د.سربست نبي
مصطلح( الدولة المدنية) مصطلح مقنّع, يتخذ مظهراً أنيقاً ولطيفاً وناعماً جداً, غير هجومي, إلا أنه يثير الشبهة بقوة.
فهو ينطوي على الكثير من اللغو والتضليل والخلط مما يثير الارتياب العميق في الغاية من تداوله وشيوعه.
الحديث عن الدولة المدنية أشبه مايكون بالثرثرة الفارغة عن الماء (السائل) على أنه سائل.
وهذا الاختراع النظري غير الموفق لا يمكن أن ينسب إلا للمعارضات العربية عموماً, والإسلامية بوجه خاص.
مصطلح( الدولة المدنية) مصطلح مقنّع, يتخذ مظهراً أنيقاً ولطيفاً وناعماً جداً, غير هجومي, إلا أنه يثير الشبهة بقوة.
فهو ينطوي على الكثير من اللغو والتضليل والخلط مما يثير الارتياب العميق في الغاية من تداوله وشيوعه.
الحديث عن الدولة المدنية أشبه مايكون بالثرثرة الفارغة عن الماء (السائل) على أنه سائل.
وهذا الاختراع النظري غير الموفق لا يمكن أن ينسب إلا للمعارضات العربية عموماً, والإسلامية بوجه خاص.
فقد أتت به في سياق التغييرات التي تعصف بالمنطقة, وشاءت عبر طرحه القفز على مطلب علمانية الدولة, كشرط لتحديث السلطة وتحوّلها إلى سلطة سياسية ديمقراطية, وتمكّن دجّالو المعاني من إقناع أنصاف الليبراليين وأشباه الديمقراطيين بأهمية هذا الاختراع العروبي- الإسلاموي الوحيد في هذا العصر.
إنها تتحين, من وراء هذا المفهوم الزائف, احتواء التغيير الديمقراطي الحقيقي والملح وليّ عنقه نحو فخّ المفاهيم الأيديولوجية الفضفاضة كي تنقضّ عليه تالياً وتنسفه بترسانتها الأيديولوجية التكفيرية.
ذلك أنها حتى هذه البرهة لا تسلّم بضرورة تحديث الدولة ولا تؤمن بدمقرطتها إلا مواربة.
كما لا يمكنها قط أن تعلن بصراحة إن شرعية الدولة وشرعية كل سلطة سياسية هي دنيوبة وإنسانية, وليست سماوية مفارقة, طالما أنها لا تزال على اعتقادها العتيق بمفهوم( الحاكمية) و أن الإسلام دين ودنيا.
إن كل فكر سياسي ديني يتعارض مع تحديث الدولة ودمَقرَطة النظام السياسي, لأنه يتعارض في الأصل مع القول بالمصدر الدنيوي- البشري للسلطة وشرعيتها.
والسلطة والأيديولوجية الدينيتان ترفضان النظر إلى رعايا الدولة على قاعدة المساواة في المواطنة, وفي الحقوق الطبيعية التي تفرضها الطبيعة البشرية.
من هنا يغدو الحديث عن دمقرطة الدولة وتعدديتها من دون إعلان ضرورة عَلمَنَتها لغواً فارغاً وتضليلاً سياسياً وخداعاً.
مفهوم( الدولة المدنية) يمثل تحريفاً للشروط النظرية والآيديولوجية للدولة الحديثة.
ويُراد به العودة بمفهوم الدولة إلى أسس نظرية وفلسفية قبل حداثية.
إنها الأسس التي لا تعترف بالبشر كأساس لشرعية الدولة, كما لاتعترف بالسياسية كفاعلية دنيوية وشأنٍ عام, وتتجاهل الاستقلال السياسي للدولة عن المجتمع المدني, وبالتالي لا تعترف بالأخير كمجال خاص للحقوق الفردية.
في العرف العقلي الأرسطي( الموجود لا يعرّف, فإن عرّفته زاد غموضاً) والحال أن هذه القاعدة تصح على الموجودات الاعتبارية والمادية والمعنوية جميعها.
ولا تشذّ الدولة ككيان عن تلك.
فالدولة وجدت أصلاً كي تكون سياسية تستمّد شرعيتها من أساس اجتماعي مدني.
إذ لم يشهد تاريخ الدول, بالمعنى الحديث, من قبل دولة غير سياسية, سوى تلك الإمارات والممالك والإمبراطوريات الغابرة, التي كانت تمثل سلطة إقطاع عسكري أو سواه.
ولهذا لم تكن تشكل دولاً بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة.
ومن الخطأ, من وجهة نظر علوم السياسة والفكر, عدّها دولاً في الأصل والطبيعة.
لاعتبارات عديدة, منها غياب فضاء سياسي عام ومشترك.
واختزال السياسي فيما هو اجتماعي, وعدم التمييز بين المجالين.
من هنا لم تكن دولاً سياسية, ولا حتى مدنية.
إنما في أحسن الأحوال كانت مجرد سلطة إقطاع عسكري.
لا يصح التمييّز بين ماهو(مدني) و( غير مدني) من الناحية المنهاجية إلا حينما يتعلق الأمر بالسلطة.
فالسلطة السياسية هي عادة ما يستخدم بشأنها مصطلح ( السلطة المدنية) أو( السلطة العسكرية)…الخ.
ومن النافل الحديث عن الدولة السياسية بوصفها دولة مدنية, لأن الدولة لا تكون أصلاً ما لم تتأسس على مجتمع( مدني) فهذا التأسيس من مبررات وجودها وشرط له.
ولا يمكن أن تكون هناك دولة سياسية حديثة من دون مجتمع مدني حيّ.
وهذا التعريف للدولة بصفتها سياسية, وللمجتمع بصفته(مدنياً) له جذره الفكريّ العميق وتأسيسه النظريّ اللذين يحولان دون الخلط بينهما بأيّ اعتبار.
لقد انتبه الآباء الأوائل للفكر السياسي الحديث, والمؤسسون لنظرية الدولة والمجتمع المدني, إلى هذا الجانب.
فقد استخدموا طوال قرنين منذ زمن الفيلسوف الإنكليزي( توماس هوبز) مصطلح الاجتماع/المجتمع( المدني) و( الكومنويلث) والدولة للإشارة إلى النموذج الجديد للاجتماع الإنساني بمواجهة الأشكال السابقة للاجتماع المدني وبخاصة ( الاجتماع الطبيعي) كما افترضوا, قبل أن يصبح المجتمع المدني حيّزاً مستقلاً عن الحياة السياسية, ويغدو كل ماهو ليس من الدولة اجتماعياً.
ويُنجز الاستقلال التامّ بين المجالين السياسي والاجتماعي( المدني) مع ظهور النظرية الليبرالية.
لقد ساد هذا التصور الأولي لدى (هوبز) و( جون لوك) وآخرين.
والقول بالمجتمع المدني كان يعني الدولة في ذات الوقت لديهم, ويراد به المجتمع السياسي المنظم المنبثق من المجتمع البشري, لا من مصدر ديني مفارق.
وكانت السياسة, لدى هؤلاء, مدنية ودنيوية غير مقدسة, وليست شأناً لاهوتياً, كما كان الحال لدى فلاسفة العصر الوسيط مثل (القديس أوغسطين) و( توما الأكويني).
بهذه الدلالة استخدم هؤلاء صفة( مدني) ليس إلا.
في المرحلة التالية من تطور الفكر السياسي الحديث حيث تم التمييز والإقرار بالفصل العلائقي بين المجالين, مع مفكرين أمثال( آدم سميث) و( آدم فيرغسون) و( ستيوارت مل) و( توكفيل) وغيرهم.
صار الحديث عن الدولة بصفتها كياناً (سياسياً) والمجتمع بصفته كياناً( مدنياً) مستقلاً تماماً عن المجال السياسي ومجرداً منه, مثلما ليس للدولة من علاقة بالحياة ( المدنية) إلا حينما ترتد إليها لتبرر شرعية وجودها.
وعلى العكس من ذلك بات التأكيد على ضرورة حماية هذا( المجال الخاص) أو( المدني) يستدعي أكثر فأكثر تعزيز التدابير الاحترازية ذات الطابع الوقائي التي تحول دون تعسف السلطة السياسية وتقييد تدخلها في الحياة( المدنية) جزءاً لا يتجزأ من التصور الحديث والمعاصر للدولة السياسية.
العلمانية هي أيديولوجية السلطة الدنيوية للدولة وفلسفتها التي تشرعن وجودها.
ومنذ البداية اعتبر مفكرو الحداثة السياسية( جان بودان, هوبز..), بمواجهة الهيمنة الأيديولوجية للكنيسة التي كانت تبرر ممارسة السلطة باسم الله, على أن السيادة هي علّة ذاتها وأن الإرادة الحرة هي مصدر كل سلطة سياسية, وأن أساس شرعية السلطة يكمن في الشعب.
على هذا النحو أصبح مصدر السلطة داخليّاً, وليس من خارجها, وأخذت هي تبرر شرعيتها من هذا الموقع, وتبرر ممارساتها على هذا الأساس.
بتعبير آخر أخذت السياسة تنبثق من الذوات التي تحملها وتمارسها, لا من أي مصدر آخر خارجها.
و راحت تبرر ذاتها بالبشر لا بالآلهة.
بهذا المعنى أصبحت السياسة شأناً عاماً ودنيوياً, وغدت ممارستها دنيوية, وليست شأناً إلهياً أو لاهوتياً.
وهذا هو الجوهري في الفلسفة العلمانية.
إن مقاربة العمل السياسي والممارسة السياسية كفعل دنيوي مباشر, بصرف النظر عن دلالاته الآخروية أو السماوية يؤسس على قناعة فلسفية إن الدولة والمجتمع المدني مؤسستان دنيويتان, ليستا مقدستين, يوجدان من أجل ذاتيهما ومن أجل المصالح البشرية لحاملهما, وليستا من أجل إرادة غائية مفارقة أو غاية سامية, كما تحدث آباء الكنيسة من قبل.
بخلاف ماسبق يلاحظ أن من شأن التأكيد على( مدنية) الدولة أو ( الدولة المدنية), كما يُراد الأخذ به كمفهوم سياسي- مركزي في خطابات الإسلاميين, إنما يعني التنكر المتعمد للجوهر السياسي للدولة وتجاهل استقلالها( كمجال عام للمواطنة) عن المجتمع المدني( كمجال خاص للحقوق الإنسانية), والخلط بين المجالين من شأنه أيضاً عدم التمييز بين منظومتي( حقوق المواطن) و( حقوق الإنسان).
فلا تعود السياسة في هذه الحالة شأناً عاماً, إنما شأناً خاصاً بفئة معينة, وتزول الحدود بين ماهو سياسي وماهو مدني, وتميّع منظومة الحق.
وأيضاً لن تبقى هناك ضمانة نظرية أو عملية أن يظلّ القانون كمرجع للسلطة من أصل دنيوي خالص, أو مستمدّ من واقع حاجات البشر؟
العلمانية بأبسط معانيها تعني الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والملل والنحل وجميع الفرق الدينية.
وهي تعني في الوقت ذاته, كما يشير كذلك صادق جلال العظم, الاستقلال النسبي ( العلائقي) للمجتمع المدني ككينونة( مدنية) عن الدولة ككينونة( سياسية) غير مدنية, وعن التحكم المباشر من قبل الأخيرة بالأولى, وبالحياة الخاصة والمبادلات, وفق أي مبدأ ديني لأكثرية دينية أو طبقاً لشرائع وعقائد أغلبية مذهبية.
العلمانية تعني كذلك المساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون الدنيوي, لا الشرائع السماوية, بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الأثنية, كما تعني بموازاة ذلك صيانة حرية الضمير والمعتقد للجميع.
فهل تحتمل دلالات ومعاني مفهوم( الدولة المدنية) كل ذلك؟
يتخيل البعض من المنظرين الجدد وأنصار( الدولة المدنية) أنه يمكن تأسيس الديمقراطية دون علمانية صريحة, إنما مواربة عبر مفهوم( الدولة المدنية).
والواقع ليس هناك من دليل منطقي أو تاريخي على أن مفهوم( الدولة المدنية) مؤهل لهذا الدور.
فالديمقراطية تفرض سيادة الشعب, وتقول بأن الأفراد كمجموع, أو الشعب, هو مبدأ السلطة ومصدر شرعيتها, والحال أن العلمانية تؤكد على هذا البعد الدنيوي- البشري, كما تمّت الإشارة.
في حين أن من يتنكر للجوهر السياسي للدولة ويقول بـ( المدنية) إنما يريد أن يفرض نمطاً من السيادة باسم مرجعية غير دنيوية, ويقول بأن مصدر أو جوهر كل سلطة تكمن خارجها, أو لها علّة مفارقة, غير دنيوية وغير بشرية هي من صنعت السلطة وشرعنها.
أي أن أساس كل السلطة يكمن خارجها, وخارج الذوات البشرية.
وبالتالي هناك من يستطيع ممارسة تلك السلطة باسم تلك العلّة الخارجية, بقول آخر باسم الله.
وأن السيادة هي كذلك إلهية ومقدسة.
وأن المؤهل لممارسة السياسة ليست العامة أو مجموع المواطنين, إنما نخبة من اللاهوتيين أو رجال الدين أو الفقهاء, فهي لن تعود في مثل هذه الحالة شأناً عاماً للمواطنين الأحرار بصرف النظر عن عقائدهم وانتماءاتهم الدينية.
فهل يتسق ذلك مع المفهوم الحديث للديمقراطية يتعلق بصورة جوهرية بدرجة المشاركة السياسية والمساواة بين المواطنين؟
إنها تتحين, من وراء هذا المفهوم الزائف, احتواء التغيير الديمقراطي الحقيقي والملح وليّ عنقه نحو فخّ المفاهيم الأيديولوجية الفضفاضة كي تنقضّ عليه تالياً وتنسفه بترسانتها الأيديولوجية التكفيرية.
ذلك أنها حتى هذه البرهة لا تسلّم بضرورة تحديث الدولة ولا تؤمن بدمقرطتها إلا مواربة.
كما لا يمكنها قط أن تعلن بصراحة إن شرعية الدولة وشرعية كل سلطة سياسية هي دنيوبة وإنسانية, وليست سماوية مفارقة, طالما أنها لا تزال على اعتقادها العتيق بمفهوم( الحاكمية) و أن الإسلام دين ودنيا.
إن كل فكر سياسي ديني يتعارض مع تحديث الدولة ودمَقرَطة النظام السياسي, لأنه يتعارض في الأصل مع القول بالمصدر الدنيوي- البشري للسلطة وشرعيتها.
والسلطة والأيديولوجية الدينيتان ترفضان النظر إلى رعايا الدولة على قاعدة المساواة في المواطنة, وفي الحقوق الطبيعية التي تفرضها الطبيعة البشرية.
من هنا يغدو الحديث عن دمقرطة الدولة وتعدديتها من دون إعلان ضرورة عَلمَنَتها لغواً فارغاً وتضليلاً سياسياً وخداعاً.
مفهوم( الدولة المدنية) يمثل تحريفاً للشروط النظرية والآيديولوجية للدولة الحديثة.
ويُراد به العودة بمفهوم الدولة إلى أسس نظرية وفلسفية قبل حداثية.
إنها الأسس التي لا تعترف بالبشر كأساس لشرعية الدولة, كما لاتعترف بالسياسية كفاعلية دنيوية وشأنٍ عام, وتتجاهل الاستقلال السياسي للدولة عن المجتمع المدني, وبالتالي لا تعترف بالأخير كمجال خاص للحقوق الفردية.
في العرف العقلي الأرسطي( الموجود لا يعرّف, فإن عرّفته زاد غموضاً) والحال أن هذه القاعدة تصح على الموجودات الاعتبارية والمادية والمعنوية جميعها.
ولا تشذّ الدولة ككيان عن تلك.
فالدولة وجدت أصلاً كي تكون سياسية تستمّد شرعيتها من أساس اجتماعي مدني.
إذ لم يشهد تاريخ الدول, بالمعنى الحديث, من قبل دولة غير سياسية, سوى تلك الإمارات والممالك والإمبراطوريات الغابرة, التي كانت تمثل سلطة إقطاع عسكري أو سواه.
ولهذا لم تكن تشكل دولاً بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة.
ومن الخطأ, من وجهة نظر علوم السياسة والفكر, عدّها دولاً في الأصل والطبيعة.
لاعتبارات عديدة, منها غياب فضاء سياسي عام ومشترك.
واختزال السياسي فيما هو اجتماعي, وعدم التمييز بين المجالين.
من هنا لم تكن دولاً سياسية, ولا حتى مدنية.
إنما في أحسن الأحوال كانت مجرد سلطة إقطاع عسكري.
لا يصح التمييّز بين ماهو(مدني) و( غير مدني) من الناحية المنهاجية إلا حينما يتعلق الأمر بالسلطة.
فالسلطة السياسية هي عادة ما يستخدم بشأنها مصطلح ( السلطة المدنية) أو( السلطة العسكرية)…الخ.
ومن النافل الحديث عن الدولة السياسية بوصفها دولة مدنية, لأن الدولة لا تكون أصلاً ما لم تتأسس على مجتمع( مدني) فهذا التأسيس من مبررات وجودها وشرط له.
ولا يمكن أن تكون هناك دولة سياسية حديثة من دون مجتمع مدني حيّ.
وهذا التعريف للدولة بصفتها سياسية, وللمجتمع بصفته(مدنياً) له جذره الفكريّ العميق وتأسيسه النظريّ اللذين يحولان دون الخلط بينهما بأيّ اعتبار.
لقد انتبه الآباء الأوائل للفكر السياسي الحديث, والمؤسسون لنظرية الدولة والمجتمع المدني, إلى هذا الجانب.
فقد استخدموا طوال قرنين منذ زمن الفيلسوف الإنكليزي( توماس هوبز) مصطلح الاجتماع/المجتمع( المدني) و( الكومنويلث) والدولة للإشارة إلى النموذج الجديد للاجتماع الإنساني بمواجهة الأشكال السابقة للاجتماع المدني وبخاصة ( الاجتماع الطبيعي) كما افترضوا, قبل أن يصبح المجتمع المدني حيّزاً مستقلاً عن الحياة السياسية, ويغدو كل ماهو ليس من الدولة اجتماعياً.
ويُنجز الاستقلال التامّ بين المجالين السياسي والاجتماعي( المدني) مع ظهور النظرية الليبرالية.
لقد ساد هذا التصور الأولي لدى (هوبز) و( جون لوك) وآخرين.
والقول بالمجتمع المدني كان يعني الدولة في ذات الوقت لديهم, ويراد به المجتمع السياسي المنظم المنبثق من المجتمع البشري, لا من مصدر ديني مفارق.
وكانت السياسة, لدى هؤلاء, مدنية ودنيوية غير مقدسة, وليست شأناً لاهوتياً, كما كان الحال لدى فلاسفة العصر الوسيط مثل (القديس أوغسطين) و( توما الأكويني).
بهذه الدلالة استخدم هؤلاء صفة( مدني) ليس إلا.
في المرحلة التالية من تطور الفكر السياسي الحديث حيث تم التمييز والإقرار بالفصل العلائقي بين المجالين, مع مفكرين أمثال( آدم سميث) و( آدم فيرغسون) و( ستيوارت مل) و( توكفيل) وغيرهم.
صار الحديث عن الدولة بصفتها كياناً (سياسياً) والمجتمع بصفته كياناً( مدنياً) مستقلاً تماماً عن المجال السياسي ومجرداً منه, مثلما ليس للدولة من علاقة بالحياة ( المدنية) إلا حينما ترتد إليها لتبرر شرعية وجودها.
وعلى العكس من ذلك بات التأكيد على ضرورة حماية هذا( المجال الخاص) أو( المدني) يستدعي أكثر فأكثر تعزيز التدابير الاحترازية ذات الطابع الوقائي التي تحول دون تعسف السلطة السياسية وتقييد تدخلها في الحياة( المدنية) جزءاً لا يتجزأ من التصور الحديث والمعاصر للدولة السياسية.
العلمانية هي أيديولوجية السلطة الدنيوية للدولة وفلسفتها التي تشرعن وجودها.
ومنذ البداية اعتبر مفكرو الحداثة السياسية( جان بودان, هوبز..), بمواجهة الهيمنة الأيديولوجية للكنيسة التي كانت تبرر ممارسة السلطة باسم الله, على أن السيادة هي علّة ذاتها وأن الإرادة الحرة هي مصدر كل سلطة سياسية, وأن أساس شرعية السلطة يكمن في الشعب.
على هذا النحو أصبح مصدر السلطة داخليّاً, وليس من خارجها, وأخذت هي تبرر شرعيتها من هذا الموقع, وتبرر ممارساتها على هذا الأساس.
بتعبير آخر أخذت السياسة تنبثق من الذوات التي تحملها وتمارسها, لا من أي مصدر آخر خارجها.
و راحت تبرر ذاتها بالبشر لا بالآلهة.
بهذا المعنى أصبحت السياسة شأناً عاماً ودنيوياً, وغدت ممارستها دنيوية, وليست شأناً إلهياً أو لاهوتياً.
وهذا هو الجوهري في الفلسفة العلمانية.
إن مقاربة العمل السياسي والممارسة السياسية كفعل دنيوي مباشر, بصرف النظر عن دلالاته الآخروية أو السماوية يؤسس على قناعة فلسفية إن الدولة والمجتمع المدني مؤسستان دنيويتان, ليستا مقدستين, يوجدان من أجل ذاتيهما ومن أجل المصالح البشرية لحاملهما, وليستا من أجل إرادة غائية مفارقة أو غاية سامية, كما تحدث آباء الكنيسة من قبل.
بخلاف ماسبق يلاحظ أن من شأن التأكيد على( مدنية) الدولة أو ( الدولة المدنية), كما يُراد الأخذ به كمفهوم سياسي- مركزي في خطابات الإسلاميين, إنما يعني التنكر المتعمد للجوهر السياسي للدولة وتجاهل استقلالها( كمجال عام للمواطنة) عن المجتمع المدني( كمجال خاص للحقوق الإنسانية), والخلط بين المجالين من شأنه أيضاً عدم التمييز بين منظومتي( حقوق المواطن) و( حقوق الإنسان).
فلا تعود السياسة في هذه الحالة شأناً عاماً, إنما شأناً خاصاً بفئة معينة, وتزول الحدود بين ماهو سياسي وماهو مدني, وتميّع منظومة الحق.
وأيضاً لن تبقى هناك ضمانة نظرية أو عملية أن يظلّ القانون كمرجع للسلطة من أصل دنيوي خالص, أو مستمدّ من واقع حاجات البشر؟
العلمانية بأبسط معانيها تعني الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والملل والنحل وجميع الفرق الدينية.
وهي تعني في الوقت ذاته, كما يشير كذلك صادق جلال العظم, الاستقلال النسبي ( العلائقي) للمجتمع المدني ككينونة( مدنية) عن الدولة ككينونة( سياسية) غير مدنية, وعن التحكم المباشر من قبل الأخيرة بالأولى, وبالحياة الخاصة والمبادلات, وفق أي مبدأ ديني لأكثرية دينية أو طبقاً لشرائع وعقائد أغلبية مذهبية.
العلمانية تعني كذلك المساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون الدنيوي, لا الشرائع السماوية, بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الأثنية, كما تعني بموازاة ذلك صيانة حرية الضمير والمعتقد للجميع.
فهل تحتمل دلالات ومعاني مفهوم( الدولة المدنية) كل ذلك؟
يتخيل البعض من المنظرين الجدد وأنصار( الدولة المدنية) أنه يمكن تأسيس الديمقراطية دون علمانية صريحة, إنما مواربة عبر مفهوم( الدولة المدنية).
والواقع ليس هناك من دليل منطقي أو تاريخي على أن مفهوم( الدولة المدنية) مؤهل لهذا الدور.
فالديمقراطية تفرض سيادة الشعب, وتقول بأن الأفراد كمجموع, أو الشعب, هو مبدأ السلطة ومصدر شرعيتها, والحال أن العلمانية تؤكد على هذا البعد الدنيوي- البشري, كما تمّت الإشارة.
في حين أن من يتنكر للجوهر السياسي للدولة ويقول بـ( المدنية) إنما يريد أن يفرض نمطاً من السيادة باسم مرجعية غير دنيوية, ويقول بأن مصدر أو جوهر كل سلطة تكمن خارجها, أو لها علّة مفارقة, غير دنيوية وغير بشرية هي من صنعت السلطة وشرعنها.
أي أن أساس كل السلطة يكمن خارجها, وخارج الذوات البشرية.
وبالتالي هناك من يستطيع ممارسة تلك السلطة باسم تلك العلّة الخارجية, بقول آخر باسم الله.
وأن السيادة هي كذلك إلهية ومقدسة.
وأن المؤهل لممارسة السياسة ليست العامة أو مجموع المواطنين, إنما نخبة من اللاهوتيين أو رجال الدين أو الفقهاء, فهي لن تعود في مثل هذه الحالة شأناً عاماً للمواطنين الأحرار بصرف النظر عن عقائدهم وانتماءاتهم الدينية.
فهل يتسق ذلك مع المفهوم الحديث للديمقراطية يتعلق بصورة جوهرية بدرجة المشاركة السياسية والمساواة بين المواطنين؟