ولا نفشي سراً إذا قلنا أن النظام السوري كان يغض النظر عن نشاطات أحزاب كردية و كردستانية عديدة في سورية رأت في أهدافها “الكردستانية” مُسلمات لاتقبل جدالاً ولا نقاشاً، ولربما هذه المُسلمة تساعدنا في تفسير قمع كل صوت لا يتماشى وأهداف هذه القوى القومية العديدة المختلفة أصلاً في الساحة الواحدة على شكل ومضمون الحقوق الكردية بشكل عام وحقوق الأكراد في سوريا بشكل خاص.
ثمّ بدأ ((الربيع العربي)) انطلاقاً من تونس مؤذّناً ببداية حقبة جديدة تحاكي إلى حدّ ما مرحلة النهضة العربية أو اليقظة العربية كما اصطلح على تسميتها آنذاك حيث رُفع شعار (حب الوطن من الإيمان) وذكر تعريف للإستبداد كداءٍ إلى جانب ذكر الدواء الذي تمثّل في ((استرداد الحرية))، حيث كانت عيون السوريين شاخصة حول ما يجري في تونس ومصر وبلدان عربية أخرى، متمنين في الوقت نفسه قدوم الربيع تزامناً مع (الربيع)، بينما كان النظام السوري يرتعد خوفاً يقيناً منه بتشابه نظامه والأنظمة العربية المستبدّة، ثم سرعان ما بدأ الربيع السوري بتفتح (أزهار درعا)، حتى تحوّل إلى ثورة عارمة امتدت على طول البلاد وعرضها، حيث نجحت الثورة السورية في إظهار الوجه الوطني للحراك الشعبي السوري عامة والحراك الكردي الشبابي بشكل خاص والذي كان متعذراً على الحركة الكردية التقليدية قيادته، حيث وجدت نفسها رغم “خبرتها” السياسية عاجزة عن فكفكة رموز الثورة السورية والحراك الشبابي وأصبحت تضرب ((خبط عشواء)) وتحاول التملص من واجباتها الوطنية والأخلاقية في قيادة الحراك وتوجيهه.
واستمر هذا الوضع إلى حين تشكيل المجلس الوطني الكردي بعد أكثر من ((سبعة أشهر)) على اندلاع الثورة، حيث استبشر الأكراد خيراً بالرغم تأخرّه كثيراً إلا إنهم رأوا في هذه الخطوة “الوحدوية” رسائل إيجابية نظراً لأن موضوع توحيد الحركة الكردية يشكل مسألة مهمة وحساسة بالنسبة لأكراد سوريا، ولو أن البرنامج السياسي اشتمل على الكثير من الضبابية والمسائل المتناقضة إلا أن الشكل طغى على الموضوع آنذاك.
وإلى جانب المجلس الوطني الكردي برزت قوى سياسية كردية وكردستانية أخرى “رَكبت” الموجة القومية التي تنامت في المناطق الكردية بإطراد، وساعد على ذلك -التنامي- بعض المواقف السلبية من قبل بعض المعارضين للنظام السوري وتوظيف تلك المواقف السلبية من أجل العزف على الوتر القومي أكثر فأكثر، حتى لوحظ إنشغال “المعارضة” الكردية بالمعارضة السورية ومواقفها أكثر من انشغالها بالنظام ؟؟ وربما هذا يساعدنا في إيجاد تفسيرات لانسحاب الكتلة الكردية “انسحاباً نهائياً” من مؤتمر القاهرة في مصر مؤخراَ، حيث شكّل هذا الانسحاب نقطة مفصلية في تاريخ العلاقة بين الكتلة الكردية والمعارضة السورية من جهة وبين الكتلة الكردية ونشطاء الحراك الشبابي والرأي العام الكردي من جهة أخرى، و أعاد إلى الأذهان الحقبة الإنعزالية الكردية في سوريا التي كان للنظام دور كبير فيها والتي عانى منها الأكراد قبل غيرهم ، والسبب الذي يدفعنا في توصيف هذه النقطة بالمفصلية أنّه لوحظ تخفّي بعض الأطراف الكردية المنسحبة وراء المطالب “المصيرية القومية” لأكراد سوريا، ومحاولة إظهار المعارضة السورية على أنّها نسخة طبق الأصل عن نظام بشار الأسد، وشتان ما بين الأسد والمعارضة السورية، وهذا ليس دفاعاً عن المعارضة ولكن شكل ومضمون الإنسحاب الكردي أثار العديد من التساؤلات التي برزت إلى الواجهة مجدداً والتي اتخذتها بعض القوى الكردية كذريعة لقمع أي صوت كردي وطني مخالف لا يتماشى مع منظورهم القومي للقضية الكردية في سورية.
إنّ هذه المواقف “القومية المتصلبة” ومحاولات الترهيب والتشهير بالأصوات الوطنية الكردية السورية التي تؤمن بسوريا ((جمهورية سورية)) ديمقراطية علمانية، دولة الحق والقانون والمواطنة المتساوية لجميع مواطنيها في الحقوق والواجبات، وإيجاد حل عادل للقضية الكردية في سوريا موحدة أرضاً وشعباً وحل القضية الكردية حلاً نهائياً ، لن تؤدي إلا إلى تعقيد القضية الكردية في سوريا المعقدة أصلاً ولن تزيدنا إلا عزلة عن محيطنا الوطني السوري ولن تخدم إلا هذا النظام الجاثم على صدور السوريين منذ عقود طويلة، ولن تفضي إلا إلى سرقة دور الكرد في المرحلة الإنتقالية القادمة وفي رسم شكل سوريا المسقبل لاحقاً والتي تتشكل ملامحها الآن وخاصة في هذه المرحلة الحساسة والدقيقة من عمر الثورة السورية المجيدة ومنطقة الشرق الأوسط .