الكُرد السوريون بين واجباتٍ مفروضة وحقوقٍ مرفوضة

خالد جميل محمد


الوجودُ الكُردِيُّ، في إطارِ الدولة السوريَّة الحديثة، نـتَـجَ عن سياسات واتفاقيات ومصالح دَوْلِيَّة وإقليمية أحدَثتْ، في بدايات القَرن العشرين، تغييراتٍ جيوسياسيةً في مِـنْـطَـقـة الشرق الأوسط، وكان للكُردِ عامَّةً، كما كان لأشقائهم من الأرمن والكلدوآشوريين وغيرهم، نصيبٌ وافرٌ من الأضرار التي نجمتْ عن تلك السياسات الجائرة بحق شعوب المنطقة، وقد تطلَّب الوضعُ الجديدُ للكُرد السوريينَ أنْ يكونوا مُلتزمينَ أداءَ واجباتٍ فَـرَضَها عليهم بقاؤُهم القسْريّ في حدودِ الدولة السورية بعد أن حُرِموا من حقّهم في إقامة كيان سياسيٍّ يضم مجموعاتٍ وقومياتٍ عديدةً يشكّل الكرد واحداً من تلك المكونات المتعايشة معاً في رقعةٍ جغرافية واسعةٍ، بمعزلٍ عن الاقتصار على شعبٍ دون آخر،
 إلا أنَّ هذا البقاء صار حَكراً على الواجبات وحدَها، بعيداً عن الإقرار بأيٍّ من حقوقهم السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية أو الإنسانية، وهذا ما يراد به من أنَّ الكُرد السوريين ظَلّوا متأرجحين بين واجباتٍ مفروضة وحقوق مرفوضة لا من قِبلِ الأنظمة السورية المتعاقبة فحسبُ، بل من قِبلِ المعارضة السورية وشرائحَ جماهيريةٍ تَـمَّـتْ تعبئتُها بأساليبَ وطرائقَ متنوعةٍ ترغيباً وترهيباً وإقناعاً بأن على الكُرد السوريين ما على غيرهم من السوريين من واجباتٍ، وهي واجباتٌ لم يتهرَّب هؤلاء الكُرد من تأديتها يوماً، فكانوا جنباً إلى جنبٍ مع أخوانهم في خدمة العَلَم السوري والدفاع عن الأرض السورية ووحدتها وصونها ضد التدخلات والمخاطر الخارجية.
وكان الكُرد السوريون، كما أثبتت التجربةُ النضالية لهذا الشعب وطليعته الواعية المناضلة، أشدَّ وفاءً لسوريا من حزب البعث الحاكم، ومن الموالين له في ما سمّي بــ (الجبهة الوطنية التقدمية) التي، بِصَـمْـتِـها أو تأيـيـدها، شجَّعت على بلوغ الخراب الحاصل، وقدَّمت مصالحها على مصلحة الوطن، وكان الكُردُ السوريون أكثرَ حرصاً على إنقاذ البلاد من الفساد الذي هدَّد بانهيار كلٍّ من المجتمع والدولة ومؤسساتهما، وكان هذا الفساد المستشري من أَهمِّ إرهاصاتِ تفسُّـخ الوحدة الوطنية التي تمت المتاجرة بها للتغطية على الجرائم المرتكَبة بحق الإنسان السوري والكردي ضمناً تحت غطاء هذه الوحدة الوهمية المزعومة، وأنذر ذلك الفسادُ بالهلاك المبين للسكان الذين التمسوا نتائجه فعلاً وممارسة، وازدادوا تأكُّداً من مخاطره وعواقبه بعد التظاهر السلمي الذي قوبل بعنفٍ لا يحتاج إلى تعليقات أو تحليلات، وهو حِرْصٌ تَمثَّل في المشاركة الفاعلة للكرد السوريين في الثورة منذ بدايتها ليكونوا، كأخوانهم، وَقوداً لهذه الثورة التي كانت نتيجةً طبيعيةً لتخبطات مزمنة في سياساتٍ طُبِّقت بحق السوريين، ومن بينهم الكُرد السوريون الذين وُضِعوا في موقف الدفاع عن النفس لإثبات براءتهم من مزاعم الانفصال عند كلٍّ من النظام وقسمٍ واسعٍ من المعارضة على السواء.
كانت هذه المشاركة واجباً، كما كانت الانتفاضة الكردية السورية عام (2004) وقبلها عشرات التظاهرات والاعتصامات الكردية في دمشق وحلب وقامشلو جزءاً من ذلك الواجب الوطني الذي أدركه هؤلاء الكرد وآمنوا بجدواه في ظلٍّ نظامٍ لم يُمْكِنْ ولا يمكنُ أن يمنحَ أحداً حقوقاً إلا في إطار زائفٍ، بل أدرك الكرد أن الحقوق يجب أن تُــنـتَـزَع منه بالإلجاء والنضال السلميّ دون انتظار شـفَـقَـة منه أو صدقة يتصدَّق بها على أحدٍ، إلا أنَّ القسمَ الأعظم من المعارضة السورية نفسِها، قبل الثورة السورية وإبَّانَها، ويُخشى أن يكون بعدَها أيضاً، تنكَّر ويتنكَّر لهذه الحقوق ويقتصر على التصريح بأن الكردَ مطالَبون بتأدية واجباتهم الوطنية السورية، وكأن هذا القسمَ من المعارضة، وهو يُملي على الكُرد واجباتهم، غافلٌ عن تضحياتهم على امتداد عقود طويلة من النضال والمقاومة والمعاناة والحرمان من جميع الحقوق، أو كأنه يـنـتـوي إعادة تجربة الأنظمة السابقة واللاحقة ولم يـرَ، ولا يرى أن للكرد حقوقاً يجب أن تُصانَ أيضاً، فعندما يتعلق الأمر بالواجب يقال في مستويَي النظام وقسمٍ من المعارضة على السواء: إنَّ الكرد سوريون بامتياز وعليهم ما على جميع السوريين من واجبات، بل لا بدَّ أنْ يكونوا في طليعة القرابين المقدمة من أجل سوريا حرة كريمة.

أما عندما يتعلق الأمر بالاستحقاقات القانونية الشرعية والحقوقية، فيقال في المستويين أيضاً: إنّ ما يجدر به الكُرد لا يتجاوز، أو ينبغي ألّا يتجاوزَ بعضَ الحقوق الثقافية والسياسية البسيطةِ، مِنْ سَماحٍ لهم بتشكيلِ جمعياتٍ ثقافية وأحزابٍ.

وفي ذَيْنِ الأمْرَيْنِ يتحقق التقاء النظام وهذا القِسْمِ من المعارضة واتفاقُهما الضمنيّ أو المعلَـن، المقصودُ أو غيرُ المقصودِ، وهي المشكلة التي تعانيها المعارضة التي تطالَب اليوم بأن تتخلص من عقلية النظام في تعاملها مع القضية الكردية في سوريا تعاملاً ينبغي أن يبتعد كثيراً عن العلل والآفاتِ المعهودة سابقاً، حيث يُسمَّى الكردُ سوريينَ عند تأدية الواجبات، ويسمَّون كُــرداً عند إحقاق الحقوق.
فإذا كان الكردي سورياً، وكانت المعارضة السورية تسعى إلى بناء دولةٍ (مدنيةٍ أو عَـلمانية) ديمقراطية يُؤْمِنُ النظامُ الجديدُ فيها بالتعدديةِ والمواطنةِ فإنَّ من حَـقِّ الكردِ أن يمارسوا مواطـنَـتَهم وفق القانون بجميع تفاصيلها وجزئياتها دون تأويلات أو تخريجات مزاجية من هنا أو هناك ومن هذا أو ذاك، بدءاً من الترشُّح إلى انتخابات الرئاسة والمناصب العليا في دولةٍ هم جزءٌ حقيقيٌّ منها، وانتهاءً بالعمل داخل مؤسسات الجيش والوزارات والبرلمان ومجالس المحافظات والمدن وغيرها، مروراً بحقهم في افتتاح المدارس والمعاهد والجامعات الكردية، والقنوات الإعلامية والفضائية الخاصة بهم، أسوة بغيرهم من أخوانهم السوريين، وغيرها مما ينبغي أن يكون محمياً بالدستور والقانون السوريين في إطار حقوق المواطنة السورية الحقَّة لا الزائفة.
إنَّ من أصعبِ المزالق التي قد تضع المعارضةُ السورية نفسَها فيه أنْ تكرّر تجربة الأنظمة السابقة بإبقاء الكرد أيضاً في دوّامة الواجبات المفروضة والحقوق المرفوضة، لتعود البلاد بعد تحرُّرها من أنظمة الاستبداد والاستئثار بالحكم والشمولية إلى نظام مماثل لا تُرعى فيه حقوق المواطنة، وتُعادُ تجربةُ معاداةِ الديمقراطيةِ وإقصاءِ القانونِ وإنهاءِ العدالةِ والمساواةِ، فتعودُ سوريا إلى عهودِ القائد الواحد والحزب الواحد والقومية الواحدة والثقافة الواحدة والدين الواحد والعقيدة الواحدة والطائفة الواحدة والأسرة الواحدة، عهودِ فئاتٍ طاغية حاكمة ضدَّ شعبٍ مظلومٍ محكوم عليه بالنفي في وطنه.

ولكي تنجح تجربة سوريا الحديثة لا بدَّ من التوفيق بين فرض الواجبات وإحقاق الحقوق لأيٍّ من مكونات الشعب السوري.

-قامشلو-

 – 08/08/2012.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…