بشبكة من العلاقات السياسية الواسعة داخل العراق وخارجها، فضلاً عن إمكاناته الدبلوماسية وقابليته وديناميته لمواكبة التطورات والمستجدات السياسية والتأثير فيها.

فثمة اتفاق لدى المراقبين والمهتمين بالتحولات السياسية في المنطقة بأن اختيار السيد الطالباني لمنصب رئاسة جمهورية العراق لم يكن استرضاءً للكورد وترجمة لثقل القائمة الكوردستانية في المجلس الوطني وحسب، وإنما ضبطاً للإيقاع السياسي العام لعموم العراق.

وربما تمهيداً لقيام العراق بدور فاعل ومتوازن في السياسة الإقليمية، وعبر أهم نوافذها الإقليمية والعربية أي سوريا على وجه التحديد.

وان لم يتحقق هذا التصور في العامين المنصرمين، فمازال هذا الافتراض قائماً، ويتجدد هذا التصور إثر زيارته المتأخرة لدمشق…
فعلى الصعيد العراقي مازال الطالباني قادراً أكثر من غيره من القادة على مخاطبة مختلف الأوساط، وبالتالي مازال  سعيه لترتيب البيت العراقي من الداخل مستمراً، وهذا ما اتضح في الأيام الأولى لتسلمه منصبه وحتى زيارته لسورية، والتي تنسجم مع هذا السعي وتستكمل هذه الجهود.

إذ كان من المتوقع لنجاحه في دفع العملية السياسية أن يتم بمساعدة أصدقائه التقليديين في سوريا، وعلى خلفيه العلاقة الوطيدة مع فعالياتها السياسية، فهو مازال يحتفظ بعلا قات وثيقة مع القيادة سورية، على الرغم مما شابها من بعض الإشكالات تاريخياً وفي الآونة الأخيرة.
إلا أن المفاجأة كانت في تأخر وتلكؤ زيارته هذه إلى دمشق التي كانت متوقعة منذ أكثر من سنة.
وقد أحال بعض المراقبين التأخير إلى عدم ارتياح القيادة السورية لترأس (كوردي) رئاسة العراق كما هو الحال لدى أغلب الدول العربية وتركيا، إلا أن أوساطاً سورية مطلعة كانت تؤكد بأن الأمريكان هم وراء تأخير الزيارة، في حين أن السيد الطالباني كان يصرح بطرافته المعهودة أن القيادة السورية: لم تتعود العلاقة معنا إلا ونحن في المعارضة، ولم يتكيفوا بعد لرؤيتنا في قمة هرم الحكم.
مهما يكن فالزيارة التي تحققت لا يمكن لها أن تتم إلا وقد تراجعت العوامل الموضوعية المعرقلة لها، وفي المقدمة منها العامل الأمريكي، فالزيارة التي تمت لا تبدو أنها ترافقت مصادفة مع إعلان خطة بوش الجديدة في العراق، والمؤثرة في عموم السياسة والإستراتيجية الأمريكية الشرق أوسطية، وبهذا المعنى فهي ليست زيارة لرئس العراق فحسب وإنما لرجل المبادرات السياسية الإقليمية، ولكن هذه المرة في إطار الإستراتيجية الأمريكية وتساوقاً مع رؤيتها، فهما كانت الأجندة العراقية مستقلة اليوم فإنها تظل متوافقة ومتقاطعة مع الرؤية الأمريكية للمنطقة وإلى مستقبل سورية بشكل خاص.
إن خطورة الزيارة تنبثق من أن الاستثمار السياسي لإمكانات جلال الطالباني قد بدأت، وإن تأخرت القيادة السورية في ذلك، حيث أن السيد الطالباني قد يكون الشخص المفضل لدى القيادة السورية لرئاسة العراق، لأنه كان ومازال الوحيد الأكثر قرباً لها، وامتلك في الوقت نفسه فرصة كبيرة لتولى الرئاسة، وهو بصيغة أو أخرى ومن خصوصية موقعه السياسي قادر أن يقوم بدور سوري وعراقي مزدوج،  فاليوم ولأول مرة في تاريخ سورية يرأس العراق شخص هو بمثابة الصديق والحليف لقيادتها.
تاريخياً كانت العلاقات السورية ـ العراقية علاقات خصومة، حيث نجد أن رئيس العراق كان دائماً خصماً لسورية، وذلك منذ العهد الملكي، إلى الجمهوري أيام عبد الكريم قاسم والأخوين عارف، مروراً  بالبكر وصدام حسين، واليوم بدأت تظهر بالنسبة لسورية إمكانية تولي الأصدقاء الحكم في العراق والاستمرار فيه.
وإذا أضفنا العلاقة الجيدة للرئيس الطالباني مع مختلف الأوساط الأمريكية يمكن التكهن بأهمية الدور المرتقب للقيادة العراقية الجديدة، وبدءاً بهذه الزيارة التي تشكل وفدها من طيف سياسي عراقي واسع، رفيع المستوى ومنتخب لمخاض هذه المرحلة المضطربة من تاريخ المنطقة.

فالزيارة تأتي كحاجة سياسية ملحة للطرفين، وقد تساهم  في تحريك الملف السوري وتفعيله إقليمياً، سواء على صعيد العلاقات الثنائية على محاور الأمن والتبادل التجاري والتعاون الاقتصادي، أم الأدوار والتحالفات الإقليمية الممكنة والضرورية للبلدين والقيادتين.

مهما يكن فإن هذه الزيارة  تفتتح وتدشن المرحلة الإحتضانية الجديدة في علاقات البلدين، وهي تنبع من متطلبات التوازن الإقليمي والدولي في الوقت نفسه.
كل التوقعات تشير إلى أن الرئيس الطالباني كان محملا بمهمات عراقية وإقليمية صعبة، وربما تكون إشكالية العلاقة الوطيدة مع سورية أحد أسباب قوة وضعف زيارته المتأخرة هذه، والتي قد يكون منوط بها في أقصى احتمالاتها تحريك ملفات وأفكار سياسية نائمة.

فمحاولة الاستفادة من الإمكانيات السورية لإعادة تأهيل التيار القومي العربي سياسياً، ودمجهم في الحراك السياسي العراقي بات من الضرورات السياسية لدى أوساط واسعة في القيادة العراقية اليوم.

كما سيكون حليف سورية المتجدد في موقعه السياسي والرئاسي أحد رهانات سورية الإقليمية والدولية من جهة أخرى، فمهما كانت ثقة سوريا بحليفها القديم قد تراجعت، ومهما كانت سلطاته الدستورية مقيدة، إلا أن دوره السياسي والدبلوماسي المميز لابد من أن يحفز القيادة السورية لبناء جسور استراتيجة عبر عراق هو خصم بنيوي على الصعيد الإستراتيجي ولكنه في الوقت نفسه قد يكون حليفاً سياسياً في زمن العزلة وتصاعد المد الديني المذهبي….
وإن لم تتضح تماماً ملامح هذه المرحلة الجديدة في العلاقات السورية ـ العراقية، والتي يفترض لها أن ترتسم في الأسابيع القادمة.

حيث تتهيأ القيادة السورية للتعاطي مع القرار التصعيدي الأمريكي الأخير ربما بلغة أكثر دقة وموضوعية، وبالتالي تفهم خطورة دورها في استقرار العراق.
زار الرئيس طالباني سورية، متأبطاً كالعادة ليس رزمة من الطرائف السياسية المرحة فحسب، وإنما العديد من المقترحات السياسية الجادة، التي ستساهم في جدولة  بعض الهموم المشتركة وترتيب الأوراق الإقليمية.

لذلك ليس مستبعداً أن تساهم الزيارة أيضاً في حل بعض القضايا والجزئيات التي تؤثر  بعمق على مستقبل الشعبين في سورية والعراق، وتنجح في التأسيس لإستراتيجيات جديدة لعموم المنطقة التي مازالت تستوعب الكثير من التحالفات والاصطفافات السياسية على الصعيد العملي، وبصرف النظر عن الإعلانات الأيديولوجية والإعلامية منها على وجه الخصوص.
———————–
دكتور مهندس- كاتب وباحث كردي – سوريا- قامشلي

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…

إبراهيم اليوسف إنَّ إشكالية العقل الأحادي تكمن في تجزئته للحقائق، وتعامله بانتقائية تخدم مصالحه الضيقة، متجاهلاً التعقيدات التي تصوغ واقع الشعوب. هذه الإشكالية تطفو على السطح بجلاء في الموقف من الكرد، حيث يُطلب من الكرد السوريين إدانة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وكأنهم هم من جاؤوا به، أو أنهم هم من تبنوه بإجماع مطلق. الحقيقة أن “ب ك ك”…

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…