تركيا بين التمهيد والتهديد

روني علي

جرت العادة أن تدفع الشعوب من الشقاء والدماء، ضريبة التوازنات السياسية الدولية، وما تفرزها من محاور إقليمية، وما تتمخض عنها من احتقانات اثنية أو طائفية ومذهبية، وذلك منذ أن بدأت الخارطة الجيوسياسية للمنطقة بالتشكل، وتم ترسيم الحدود الجغرافية وفق إرادة مهندسي الحروب والمصالح الاستعمارية، وما نتجت عنها من غبن واضطهاد بحق الشعوب والقوميات .

وقد أضحت هذه الظاهرة، بحكم الممارسة، مذهباً سياسياً بحد ذاته، حيث أن الدخول في تحقيق مآرب سياسية أو اقتصادية لأية جهة كانت، لا يمكن لها أن تتم إلا عبر بؤر التوتر، وتأجيج الصراعات بأشكالها المختلفة، كما هي الحال عليها في أكثر من رقعة جغرافية، وبين أكثر من مذهب أو تيار سياسي، ناهيك عن الذهنية التي تشكل بممارساتها، الحامل لمثل هكذا سياسة، والتي تتجسد في نسف الآخر أو احتوائه وصهره عبر أدوات القسر والإرهاب، وذلك بغية وضع نواظم ومحددات تخدم ثقافة الاستعلاء، وتهدم الحقائق التاريخية والجغرافية التي تؤكد على ظاهرة التنوع، ومساهمة كل تشكيلة في بناء حضارة المنطقة، والهدف هو أولاً وأخيراً محاولة على طريق الطغيان، وإشباع لغريزة التعصب بأشكاله وألوانه ومنابعه المختلفة ..

وبما أن تركيا – الوريثة التاريخية للسلطنة العثمانية – تدرك جيداً وضعها الداخلي، وما تنتظرها من احتقانات وانكسارات، وذلك بحكم ما تحتضنها من تراكمات ومشاكل سياسية، سواء من جهة سلبيتها في التعامل مع قضاياها الداخلية، أو من جهة عدم قدرتها على توظيف ذاتها في السياسة الدولية، وتدرك بالقدر نفسه ما ينتظرها من مستقبل مأزوم، إذا ما تكللت مشاريع التغيير في المنطقة بنتائجها على الأرض، واختارت الشعوب طريقها نحو التعبير عن إرادتها، خاصةً وأن مجمل أشكال الحراك الدائر، لا بد وأن تدك معاقلها، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، القضايا المطروحة على أجندة القوى التي تساهم في تثبيت أركان التغيير وأهدافه، بغض النظر عن المرامي والمصالح في تلك الأجندات، فهي لا بد وأن تمر عبر التفاعل مع مفاهيم العصر، من إشاعة الديمقراطية وإطلاق الحريات العامة، تلك القضايا التي تعاني منها الدولة التركية، والتي تقف كعقبة في وجه طموحاتها في الدخول إلى أسرة الاتحاد الأوربي، وتحسين أوضاعها الداخلية، إضافةً إلى حجم القضية الكردية التي تثقل كاهلها، والأزمة التي تلفها إزاء تعاملها مع قضية حزب العمال الكردستاني وزعيمها المعتقل في جزيرة إيمرالي ..
ولأن تركيا تدرك أيضاً؛ أن ما كان قائماً من بعض حالات التناحر والتصارع والاحتراب بين القوى والكيانات السياسية الكردية، قد أخذت طريقها إلى التلاشي، بحكم معرفة الكرد بملامح المستقبل، وانكبابهم على قراءة الوقائع والتطورات من زاوية المصلحة القومية، ومصلحة شعوب المنطقة، والتي تتجسد في التواصل والتفاعل ومد جسور التعامل، كون الخروج من انكسارات السياسة في الحالة الكردية لا يمكن لها أن تترجم على الأرض إلا عبر الارتقاء بأدوات الخطاب وتشكيل قواسم وتقاطعات سياسية، تشكل بالنسبة للقضية الكردية بحكم المرجعية والإخلال بها بحكم الخطوط الحمر، خاصةً وأن سياسات المراهنة على الأنظمة والمحاور الإقليمية قد أضرت بالقضية الكردية ومصالحها السياسية، بل وحتى الشخصية، فهي تزيد من مخاوف الجنرالات والتيارات الشوفينية، من أن تجتاح الشعور القومي الساحة التركية، وتكون الدولة القائمة على قوانين القسر والقمع على كف عفريت ..
ومن هذه القراءة، وكون تركيا ما تزال بعيدة عن دور اللاعب في قضايا المنطقة، وخاصةً في العراق، إذا ما قارنا ذاك الدور، بدور بعض الدول الإقليمية الأخرى التي تتدخل في الشأن العراقي وتحتفظ لنفسها ببعض أوراق الضغط، سواء عبر المد المذهبي أو عبر المنهجية السياسية، إلى جانب تخوفها من التجربة الكردية في كردستان العراق، تحاول هي الأخرى أن تكون لها الشأن فيما يحصل في المنطقة من توازنات وتوافقات، وبالتالي أن تمهد لدور مستقبلي عبر نقاط ارتكاز، وتحت مسميات مختلفة، كي لا تخرج من المسألة بخفي حنين، وتنعكس ما يجري في العراق على وضعها الداخلي، وخاصة فيما يتعلق بالبعد القومي للقضية الكردية، إلى جانب أنها تريد عبر تحرشها بالساحة العراقية، وتحديداً فيما يتعلق بقضية كركوك وتهديداتها المستمرة للمكونات السياسية الكردية، من إيصال رسالة محددة إلى الأسرة الدولية بخصوص دورها وعدم تجاهل ذاك الدور في عملية التوازنات السياسية، إلى جانب سعيها الوصول إلى نوع من تطمينات دولية حول مستقبل القضية الكردية في تركيا، وأن ما جرى في العراق من تشكيل كيان كردي لا يمكن له أن يأخذ طريقه إلى الجغرافيا التركية ..
أمام هذه الحالة، وفي هكذا جو من حالة اللااستقرار السياسي والتهديدات المستمرة من جانب الدولة التركية، أعتقد أن القوى السياسية الكردية أمام شكل من التحرك الدبلوماسي السياسي وخاصةً في الساحة الأوربية، وذلك عبر احتجاجات ومسيرات سلمية تندد بالممارسات التركية في الشأن العراقي الداخلي، وذلك حتى لا يكون للدور التركي صداه في الوسط الأوربي، وحتى لا يكون الكسل حليف الرؤية الكردية كما حصل بشأن تقرير بيكر هامتلون، حيث لم يخرج صوت كردي في الشارع الأوربي عبر شكل احتجاجي لإيصال الخيار الكردي ضمن استحقاقات المستقبل لمجمل قضايا المنطقة إلى الرأي العام العالمي، وبما فيهم مناصري قضية الشعب الكردي .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…