إقليم كردستان العراق والتهديد الطوراني

توفيق عبد المجيد

لم يكف المسئولون الأتراك يوماً من الأيام وكلما خطا إقليم كردستان خطوات نحو المستقبل المشرق لشعبه الذي ذاق مرارة الظلم والطغيان والإبادة الجماعية والأنفالات والضرب بالأسلحة المحرمة دولياً ، ومنذ الإطاحة بصدام حسين في ريبع عام 2003 لم يكفوا يوماً عن التهديد والوعيد وإطلاق التصريحات النارية ، وإظهار النوايا التوسعية والعدوانية تارة لأجل الجالية التركمانية التي تسكن كركوك ، وأخرى لضم لواء الموصل الذي يشمل حكماً محافظة كركوك الغنية بالنفط إلى الدولة التركية العتيدة وليدة الإمبراطورية العثمانية التي كانت قد استعمرت معظم شعوب المنطقة في القرن السادس عشر للميلاد .

ولكي تفصح هذه الدولة الاستعمارية عن نواياها المبطنة والمكشوفة لازالت تخصص في ميزانياتها السنوية وكل عام مبلغاً رمزياً للواء الموصل الذي تعتبره إلى الآن مكوناً وتابعاً للدولة التركية الحديثة التي نشأت بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وبعد أن انكفأت وتراجعت عن كل مستعمراتها السابقة مستسلمة لرغبة الدول المنتصرة في تلك الحرب الكونية لكي توزع تركة الرجل العجوز بموجب الاتفاقيات التي كانت قد أبرمت بين تلك الدول .
ولا يخفى على أحد تنكر هذه الدولة وقادتها لشركائهم الكرد في الوطن ومن ثم التنصل من استحقاقات اتفاقية سيفر والسعي لدى دول أصحاب القرار في ذلك الوقت لاستبدالها باتفاقية لوزان ، ليسارعوا إلى قلب ظهر المجن لحلفاء الأمس الأكراد والالتفاف عليهم والتنكر لوعودهم كثاني أكبر قومية في تركيا وقمع ثوراتهم وانتفاضاتهم بقوة البطش والحديد والنار، والتنكيل بأغلب القادة الأكراد وتعليقهم على أعواد المشانق التي اخترعتها العقلية الشوفينية الطورانية الكمالية منذ ذلك الوقت عندما أعدمت كوكبة من الوطنيين العرب المطالبين بالحرية والاستقلال ، ولا يزال العمل سارياً بهذه العقوبة – وهي من ثمار شجرة التقتيل والتنكيل التركية التي رويت بدماء المناضلين والقوميين من العرب والكرد والأرمن – حتى هذه الأيام
ونتيجة لاتفاقيات عدة أبرمتها الحكومة التركية في السبعينات من القرن الماضي مع المقبور صدام حسين لإجهاض الطموحات الكردية المشروعة والحؤول دون تحقيقها وتأخير تحقيق أهداف الكرد في كل من تركيا والعراق سمحت بموجبها السلطات العراقية للأتراك بالدخول إلى عمق الأراضي العراقية وإلى مسافة ثلاثين كيلومتراً بذريعة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني الذين كانوا يتمركزون في المناطق الجبلية الوعرة من كردستان العراق .
وبعد أن أطاحت قوات التحالف الدولي بصدام ودخلت العراق ، تغيرت الأوضاع بشكل جذري وخلقت معادلات ومعطيات جديدة كان من أبرزها فرض الكرد أنفسهم على مسرح المستجدات كثاني أكبر قومية لها خصوصياتها المتميزة وترجموا ذلك على أرض الواقع في إقليم كردي كان يتمتع بنوع من الاستقلالية في اتخاذ القرار وإدارة شؤون الإقليم بكل جدارة من جانب واحد منذ عام 1991 بعد هزيمة النظام العراقي أمام قوات التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية – حرب تحرير الكويت – وبمشاركة معظم الدول العربية ، وتخلي النظام العراقي عن إدارة الإقليم وسحب كافة أجهزته منه ، وبعد أن أثبت أبناء الشعب الكردي كفاءتهم في إدارة الإقليم وتوجوا ذلك بأول انتخابات برلمانية في أيار 1992
كانت السلطات التركية تنظر دائماً إلى التحولات الجارية في إقليم كردستان بعين التوجس والخيفة وتراقبها بدقة تحسباً من المستقبل الذي قد لا يسمح لها بأن تسرح وتمرح في كردستان العراق وقتما تشاء وكيفما تشاء ، وخوفاً من امتداد التطلعات الكردية المشروعة إلى أكبر الأقسام الكردستانية في كردستان تركيا ، والذي ابتلعته – ومازالت – الشوفينية التركية بالضد من إرادة وتطلعات أبناء الشعب الكردي في كردستان تركيا باتجاه نيل الحقوق المشروعة وتقرير المصير بالطريقة التي تناسبهم ، فلم يكف ساستها يوماً عن إظهار عدم الارتياح وروح العداء تجاه أبناء الشعب الكردي ليس في كردستان تركيا بل في إقليم كردستان العراق الذي يتمتع الآن بنوع من الاستقلالية ، فكانوا يطلقون الشعارات العدوانية في كل مناسبة وكلما خطا الإقليم خطوات أخرى باتجاه المستقبل لاسترجاع المناطق الكردية التي تم تعريبها وسلخها لضمها إلى الإقليم بموجب المادة (140) من الدستور العراقي الدائم وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل العبث الصدامي بجسم الإقليم وبموجب ذلك ستنضم أربعة أقضية كبيرة ذات أغلبية كردية ساحقة ( كلار وكفري وجمجمال وتوز خرماتو ) إلى محافظة كركوك وستضمن هذه الأغلبية الساحقة فوز الكرد في الانتخابات التي ستلي تطبيع الأوضاع في محافظة كركوك بلا منازع علماً أنهم كانوا قد فازوا في الانتخابات السابقة بالأغلبية ودون ضم هذه الأقضية الأربعة وهم الآن يشكلون الأغلبية في عدد أعضاء مجلس المحافظة .
عودة إلى تصريحات أردوغان الأخيرة التي يتنبأ فيها إلى ما ستؤول إليه الأوضاع بعد إعدام صدام ومن ثم إجراء انتخابات لاحقة بالاستناد إلى الدستور العراقي الدائم في مدينة كركوك ( إعدام صدام وإجراء استفتاء في كركوك يمكن أن يؤديا إلى تطورات بالغة الخطورة ) ونحن نقول له إن مثل هذه الانتخابات كفيلة بإعادة الحق المصادر إلى أهله ، ولماذا يتحسس من الانتخابات طالما أنه وصل إلى كرسي رئاسة الوزارة التركية بالانتخابات ؟ أم أن الانتخابات وجدت له ولأمثاله وفصلت على مقاسهم لكي يتبجح بالديمقراطية التركية التي تخالف كل الديمقراطيات في العالم ، ثم يظهر بجلاء عدوانيته التي لا تخفى تجاه الكرد وتصميمه على التدخل فيما لو ضمت كركوك ناسياً أن ذلك شأن عراقي بحت ولا يحق له التدخل في شؤون الغير ( أن تركيا لن تقف مكتوفة اليدين إذا أصبحت مدينة كركوك تحت سيطرة الكرد ) وليعلم أن الشعب الكردي أيضاً لن يقف مكتوف اليدين ، ولن يكون اجتياح جزء من العراق ومن كردستان العراق نزهة ترفيهية ، ولن يستقبله الشعب العراقي بعربه وكرده ومعظم مكوناته ككل مرة ، بل سيخاطبه هذه المرة بشكل مختلف تماماً ، وباللغة التي لا يفهم سواها وسيواجهه بكل بسالة وشجاعة ، أما ما يدعيه من أن التركيب الديمغرافي لكركوك سيتغير فنقول له نعم سيتغير ولكن نحو إحقاق الحق وعودة المياه إلى مجاريها السابقة قبل محاولات النظام العراقي المقبور لتحويل مياه الأنهار إلى مصبات جديدة خدمت تطلعاته الشوفينية والعنصرية ( إن هناك جهوداً لتغيير التركيب الديمغرافي لمدينة كركوك ، ولن نقف مكتوفي اليدين إزاء تطور كهذا ) .
وفي آخر تصريحاته يظهر السيد أردوغان مخبوءاته العدوانية المدفونة تجاه الشعب الكردي المسالم وتجاه قياداته الحكيمة التي لم تفرق بين مواطني كردستان وأعلنت بصراحة أنها لن تسقي باقي فئات الشعب التي تعيش على أرض إقليم كردستان من كؤوس الظلم الذي شربته على مدى عقود طويلة من الزمن وستنتهج سياسة التسامح والمساواة تجاههم ، فيبادر السيد أردوغان إلى التهديد والوعيد تارة أخرى فيقول ( تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي إذا تعرض التركمان أو العرب للعنف ) وكأنه هو المسؤول عن حماية العرب والتركمان في إقليم كردستان ، فإذا كان السيد أردوغان من حماة ( العرب ) – وهم أخوة الكرد بالتأكيد – فلماذا لا يعيد إلينا لواء اسكندرون مشكوراً ؟ ولماذا كانت تركيا – ومن قبلها إيران – وهي دولة إسلامية تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل منذ نشوئها وحتى هذه اللحظة ؟
ختاماً نقول للسيد أردوغان : لقد أدى إعدام ( النازيين في ألمانيا والفاشيين في أوربا ) إلى نتائج إيجابية جداً خاصة على البلدين المذكورين ومن ثم على أوربا والبشرية بشكل عام ، إلى حد أنه يتمنى – أي السيد أردوغان – بل يحلم الآن بالانضمام إلى نادي تلك الدول الديمقراطية المتحضرة التي أقيمت على أنقاض إمبراطوريات الشر والعدوان في ذلك الوقت ، العثمانية والفاشية والنازية .
القامشلي في 22-1-2007

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…