تركيا.. ما زالت رهينة العقلية الكمالية

بير رستم

تزايدت وتصاعدت في الآونة الأخيرة عدد التصريحات وحدتها للقادة الأتراك وأصبح الواحد منهم يزايد على الآخر وكأننا في سوق المزايدات السياسية ومن يعلي بصوته على الآخر ويزيد من عدد النغمات بها سوف ترسو المزايدة عليه.

وهكذا رأينا كل من رجب طيب أردوغان؛ رئيس وزراء تركيا ووزير خارجيته عبد الله غول ناهيك عن الجنرالات والحاشية العسكريتارية وملحقاتهم وذيولهم الثقافية من كتبة التقارير الأمنية في الصحف والمنابر الإعلامية التركية، يشنون ما يمكن أن نعتبرها حرباً تركية (مقدسة) على شاكلة الحروب التي كانوا يخوضونها على أزمنة الأجداد؛ السلاطين والكماليين ولكن هذه المرة على الورق, وإن كانت تركيا تحلم بأن تحوٍّل معاركها الورقية هذه وتبدلها بمعارك حقيقية تشنها على جنوب كوردستان (العراق)، ليستمر مسلسل الدم والعذاب وأن تكون الرائحة السائدة في كوردستان – وليس فقط اللغة – هي رائحة البارود، بعد أن حلم الكورد في هذه السنوات الأخيرة بـأن تكون رائحة الورود (غير السامة) هي الوحيدة في بلدهم، ولكن للطغاة أحلامٌ أخرى غير التي هي للأطفال.

طبعاً كل هذه الأحداث والتصعيد الكلامي وتحريك القوات التركية؛ أكثر من ربع مليون جندي وجندرمة تركية (240 ألف – نقلاً عن موقع الفضائية التركية سكاي تورك) وحشدها على الحدود مع إقليم كوردستان وبحجة ملاحقة قوات الكريلا التابعة للحزب العمال الكردستاني تارةً وتارةً أخرى بحجة حماية الأقلية التركمانية في كركوك مع بعض الماكياجات السياسية من عقد ندوات ومؤتمرات أمنية ميتية؛ (نسبةً إلى الميت التركي) وذلك في كلٍ من أنقرة واستنبول تحت ذريعة (نصرة أهل العراق أو سنة العراق) وبالأدق لحماية أزلام النظام البائد ومرتزقة الميت التركي في العراق أو لنكن أكثر دقةً؛ لحماية مصالح ومطامع تركيا في العراق (لواء الموصل) قديماً وحالياً (لواء كركوك) وغيرها من مصادر الطاقة في العراق ومن ضمنها كوردستان.

نعم..

لتركيا مطامعها ومصالحها الاستراتيجية وإن عدنا إلى حقل السياسة وقوانينها و(مبادئها) وأخيراً أساليبها وطرائقها، فمن (حق) تركيا أن تحلم ببعض (الكعكة العراقية) – وهي التي عرفت وذاقت حلاوة وطعم المستعمرات وما زالت تعرفها من خلال احتلالها لشمال كوردستان وجغرافياتٍ أخرى – ولكن يبدو أن تركيا لم تتخلص بعد من تركات (الرجل المريض) وآثار الخلافة العثمانية وذلك رغم مظهرها الحضاري (الأوربي) وطموحها في الانضمام للاتحاد، وهكذا فهي ترتكب الأخطاء السياسية الواحدة تلو الأخرى وبالتالي تأخذ الصفعة تلو الأخرى نتيجة (حماقات) ساستها وقادتها؛ فهي وإن نسيت أو تحاول أن تنسى بأنها كانت وما زالت تعيق المشروع الأمريكي في المنطقة، فإن أمريكا وساستها وقادتها لم ينسوا موقف تركيا من حرب العراق ومنعها للقوات الأمريكية من الدخول إلى العراق عبر أراضيها وأجوائها والتي كلفت الميزانية الأمريكية مبالغ طائلة، ناهيك عن الجهود والزمن.

أما إن كانت تركيا حريصة حقيقةً على حقوق الآخرين وهي بهذه المؤتمرات – الميتية التحريضية – تحاول أن تساعد العراقيين (ومن دون تمييز أو تفريق حسب الهوية القومية أو المذهبية الدينية والطائفية أو الولاء لهذه الجهة أو تلك) فإنه لمن الأجدى والأولى أن تلتفت تركيا إلى مشاكلها الداخلية لتحلها وهي التي تعاني الكثير – الكثير وهكذا فهي ليست بحاجة إلى أن تحل مشاكل الآخرين، بل غير مؤهلة لذلك.

فتركيا (جغرافيتها) – كما هي حال معظم دول المنطقة – عبارة عن ترقيعات جغرافية وموزاييك (غير متجانس) من شعوب وقبائل (لم يتعارفوا) بعد، بل يمكن اعتبارها على رأس تلك الدول؛ فمن مشكلة قبرص إلى قضايا الأرمن ولعنة المجازر والتاريخ التركي الأسود إلى قضية القضايا والمسألة الكوردية التي باتت كابوساً حقيقياً للساسة والقادة الترك ومن قبلهم لجنرالات الأمن والجيش وخاصةً في هذه السنوات الأخيرة والتي عرف فيها حزب العمال الكردستاني كيف يدير لعبة السياسة وخاصةً عند إعلانها لوقف الحرب من طرفٍ واحد ولأكثر من مرة وبالتالي “سحب البساط من تحت أقدام الجنرالات” وهكذا أستطاع الحزب أن تحرج الدبلوماسية التركية وتسحب من يدها (ورقة الإرهاب) والتي كانت تلوح بها تركيا في وجه كل من أمريكا وأوروبا متهمةً حزب العمال الكردستاني به.

نعم أنه لمن حقنا كمهتمين بالشأن الثقافي والسياسي، لا ككورد نعاني الاحتلال والقمع والإبادة على يد الجونتا التركية، أن نسأل هؤلاء (السادة) من قيادات الجيش والأمن وأيضاً الحكومة والبرلمان؛ ماذا قدمتم من حلول لمشاكلكم (المستعصية) والتي تعاني تركيا منها منذ قيامها، بل ومنذ الخلافة السلاطينية، غير الدم والبارود وقتل الأطفال والنساء في الشوارع، ناهيك عن الكريلا والسياسيين في شوارع مدنكم وأخيراً كان اغتيال الكاتب الأرمني (هرانت دينك).

بل بات سجل تركيا الحقوقي من أسوأ السجلات في مجال حقوق الإنسان ولا تضاهيها إلا بعض البلدان المبتلية بالديكتاتوريات والطغاة ونعتقد أنه تكفي تركيا هذه المقارنة بينها وبين تلك الدول وهي التي تحلم أن تدخل الاتحاد الأوربي.

ولكن حقيقة اهتمام تركيا بالعراق- وكما قلنا في البداية – هي نابعةً من مصالحها الجيواقتصادية هناك؛ فعينها على كلٍ من كركوك والموصل والذريعة جاهزة، ألا وهي حقوق القلية التركمانية و(لا) نعلم أين كانوا هؤلاء السادة عندما كان الطاغية صدام يكيل بمواطني كركوك من الكورد والتركمان وغيرهم قتلاً وتشريداً.

بل الأدق؛ لما لم يتحرك بهم هذه النخوة الإنسانية تجاه التركمان وكركوك وهم يوقعون الاتفاقات الأمنية والسياسية، ناهيك عن التجارية والاقتصادية مع ذاك النظام وطاغيته وزبانيته، أم كان التركمان في ذاك الوقت لا (ينحدرون) من أصولاً تركيا وقد أكتشفها هؤلاء السادة في أنقرة مؤخراً.

تلك من ناحية، أما الجانب الآخر والذي يقلق تركيا أكثر من أي شيءٍ آخر، هي مسألة الفيدرالية في العراق وقيام إقليم كوردستان (العراق) بدور جيوسياسي حيوي ومهم في المنطقة؛ إن كان على صعيد القضية الكوردية وقيام الكورد في الأقاليم الأخرى وخاصةً في شمال كوردستان (تركيا) بالاحتذاء بتجربة الإقليم الفيدرالي وبالتالي الضغط على أوروبا بأن تحل المسألة الكوردية في تركيا سلمياً وذلك قبل انضمامها إلى الاتحاد وهي التي سوف تجد تركيا نفسها مضطرة لقبولها و إلا فستبقى آمالها وأمانيها معلقة ولن تجد نفسها في البيت الأوربي وهذا أكثر مما يخيف تركيا وخاصةً الطغمة العسكرية؛ من أن تحل المسألة الكوردية سلمياً ومن دون إراقة الدماء وسقوط الضحايا وبالتالي فقدان المؤسسة العسكرية التركية لدورها ونفوذها في تركيا.

إضافةً إلى هذا وذاك، فلن ننسى بأن الانتخابات التركية على الأبواب ومن عادات السياسة والسياسيين أن يزايدوا على بعضهم في المسائل الحساسة وفي هكذا ظروف؛ لنيل أكبر عددٍ ممكن من الأصوات الانتخابية وخاصةً عندما تكون هناك أزمات سياسية – اقتصادية خانقة في البلد وأنت مسئولاً عن الكثير من تلك الملفات والقضايا، حيث نعلم أن الانتخابات التركية الرئاسية على الأبواب وأن السيد رجب طيب أردوغان يحضر نفسه لخوضها وبالتالي فهو يبحث عن رضا المؤسسة العسكرية.

ولكن ما نود أن نقوله في هذه العجالة ولتضعها القيادة التركية حلقةً في آذانها؛ بأن الحلم الكمالي (الطوراني) بات من الماضي وذهب مع ذهاب الرجل المريض وأن (الحلم) الكوردي سوف يكون واقعاً جيوسياسياً على الأرض، إن رضيت تركيا وقادتها وساستها أم لم ترضى وسوف يكون هناك أكثر من إقليم فدرالي كوردي في المنطقة.

جندريسه-2007

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…