جان كورد
25.01.2007
بداية أقول: إن دعوة بعضهم ل”اقامة تحالف كوردي– تركي، قبل أن يفرّ الكورد وينضموا إلى التحالف الشيعي”، ليس إلاّ دعوة مبطنة للكورد للدخول في عباءة الطورانية في آخر معاركها، وليس إلاّ تسويقاً لسياسة الجنرالات الترك تحت شعارات كوردية برّاقة… وأحذر الأمة الكوردية جميعاً من الذين ينشرون مثل هذه النعرات التي ستؤدي بها إلى حظيرة “العثمانلية” التي استبدّت بالكورد وسلبت كوردستان قروناً مليئة بإرهاب الدولة رافقها نهب وسلب وتشريد وعنف لامثيل له ضد أبناء وبنات أمتنا، وبخاصة تلك الادعاءات الزائفة التي تقول بأن الأمريكان والانجليز كانوا وراء تقوية الكورد في زمن البارزاني الخالد، وكأن الذين يتفوهون بذلك ينسون الخيانة الكيسنجرية الكبرى للبارزاني الخالد آنذاك، تلك التي أصابت الأمة الكوردية بهزيمة تاريخية لا تنسى عام 1975…
علينا في هذه الأوقات العصيبة أن نقف نحن الكورد جميعاً كأسنان المشط الواحد خلف رئيس وحكومة وبرلمان كوردستان في وجه التهديدات التركية المتكررة، ونؤيد بدون تردد الموقف التاريخي الذي سجلّه رئيس الوزراء الأخ المناضل نيجيرفان بارزاني قبل يومين في برلمان كوردستان، سواء تجاه واقع مدينة كركوك الكوردستانية أو تجاه هذه التهديدات التي وصلت إلى حد لايقبل التحمّل والاهمال، حيث دعا الأتراك إلى التعقل والحوارعلى أساس الاحترام المتبادل وعلى أساس أن الترهيب والحرب والابادة لاتنفع في القضاء على طموح الأمة الكوردية، مثلما لم يتمكّن البعثيون المجرمون من انهاء القضية الكوردية حتى باستخدام الأسلحة الكيميائية والابادة الجماعية أيضاً… فالقضية الكوردية في شمال كوردستان قضية سياسية أيضاً، ولايمكن القضاء على الطموح الكوردي هناك عسكرياً… إنه موقف نبيل ودعوة نبيلة من رجل نبيل.
منذ أن رفض البرلمان التركي في عام 2003 مرور القوات الأمريكية من أراضيها للقضاء على حكم الطاغية صدام حسين، بعد أن كانت تلك القوات قد صارت على مرمى حجر من الحدود التركية – العراقية، فإن للولايات المتحدة نظرة أخرى عما كانت من قبل تجاه الحليف التركي في حلف الناتو، هذا الذي ساعدته الولايات المتحدة عسكرياً عقوداً من الزمن، وأشرفت على تعزيز قدراته الاقتصادية والحربية، ووقفت إلى جانب جنرالاته في انقلاباتهم وتصفيتهم لقوى المعارضة اليسارية والديموقراطية لثلاث مرات على الأقل، ومارست ضغوطاً شديدة على الدول الأوربية لتقف موقفاً شبه محايد من الصراع التركي – اليوناني ولتقبل هذا الحليف كدولة عضو في الاتحاد الأوربي مستقبلاً….
كانت تركيا أشبه بالطفل المدلل لدى واشنطن، وبخاصة بعد سقوط نظام الشاه العميل في عام 1980، الذي كانت تعتمد عليه الولايات المتحدة في أمورعدة وفي بناء وتعزيزاستراتيجيتها الشرق الأوسطية والحصول على البترول بأبخس الأثمان، ولكن انهيار السوفييت كنظام معاد للولايات المتحدة وظهوردولة مؤيدة لها في ما كان يسمى بدول المنظومة الشيوعية، وابداء هذه الدول استعدادها لنشرقواعد أمريكية في بلدانها، واقامة اتفاقيات اقتصادية وعسكرية معها، بدأ المركز التركي يفقد أهميته الكبيرة لدى الأمريكان، وجاء قرارالبرلمان التركي آنذاك ليظهر للأمريكان بأن تركيا رغم كل ما قدموه لها منذ قيام الجمهورية التركية لم ينفع في لجم أنانيتها القومية الضيّقة وتمسّكها بمصالحها الاقتصادية الخاصة، وتصرّفها كدولة عظمى في المنطقة، تحتاج إليها أمريكا أكثر مما تحتاج هي لأمريكا، وازداد الشرخ اتساعاً بين الدولتين المتحالفتين بعد أن قبض العسكريون الأمريكان على مجموعة من الجنود ورجال الاستخبارات التركية في كوردستان العراق وجرّوهم خلفهم برؤوس مخفية في الأكياس، إهانة وتحقيراً وإذلالاً، مما دفع الأتراك إلى الانتقام من الأمريكان عن طريق انتاج فيلم خيالي يدعى “وادي الذئاب” يظهر مدى قوة الترك وشراستهم في القتال “الخيالي” ضد الأمريكان في عملية تشبه عمليات “جيمس بوند” الرخيصة….
لم ينفك السياسيون والعسكريون الترك، منذ اسقاط نظام الوحش في بغداد، عن الحديث عن “تركيةِ مدينة كركوك” وحقهم التاريخي في “استعادة لواء الموصل!” الذي يشمل كل كوردستان العراق تقريباً، متذرّعين بأمرين:
– تواجد أقلية تركمانية في بعض المدن الكوردية ومنها كركوك، وهي أقلية عانت كالشعب الكوردي من الأمرّين على أيدي جلاوزة البعث، دون أن تحاول تركيا في يوم من الأيام مساعدتهم في عهد صدام حسين، إلاّ أنها بدأت تطلق كل يوم صرخات نارية منذ أن تشكلت حكومة كوردية وبرلمان كوردي في عام 1991، بعد أن سحب البعثيون إدارتهم من اقليم كوردستان، وعلى الرغم من أن التركمان يحظون الآن بالكثير من الحقوق التي لم يكونوا يتمتعون بها من قبل ولهم ممثلون، سواء في البرلمان العراقي الموّحد أو في البرلمان الاقليمي الكوردستاني…
– تواجد مقاتلي حزب العمال الكوردستاني (اقترح السيد عبد الله أوجلان من معتقله عمرانلي منذ أيام قلائل تسميته بالجمعيات الاجتماعية الكوردية أو شيئاً من هذا القبيل) في المناطق الحدودية بين تركيا والعراق.
ويجدر بالذكر أن هذا الحزب قد أعلن الهدنة من طرفه وطالب ولا يزال مراراً بإصدارعفو عام والبدء بالحوار من أجل حل سياسي عادل للقضية الكوردية في تركيا ضمن حدود الدولة التركية القائمة وعرض تنازلات عديدة مغرية مقابل هذا العفو وهذا الحوار، وفي مقدمتها إلقاء السلاح تماماً والنزول من الجبال إلى المدن للمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية كأي مواطن تركي آخر.
إلاّ أن جنرالات الجيش وقوى الأمن والاستخبارت الأقوياء يضغطون على الحكومة والمعارضة والإعلام وعلى منظمات المجتمع المدني، ويرهبون الشعب ويتوعدون ويهددون بأنهم سيستولون على الحكم مرّة أخرى إن حاول أحدهم قبول العرض الكوردي الذي تقدّم به الحزب الكوردي… إن تركيا مصرّة على اعتبار حزب العمال الكوردستاني منظمة إرهابية، وتعمل على الابقاء على هذه التهمة لدى الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، إلآّ أن المجتمع الدولي بدأ يتململ من هذه المطالب المستمرة والمجحفة لدولة لاتستطيع حل قضاياها الداخلية سياسياً وتحاول إرهاق العالم بها من خلال اتهام العاملين على حل هذه القضايا بالإرهابيين أو المساعدين على الإرهاب، وهذا ما دفع بالمحكمة الأوربية إلى قبول طلب تقدّم به عثمان أوجلان شقيق السيد عبد الله أوجلان لاعادة النظر في موضوع اعتبار حزب العمال الكوردستاني حزباً إرهابياً…
كل من يهتم بقضايا الشرق الأوسط، بما فيها القضية الكوردية والمزاعم التركية، يعلم جيداً بأن مطامح تركيا توسعية على حساب شعوب المنطقة، فالترك أصلاً قدموا من أقصى الشرق الآسيوي غازين، مدمّرين، حارقين وغاصبين، وقضوا على الكثير من سكان منطقة آناتوليا اليونانية وغيّروا إسمها مع الأيام إلى “آناضول – أي ابن الأم)، مثلما بدّلوا إسم “كوستانتينوبول” إلى “استانبول” وتمكّنوا بفضل اعتناقهم الدين الاٍسلامي وبسبب الفوضى السياسية التي كانت سائدة في منطقة الشرق الأوسط، ومن خلال الابادات الجماعية لليونان والأرمن والكورد، من انتزاع السيادة والخلافة ومن ثم التوسّع جنوباً حتى اليمن وشمالاً وغرباً حتى وصلوا إلى مشارف فيينا النمساوية وحاصروها، ثم تقلّص نفوذهم مع الزمن إلى أن فقدوا السيطرة على العالم العربي كله وانهارت دولتهم العظمى، وأضطر زعماؤهم للاستنجاد بمصطفى كمال اليهودي الأصل من تسالونيكي اليونانية الذي تحالف مع الانجليز سرّاً مقابل أن يخنق الانتفاضات الدينية – القومية في كوردستان والعالم العربي، ويتمتّع برئاسة دولة جديدة انبثقت بعد الحرب العالمية الأولى بسنوات قلائل، سماها “الجمهورية التركية“… وقد سخّر لنفسه بعض زعماء الكورد وخدعهم لتقوية نفوذه ولينطلق من مناطقهم لتوسيع سيطرته ثم انقلب عليهم وأعدمهم بالجملة ليقيم دولة تركية عنصرية قائمة على أساس العنصر التركي الذي يدّعي أنه من “الذئب الأغبر“… وتمكن الترك فيما بعد من اغتصاب لواء الاسكندرونة من سوريا نتيجة اتفاقية لئيمة مع الفرنسيين في عام 1937، وهو أكثر خصوبة وجمالاً وأهمية استراتيجية من الجولان بالتأكيد.
الدولة التركية منذ أن فقدت لواء الموصل تضع في ميزانيتها السنوية مقدار ليرة تركية واحدة كميزانية رمزية لهذا اللواء، وكانت ولا تزال تتحين الفرص للانقضاض على “كوردستان العراق“، وما تزعمه الحكومات التركية المتتالية وجنرالات طوران عن اضطهاد كوردي للتركمان أو أن هناك 3 ملايين تركماني في العراق أو أن حزب العمال الكوردستاني يشن من جبال المنطقة هجمات على جيشها، ليس إلا ذرائع تريد بها فرض شروطها على العراقيين، وقد بدأت فعلاً تتدّخل بفظاظة في الشأن العراقي، كعقد مؤتمرما يسمى بدعم السنّة في العراق أو مؤتمر حوار حول كركوك في ظل العلم التركي ودون تواجد كوردي فيه أوعقد جلسة برلمانية سرّية حول كركوك، حتى أن هذه السياسة الاستعمارية قد وصلت إلى حد أن الحكومة التركية ترفض ممارسة العراقيين صلاحياتهم في تنفيذ بنود الدستورالعراقي، وتهدد بأنها ستحتل جزءاً من العراق في حال عودة الكورد المشرّدين إلى مدينة كركوك، والذين لايزالون يعيشون في المخيمات.
الشعب العراقي برمته، ماخلا حفنة من عملاء تركيا الذين يطلقون على أنفسهم إسم “الجبهة التركمانية” التي يرفضها معظم تركمان العراق، لن يقبل بأن تصبح ثروته النفطية ملكاً لأي دولة أخرى، سواء أكانت تدعى تركيا أو إيران أو أمريكا أوانجلترا، والعالم العربي الذي يهمه أمر وحدة العراق عندما يتعلق الأمر بالكورد وكوردستان ويصرّ كل يوم على ضرورة صون وحدة الأرض العراقية لايزال ساكتاً تجاه تهديدات تركيا ومزاعمها وأهدافها الاستعمارية الصريحة، ولكن هذا لن يدوم لأنه ما من عربي يقبل بأن تحتل تركيا كركوك وتسلب العراقيين بترولهم، ولأن ما تزعمه تركيا حول استفادة الكورد وحدهم من البترول كذب ودجل، فالبترول حسب الدستور العراقي ثروة وطنية لجميع الشعب العراقي، سواء أكان في جنوب العراق أو في شماله… ومن جهة أخرى فإن إيران تنظر بعين الريبة إلى نوايا تركيا التوسعية، وترفض احتلال تركيا لمناطق غنيّة بالنفط لأسباب استراتيجية وطائفية أيضاً، فالمتضرر الثاني بعد الكورد في العراق نتيجة ذلك سيكون الشيعة، الذين سيحرمون كباقي فئات الشعب العراقي من واردات النفط في كركوك…
وهكذا نرى أن أسهم تركيا السياسية في هبوط ، سواء لدى الاتحاد الأوربي الذي لايريد مشاكل أخرى في المنطقة لأنه في النهاية هو الدافع الأكبر للأموال، مثلما هو الحال الآن، في فلسطين ولبنان، والبلقان سابقاً، أو لدى الولايات المتحدة الأمريكية الغارقة في المشاكل في العراق الآن، ولن تسمح لدولة أخرى منافستها في العراق وفرض سيطرتها على جيشها وإدارييها هناك أو فرض شروطها على بلد تحكمه وتحتله، أومثلما هو الحال لدى العراقيين أو لدى العالم العربي، أوالرأي العام العالمي ومنظمات المجتمع المدني، أوالديموقراطيين الأتراك الذين يرفضون أن تنجر بلادهم إلى أتون حرب طويلة الأمد لن تكون إلآ كارثة على الاقتصاد التركي والشعب التركي وقد تعرّض بلادهم إلى تقسيم كبير، حيث سينتفض كل أفراد الأمة الكوردية لمقاومة الاحتلال التركي، ولن يتمكّن النظام الأتاتوركي من شق صفوفهم وضربهم بعضهم ببعض كما فعل في الماضي…
وازدادت هذه الأسهم انخفاضاً نتيجة أمرين مؤخراً: الموقف الحاسم للحكومة الكوردية وتضافرسائرقوى الأمة الكوردية مع هذا الموقف، بحيث لم يعد أمام الكورد سوى احتمال واحد في حال قيام تركيا باحتلال كوردستان: “النضال من أجل إعلان الدولة الكوردية المستقلة التي تشمل كوردستان الشمالي أيضاً”، والجريمة النكراء التي اقترفهتها أيادي “الدولة الواطئة ” للمخابرات التركية بحق الناشط والصحافي الأرمني هرانت دينك، هذه الجريمة التي لقيت صدى ورد فعل قوي لدى كافة دول ومنظمات وسكان العالم المتمدّن، والتي ستعيق انتماء تركيا للاتحاد الأوربي ردحاً من الزمن، وستدفع الكنيسة في شتى أنحاء العالم إلى ممارسة الضغوط على الحكومات والمنظمات الدولية وهيئات المساعدات االمالية في أوروبا وسواها للوقوف في وجه إرهاب هذه الدولة السرية في تركيا.
المنفذ الوحيد للحكومة التركية لتنقذ من خلاله ما يغرق من سمعتها وهيبتها وعلاقاتها الدولية هو المنفذ الايراني، إذ تستطيع أن تقدّم نفسها في هذه الزاوية كمعين عسكري للحلفاء في الناتو ولاسرائيل معاً في حال اقدامهما على حرب خاطفة ضد إيران بسبب اتهامها ب“سياسة نووية خطيرة وبالتدخل المفضوح في العراق ولبنان وفلسطين وسجلها المليء بالجرائم ضد الإنسانية ومخططاتها التوسعية الطائفية على حساب البلدان العربية السنيّة الموالية للولايات المتحدة الأمريكية بهدف بناء ترسانة عسكرية قوية وتحقيق ما يسمى بالهلال الشيعي ومحاولة الوصول إلى سواحل البحرالأبيض المتوسط عن طريق حزب الله وسوريا…”، وفي حال كف تركيا عن التفكير في احتلال العراق وبالعمل ضمن المشروع الأمريكي الهادف إلى تحجيم الدور الايراني في المنطقة، واعترافها بجرائمها التاريخية ضد الشعبين الأرمني والكوردي والأقليات الأخرى وحل مشاكلها الداخلية سياسياً ومع الجيران عن طريق الحوار، فإنها سترفع بذلك من قيمة أسهمها في سوق السياسة العالمية وستحافظ على مكانتها كدولة هامة في المنطقة، وإلاّ فإنها ستعرّض نفسها بنفسها إلى التقسيم أو إلى حرب داخلية واسعة النطاق تشارك فيها سائر قوى الأمة الكوردية التي ما عدت تتحمّل هذه السياسة الرعناء للحكومة التركية وجنرالات طوران…