د.
أحمد محمود الخليل
dralkhalil@hotmail.com
أحمد محمود الخليل
dralkhalil@hotmail.com
قائد الأمة هو كالرأس للجسد، والقادة الذين أحدثوا تحوّلات جوهرية في أحوال أممهم هم عباقرة، يمتلكون ميزات (الإنسان المتفوّق)، إنهم طلائع الأمّة، يعيشون همومها، ويجسّدون هويتها وقيمها، وليس هذا فحسب، بل يمتلكون أيضاً إرادة الانتقال بالأمّة نحو الأفضل، ويتميّزون بكفاءات تمكّنهم من تحويل الإرادات والأفكار والخطط إلى إنجازات وحقائق وحياة، إنهم صنّاع التاريخ الحقيقيون.
ورغم حذري الشديد من إطلاق الأحكام، أجدني مضطراً إلى القول بأن مسألة القيادة (Serokatî) هي أكثر المسائل تعقيداً في كُردستان على الإطلاق، إنها أصبحت – في معظم مراحل تاريخنا- مشكلة جرّت على الأمّة الكُردية من الكوارث ما لم تجرّها عليها أيّة مشكلة أخرى، ولا أُصدر هذا الحكم بدافع المَرارة من الحال الغريبة التي تعانيها أمّتنا منذ 25 قرناً، وإنما أؤسّسه على حقائق مؤكَّدة في تاريخنا، ولعلي لا أبالغ إذا قلت: إن أمّتنا- في كثير من محطّات تاريخها- كانت ضحيّة عُقدة الـ (Serokatî)، فما هي عوامل نشأة هذه العُقدة؟ وكيف السبيل إلى تجاوزها؟
لماذا نشأت عُقدة الـ (Serokatî)؟
يبدو لنا أن نشأة عُقدة الـ (Serokatî) في المجتمع الكُردي ترجع إلى العوامل الثلاثة التالية:
أولاً- الذهنية السياسية الآرية: يتألف التكوين الكُردي من اندماج الأسلاف الزاغروسيين والآريين، وقد تسلّم الآريون القيادة منذ حوالي سنة (2000 ق.م)، ووضعوا الأسس السياسية والثقافية للأمة الكُردية، وكان الميديون آخر فرع آري عمّم الثقافة الآرية في مجتمعات أسلاف الكُرد بين سنتي (650 – 550 ق.م)، ومن الحقائق المؤكَّدة أن الذهنية السياسية الآرية تنفر من السلطة المركزية، وترفض الحكم الفردي المطلق، إنها ذهنية تغلب عليها (ديمقراطية النخبة)، وقد تجلّى ذلك بوضوح في مجالي الدين والسياسة، باعتبارهما وجهين لحقيقة واحدة هي (السلطة).
في مجال الدين لم تتمحور المنظومات العقدية الآرية حول إله أَحَدي (لا شريك له)، وإنما ثمة إله أكبر هو الأعظم مقاماً، وإلى جانبه نُخَب يشاركونه في إدارة الكون، ويحملون لقب (إله)، وهذا واضح في الزردشتية، فالإله الأكبر هو أَهُورامَزْدا، وثمة آلهة آخرون (فَرافاشي) منهم رامان هڤاسترا إله السلام، وسراوش إله الطاعة، وآشي إلهة القدَر والسعادة، وراشنو إله النظام والعدالة (أڤستا، ياسنا، هايتي 1، ص 4، 43، 44)، وكذلك الأمر في دين الإغريق، فالإله زيوس Zeus كبير الآلهة، يشاركه آلهة آخرون في إدارة الكون، ويدعوهم زيوس إلى الاجتماع بين حين وآخر، منهم پورياس Poreas إله الريح، وپوسيدون Poseidôn إله البحر، وأفروديت Aphroditeإلهة الحب، وأثينا Athênêإلهة الحكمة (ول ديورانت: قصة الحضارة، 6/322، 323.
جفري بارندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ص 66.
)
وفي مجال السياسة لم تقم في المجتمعات الآرية القديمة سلطة مركزية مطلقة، وإنما كانت توجد اتحادات قبائل، تقودها مجالس قبَلية تضم زعماء القبائل، وكان هؤلاء ينتخبون كل مرّة واحداً منهم على أساس الكفاءة، ليكون القائد الأعلى بسلطات مقيَّدة، كي لا يتحوّل إلى (الزعيم الأوحد) المطلق السلطات، وكانت القرارات تُتّخذ بشكل جماعي في المجلس القبَلي الأعلى، ونعتقد أن اسم هذا المجلس ما زال باقياً بدلالاته السياسية في كلمة (Congress)، ونعتقد أنها إحدى صيغ العبارة الآرية القديمة (Con gir)، والتي تُكتب بالكردية (Kon gir) مع ملاحظة خصوصية صوتية (ك) بالكردية هنا، وهي تعني (خيمة القادة/خيمة كبار القوم)، ولعل لخيمة المجلس القبلي بقايا في لفظة (Confederation) أيضاً.
ذلك هو النهج السياسي الآري الأصيل في ممارسة السلطة، وكان متّبَعاً عند اليونان القدماء أيضاً، ثم أخذ به الرومان، باعتبارهم تلامذة الثقافة اليونانية، وقد عاد الأوربيون والأمريكان إلى الأخذ به في العصر الحديث بعد أن ثاروا على مبدأ “أنا الملك، أنا الدولة” الذي رفعه الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، ولم يشذّ عن النهج السياسي الآري سوى ملوك الفرس الذين ركبتهم شهوة الغزو، وتأثّروا بذهنية (الطاغية) في النصف الجنوبي من ميزوپوتاميا؛ ذاك الطاغية الذي كان يستمدّ سلطته من الآلهة، وليس من ممثلي الشعب، وما زالت تلك الذهنية قائمة إلى الآن في شخص (مرشد الجمهورية) في إيران.
وتتجلّى الذهنية السياسية الآرية في تاريخ أسلافنا بأدق صورها، لقد كان أسلافنا الگُوتيون (جُوتي/جُودي) يختارون قادتهم لفترات محدَّدة على أساس القدرة والكفاءة، وبعد سيطرتهم على سهول ميزوپوتاميا موطن الحكم المطلَق، اقتبسوا منها لقب (مَلك) شكلاً، وظلت صيغة (Kon Gir) هي المعمول بها، إنهم كانوا ينتخبون ملوكهم لفترة لا تتجاوز في المتوسط ستة أعوام، والملك الوحيد الذي جُدّد له ثلاث مرات- لظروف استثنائية- هو يارلاگاب أو (بارلاگاب)، وجعلوا كل فترة له (5) سنوات فقط، (دياكونوف: ميديا، ص 111 – 112)، إن أسلافنا الگُوتيين هم أصحاب أقدم نظام (ديمقراطية النخب) في تاريخ الشرق الأوسط.
وكذلك كان النظام السياسي عند أسلافنا الميتانيين والميديين، وقد أسهب المؤرخ اليوناني هيرودوت في وصف الطريقة التي تحوّل بها القائد القبَلي الميدي دَياكو (دَهْياكو) إلى ملك يرأس مجلساً قَبلياً أعلى يضمّ القبائل الميدية الستّ، وقد اختاره قادة القبائل (ملكاً) على أساس الكفاءة والقدرات المميَّزة، وليس على أساس النَّسَب، وما كان دياكو ينفرد باتخاذ القرارات، وإنما كان يستشير المجلس القبَلي الأعلى (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 77 – 80)، ثم تلاه ابنه فراوُرْت ثم حفيده كَيْ خَسْرو في ممارسة القيادة بهذا النهج، وبفضل ذلك وحّدوا الميديين، وتحرروا من إمبراطورية آشور.
ثانياً – السيكولوجيا الكُردية: الكردي- من حيث التكوين البيئي- هو ابن الجبل، والجبل هو مفتاح الشخصية الكردية، كما أن سيكولوجيا الجبال متأصّلة في الشخصية الكردية، ومن مظاهرها غلبة ضيق الأفق، وهو ضيق أفق ممزوج بالعناد الشديد، كما أن سيكولوجيا الجبال ساهمت في خلق النزعة الفردية المتطرفة، وعدم الرضا بالانضواء تحت سلطة (الآخر)، حتى إن الكُردي لَيعتبر نفسه دولة عظمى، وأقصى ما يقدّمه من تنازلات في هذا المجال هو الانضواء تحت لواء قيادة القبيلة.
ثالثاً – سلسلة الاحتلالات في كُردستان: إن بقاء الكُرد طوال 25 قرناً تحت الاحتلالات، أحدث اختراقات في الشخصية الكُردية وفي الذهنية السياسية الكردية، وزرَع ثقافة التبعية في الإنسان الكردي، وجرّده من بعض قيمه الأصيلة، وأفرغ ذاكرته من الموروث القومي، حتى إنّ الأغلبية الساحقة من الكرد في يومنا هذا لا تعرف شيئاً عن الدول والممالك التي أقامها أسلافنا، ولا تعرف شيئاً عن التقاليد السياسية التي كانت متّبَعة عند أسلافنا، كان الكردي يفتح عينيه على الحياة قرناً بعد قرن فيجد أنه تحت سلطة (شاهٍ، ملك، إمبراطور، خليفة، سلطان) فارسي، أو إغريقي، أو روماني، أو رومي، أو عربي، أو تركي، وترسّخ فيه لاشعورياً أن الكردي لا يمكن أن سيّداً، ومن الطبيعي أن يكون مَسُوداً وتابعاً.
الانفلات السَّروكاتي وإشكالية الطاغية:
هذه العوامل الثلاثة (الذهنية السياسية/ سيكولوجيا الجبال/ الاحتلالات) تفاعلت وأنتجت عُقدة الـ (Serokatî) الكُردية، فالكردي لا ينضوي بسهولة تحت قيادة كردي آخر، ويرى أنه أَوْلى بأن يكون الـ (Serok)، وعلى ضوء هذه العُقدة يمكن تفسير الانشطارات الكردية العجيبة، وتفسير حالات العمالة والخيانة والانسلاخ المصاحبة للثورات الكردية، ودافعُها الحقيقي هو أن عدداً غير قليل من الكرد يفضّلون (السيّد الأجنبي) على (السيّد الكردي)، وأصبحت عُقدة الـ (Serokatî) تغزو كلَّ مجال تبدو فيه الحاجة إلى توحيد الكرد تحت قيادة أو هيئة أو مجلس، ونظن أنه لو اقتُرح تنظيم ماسحي الأحذية في كردستان- وما أكثرهم ببركة المحتلين!- تحت قيادة واحدة لحصلت الانشقاقات بدافع عُقدة الـ (Serokatî).
وتعلمون- ساستنا المحترمين- أن مشكلتنا الأساسية منذ 25 قرناً ليست طبقية ولا دينية ولا مذهبية ولا مناطقية، مشكلتنا الأساسية هي الدفاع عن (وجودنا)، إن خرّيجي ثقافات الغزو والاحتلال- بمختلف انتماءاتهم الدينية والفكرية والسياسية- يحاربون وجودنا كشعب له خصوصيته القومية، ويرفضون الإقرار بأن لنا وطناً اسمه (كردستان)، وأجمل هدية نقدّمها لهم هي أن نتخندق حزبياً على أسس طبقية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية، والمؤسف أن هذا التخندق قائم الآن لكن مع تفاوت في المستويات، ولذلك لا يرى خرّيجو ثقافات الغزو والاحتلال حرجاً في اختراق صفوفنا، والاستهانةِ بنا هَمْزاً ولَمْزاً، والضربِ على رؤوسنا بين حين وآخر تحذيراً وتهديداً.
ساستنا المحترمين، إن الضرورة التاريخية تقتضي أن ننطلق من عقيدة (الدفاع عن الوجود)، وإلا فإننا نحفر قبر أمّتنا بأيدينا، أو إننا – في أحسن الأحوال- نضع أسساً لإمارات ودويلات كردية متنازعة، سرعان ما ستتهدّم أمام التحدّيات وهي كثيرة، ولنا عِبرةٌ في الدويلات الكردية التي انهارت خلال القرن (11 م) أمام الغزو السلْجوقي، لذا حذارِ أن نقدّم الدفاع عن (الحزب) وعن الـ (سروك) على الدفاع عن (الوجود القومي)، إذا فعلنا ذلك- وللأسف نحن الآن نفعل ذلك إلى حدّ ما- نكون كقبائل لوِيزيانا البدائية، “كانوا إذا أرادوا نَيل ثمرةٍ قطعوا الشجرة من أسفلها، وقطفوا الثمرة” حسبما ذكر مونُتِسْكِيو في (روح الشرائع، ص 91).
إن عقيدة الدفاع عن (الوجود القومي) تتطلب منا (التخندق قومياً)، والتخندق قومياً يتطلّب وجود (قيادة) واحدة ضابطة حازمة، ويتطلّب وجود (قائد) واحد يرأس هذه القيادة ويمثّلها، وقد مرّ قبل قليل أن الذهنية الكردية تنفر من السلطة المركزية ومن الخضوع لـ (طاغية/مستبدّ)، خاصة إذا كان الطاغية كردياً، ومرّ أن هذه النزعة تفاعلت مع ما أحدثته الاحتلالات وثقافة التبعية من اختراقات في الشخصية الكردية، وأوجدت في مجتمعنا ظاهرة (الانفلات السَّرُوكاتي)، أجل، إن معظم نُخبنا يريدون أن يكونوا (سَروكاً)، وهذا يذكّرني بالمَثل العربي القديم “الإمارة، ولو على الحجارة“! فكيف نجد الحل لهذه المعادلة الصعبة:
– ضرورة وجود (قيادة) ضابطة حازمة، و(قائد) واحد، لإيقاف الانفلات الذي ابتُلينا.
– وضرورة عدم السماح بتحوّل (القائد) إلى (طاغية)؟
ساستنا المحترمين، دعونا نستفد من تاريخ أسلافنا، فطوال تاريخنا كان القائد الذي يأخذ بنهج (Kon Gir) القيادي في السلطة هو الأقدر على توحيد الأمّة، وعلى إقامة تكوين سياسي (دولة، مملكة، سلطنة)، وبقدر ما كان يتجاهل نهج (Kon Gir) القيادي، ويصبح (طاغية)، كان يُلحق الأضرار بالأمّة، ويكون السبب في انهيار الدولة، إن الملك الميدي الأخير أَستياگ بن كَيْ خَسْرو همّش نُخَب الميد في سنوات حكمه الأخيرة، وأصبح (طاغية)، فماذا كانت النتيجة؟ تآمر عليه النُّخب مع الملك الفارسي كورش الثاني، ولم يروا حرجاً في أن تقع مملكة ميديا في قبضة الفرس سنة (550 ق.م)، وإن تهميش نُخَب الكرد من قِبل السلاطين الأيوبيين المتأخرين، وخاصة السلطان الصالح نجم الدين أيّوب، كان أيضاً من أهم أسباب سقوط السلطنة في أيدي مماليكهم الأتراك سنة (1250 م).
على ضوء هذه الحقائق التاريخية- وغيرُها كثير- نرى أن أفضل وسيلة للقضاء على ظاهرة (الانفلات السَّروكاتي)، وقطع الطريق على ظهور (طاغية) كردي، هو الأخذ بالنهج السياسي الذي اتّبعه الحكماء من أسلافنا قبل أوربا وأمريكا؛ نهج (Kon Gir)، نهج (المجلس القبَلي الأعلى)، لكن بتحويله إلى (مجلس قومي أعلى Kon Gel)، وينبغي أن يبدأ تأسيس هذا المجلس من القاعدة الجماهيرية، فتنتخب كلُّ قرية ومدينة أعضاء (المجلس القومي المحلي)، ويختار كلُّ مجلس محلّي ممثّله في (المجلس القومي المِنطَقي)، ثم تختار مجالس المناطق ممثّليها في (المجلس القومي الإقليمي)، ثم يختار كل مجلس إقليمي ممثّليه في (المجلس القومي الأعلى)، ثم يختار (المجلس القومي الأعلى) قائداً أعلى للأمّة الكردية لمدة يتمّ الاتفاق عليها، مع إمكانية التجديد له مرة واحدة أو أكثر بحسب الظروف، ومع وجود ضوابط وقواعد تضمن اتخاذ القرارات على نحو مشترَك، وتضمن عدم تحوّل (القائد) إلى (طاغية).
ساستنا المحترمين، ما أروع هذا الإنجاز إذا تحقق! وأصدقكم القول بأنه الطريق الوحيد إلى بقائنا كأمّة، والطريق الوحيد إلى تحرير وطننا، وقد يبدو هذا المقترَح صعب المنال، وأقول: إنه لكذلك، لكن دعونا نتذكر أن الصعب غيرُ المستحيل، وعندما تتوافر الإرادة القومية الصلبة، ويعززها الوعيُ القومي المتقدّم والشامل، والعملُ القومي الجادّ والمخلِص، يتحوّل الصعب إلى واقع مُنجَز.
ساستنا المحترمين، دعونا نتذكّرْ أننا بصدد إعادة بناء أمة تمهيداً لتحريرها، في وضع إقليمي معادٍ لنا، وفي وضع عالمي متجاهل لنا، وينبغي أن نبدأ من الآن، إن كل يوم نتأخر فيه عن إعادة بناء الشخصية القومية، وإعادة تأسيس الوعي القومي المشترَك، وإعادة تكوين الرؤية القومية المشترَكة، والتخطيط لإنجاز العمل القومي المشترَك، يعني ضمناً أننا لا نؤجّل فقط حلَّ مشكلتنا الأساسية (إنقاذ وجودنا القومي)، وإنما يعني أيضاً أننا نساعد المحتلين على الاستمرار في الاستهانة بنا والاستمرار في استعبادنا وتشويه إنسانيتنا.
فهل أنتم راضون بذلك؟
وإلى اللقاء في الوصية العاشرة.
لماذا نشأت عُقدة الـ (Serokatî)؟
يبدو لنا أن نشأة عُقدة الـ (Serokatî) في المجتمع الكُردي ترجع إلى العوامل الثلاثة التالية:
أولاً- الذهنية السياسية الآرية: يتألف التكوين الكُردي من اندماج الأسلاف الزاغروسيين والآريين، وقد تسلّم الآريون القيادة منذ حوالي سنة (2000 ق.م)، ووضعوا الأسس السياسية والثقافية للأمة الكُردية، وكان الميديون آخر فرع آري عمّم الثقافة الآرية في مجتمعات أسلاف الكُرد بين سنتي (650 – 550 ق.م)، ومن الحقائق المؤكَّدة أن الذهنية السياسية الآرية تنفر من السلطة المركزية، وترفض الحكم الفردي المطلق، إنها ذهنية تغلب عليها (ديمقراطية النخبة)، وقد تجلّى ذلك بوضوح في مجالي الدين والسياسة، باعتبارهما وجهين لحقيقة واحدة هي (السلطة).
في مجال الدين لم تتمحور المنظومات العقدية الآرية حول إله أَحَدي (لا شريك له)، وإنما ثمة إله أكبر هو الأعظم مقاماً، وإلى جانبه نُخَب يشاركونه في إدارة الكون، ويحملون لقب (إله)، وهذا واضح في الزردشتية، فالإله الأكبر هو أَهُورامَزْدا، وثمة آلهة آخرون (فَرافاشي) منهم رامان هڤاسترا إله السلام، وسراوش إله الطاعة، وآشي إلهة القدَر والسعادة، وراشنو إله النظام والعدالة (أڤستا، ياسنا، هايتي 1، ص 4، 43، 44)، وكذلك الأمر في دين الإغريق، فالإله زيوس Zeus كبير الآلهة، يشاركه آلهة آخرون في إدارة الكون، ويدعوهم زيوس إلى الاجتماع بين حين وآخر، منهم پورياس Poreas إله الريح، وپوسيدون Poseidôn إله البحر، وأفروديت Aphroditeإلهة الحب، وأثينا Athênêإلهة الحكمة (ول ديورانت: قصة الحضارة، 6/322، 323.
جفري بارندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ص 66.
)
وفي مجال السياسة لم تقم في المجتمعات الآرية القديمة سلطة مركزية مطلقة، وإنما كانت توجد اتحادات قبائل، تقودها مجالس قبَلية تضم زعماء القبائل، وكان هؤلاء ينتخبون كل مرّة واحداً منهم على أساس الكفاءة، ليكون القائد الأعلى بسلطات مقيَّدة، كي لا يتحوّل إلى (الزعيم الأوحد) المطلق السلطات، وكانت القرارات تُتّخذ بشكل جماعي في المجلس القبَلي الأعلى، ونعتقد أن اسم هذا المجلس ما زال باقياً بدلالاته السياسية في كلمة (Congress)، ونعتقد أنها إحدى صيغ العبارة الآرية القديمة (Con gir)، والتي تُكتب بالكردية (Kon gir) مع ملاحظة خصوصية صوتية (ك) بالكردية هنا، وهي تعني (خيمة القادة/خيمة كبار القوم)، ولعل لخيمة المجلس القبلي بقايا في لفظة (Confederation) أيضاً.
ذلك هو النهج السياسي الآري الأصيل في ممارسة السلطة، وكان متّبَعاً عند اليونان القدماء أيضاً، ثم أخذ به الرومان، باعتبارهم تلامذة الثقافة اليونانية، وقد عاد الأوربيون والأمريكان إلى الأخذ به في العصر الحديث بعد أن ثاروا على مبدأ “أنا الملك، أنا الدولة” الذي رفعه الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، ولم يشذّ عن النهج السياسي الآري سوى ملوك الفرس الذين ركبتهم شهوة الغزو، وتأثّروا بذهنية (الطاغية) في النصف الجنوبي من ميزوپوتاميا؛ ذاك الطاغية الذي كان يستمدّ سلطته من الآلهة، وليس من ممثلي الشعب، وما زالت تلك الذهنية قائمة إلى الآن في شخص (مرشد الجمهورية) في إيران.
وتتجلّى الذهنية السياسية الآرية في تاريخ أسلافنا بأدق صورها، لقد كان أسلافنا الگُوتيون (جُوتي/جُودي) يختارون قادتهم لفترات محدَّدة على أساس القدرة والكفاءة، وبعد سيطرتهم على سهول ميزوپوتاميا موطن الحكم المطلَق، اقتبسوا منها لقب (مَلك) شكلاً، وظلت صيغة (Kon Gir) هي المعمول بها، إنهم كانوا ينتخبون ملوكهم لفترة لا تتجاوز في المتوسط ستة أعوام، والملك الوحيد الذي جُدّد له ثلاث مرات- لظروف استثنائية- هو يارلاگاب أو (بارلاگاب)، وجعلوا كل فترة له (5) سنوات فقط، (دياكونوف: ميديا، ص 111 – 112)، إن أسلافنا الگُوتيين هم أصحاب أقدم نظام (ديمقراطية النخب) في تاريخ الشرق الأوسط.
وكذلك كان النظام السياسي عند أسلافنا الميتانيين والميديين، وقد أسهب المؤرخ اليوناني هيرودوت في وصف الطريقة التي تحوّل بها القائد القبَلي الميدي دَياكو (دَهْياكو) إلى ملك يرأس مجلساً قَبلياً أعلى يضمّ القبائل الميدية الستّ، وقد اختاره قادة القبائل (ملكاً) على أساس الكفاءة والقدرات المميَّزة، وليس على أساس النَّسَب، وما كان دياكو ينفرد باتخاذ القرارات، وإنما كان يستشير المجلس القبَلي الأعلى (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 77 – 80)، ثم تلاه ابنه فراوُرْت ثم حفيده كَيْ خَسْرو في ممارسة القيادة بهذا النهج، وبفضل ذلك وحّدوا الميديين، وتحرروا من إمبراطورية آشور.
ثانياً – السيكولوجيا الكُردية: الكردي- من حيث التكوين البيئي- هو ابن الجبل، والجبل هو مفتاح الشخصية الكردية، كما أن سيكولوجيا الجبال متأصّلة في الشخصية الكردية، ومن مظاهرها غلبة ضيق الأفق، وهو ضيق أفق ممزوج بالعناد الشديد، كما أن سيكولوجيا الجبال ساهمت في خلق النزعة الفردية المتطرفة، وعدم الرضا بالانضواء تحت سلطة (الآخر)، حتى إن الكُردي لَيعتبر نفسه دولة عظمى، وأقصى ما يقدّمه من تنازلات في هذا المجال هو الانضواء تحت لواء قيادة القبيلة.
ثالثاً – سلسلة الاحتلالات في كُردستان: إن بقاء الكُرد طوال 25 قرناً تحت الاحتلالات، أحدث اختراقات في الشخصية الكُردية وفي الذهنية السياسية الكردية، وزرَع ثقافة التبعية في الإنسان الكردي، وجرّده من بعض قيمه الأصيلة، وأفرغ ذاكرته من الموروث القومي، حتى إنّ الأغلبية الساحقة من الكرد في يومنا هذا لا تعرف شيئاً عن الدول والممالك التي أقامها أسلافنا، ولا تعرف شيئاً عن التقاليد السياسية التي كانت متّبَعة عند أسلافنا، كان الكردي يفتح عينيه على الحياة قرناً بعد قرن فيجد أنه تحت سلطة (شاهٍ، ملك، إمبراطور، خليفة، سلطان) فارسي، أو إغريقي، أو روماني، أو رومي، أو عربي، أو تركي، وترسّخ فيه لاشعورياً أن الكردي لا يمكن أن سيّداً، ومن الطبيعي أن يكون مَسُوداً وتابعاً.
الانفلات السَّروكاتي وإشكالية الطاغية:
هذه العوامل الثلاثة (الذهنية السياسية/ سيكولوجيا الجبال/ الاحتلالات) تفاعلت وأنتجت عُقدة الـ (Serokatî) الكُردية، فالكردي لا ينضوي بسهولة تحت قيادة كردي آخر، ويرى أنه أَوْلى بأن يكون الـ (Serok)، وعلى ضوء هذه العُقدة يمكن تفسير الانشطارات الكردية العجيبة، وتفسير حالات العمالة والخيانة والانسلاخ المصاحبة للثورات الكردية، ودافعُها الحقيقي هو أن عدداً غير قليل من الكرد يفضّلون (السيّد الأجنبي) على (السيّد الكردي)، وأصبحت عُقدة الـ (Serokatî) تغزو كلَّ مجال تبدو فيه الحاجة إلى توحيد الكرد تحت قيادة أو هيئة أو مجلس، ونظن أنه لو اقتُرح تنظيم ماسحي الأحذية في كردستان- وما أكثرهم ببركة المحتلين!- تحت قيادة واحدة لحصلت الانشقاقات بدافع عُقدة الـ (Serokatî).
وتعلمون- ساستنا المحترمين- أن مشكلتنا الأساسية منذ 25 قرناً ليست طبقية ولا دينية ولا مذهبية ولا مناطقية، مشكلتنا الأساسية هي الدفاع عن (وجودنا)، إن خرّيجي ثقافات الغزو والاحتلال- بمختلف انتماءاتهم الدينية والفكرية والسياسية- يحاربون وجودنا كشعب له خصوصيته القومية، ويرفضون الإقرار بأن لنا وطناً اسمه (كردستان)، وأجمل هدية نقدّمها لهم هي أن نتخندق حزبياً على أسس طبقية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية، والمؤسف أن هذا التخندق قائم الآن لكن مع تفاوت في المستويات، ولذلك لا يرى خرّيجو ثقافات الغزو والاحتلال حرجاً في اختراق صفوفنا، والاستهانةِ بنا هَمْزاً ولَمْزاً، والضربِ على رؤوسنا بين حين وآخر تحذيراً وتهديداً.
ساستنا المحترمين، إن الضرورة التاريخية تقتضي أن ننطلق من عقيدة (الدفاع عن الوجود)، وإلا فإننا نحفر قبر أمّتنا بأيدينا، أو إننا – في أحسن الأحوال- نضع أسساً لإمارات ودويلات كردية متنازعة، سرعان ما ستتهدّم أمام التحدّيات وهي كثيرة، ولنا عِبرةٌ في الدويلات الكردية التي انهارت خلال القرن (11 م) أمام الغزو السلْجوقي، لذا حذارِ أن نقدّم الدفاع عن (الحزب) وعن الـ (سروك) على الدفاع عن (الوجود القومي)، إذا فعلنا ذلك- وللأسف نحن الآن نفعل ذلك إلى حدّ ما- نكون كقبائل لوِيزيانا البدائية، “كانوا إذا أرادوا نَيل ثمرةٍ قطعوا الشجرة من أسفلها، وقطفوا الثمرة” حسبما ذكر مونُتِسْكِيو في (روح الشرائع، ص 91).
إن عقيدة الدفاع عن (الوجود القومي) تتطلب منا (التخندق قومياً)، والتخندق قومياً يتطلّب وجود (قيادة) واحدة ضابطة حازمة، ويتطلّب وجود (قائد) واحد يرأس هذه القيادة ويمثّلها، وقد مرّ قبل قليل أن الذهنية الكردية تنفر من السلطة المركزية ومن الخضوع لـ (طاغية/مستبدّ)، خاصة إذا كان الطاغية كردياً، ومرّ أن هذه النزعة تفاعلت مع ما أحدثته الاحتلالات وثقافة التبعية من اختراقات في الشخصية الكردية، وأوجدت في مجتمعنا ظاهرة (الانفلات السَّرُوكاتي)، أجل، إن معظم نُخبنا يريدون أن يكونوا (سَروكاً)، وهذا يذكّرني بالمَثل العربي القديم “الإمارة، ولو على الحجارة“! فكيف نجد الحل لهذه المعادلة الصعبة:
– ضرورة وجود (قيادة) ضابطة حازمة، و(قائد) واحد، لإيقاف الانفلات الذي ابتُلينا.
– وضرورة عدم السماح بتحوّل (القائد) إلى (طاغية)؟
ساستنا المحترمين، دعونا نستفد من تاريخ أسلافنا، فطوال تاريخنا كان القائد الذي يأخذ بنهج (Kon Gir) القيادي في السلطة هو الأقدر على توحيد الأمّة، وعلى إقامة تكوين سياسي (دولة، مملكة، سلطنة)، وبقدر ما كان يتجاهل نهج (Kon Gir) القيادي، ويصبح (طاغية)، كان يُلحق الأضرار بالأمّة، ويكون السبب في انهيار الدولة، إن الملك الميدي الأخير أَستياگ بن كَيْ خَسْرو همّش نُخَب الميد في سنوات حكمه الأخيرة، وأصبح (طاغية)، فماذا كانت النتيجة؟ تآمر عليه النُّخب مع الملك الفارسي كورش الثاني، ولم يروا حرجاً في أن تقع مملكة ميديا في قبضة الفرس سنة (550 ق.م)، وإن تهميش نُخَب الكرد من قِبل السلاطين الأيوبيين المتأخرين، وخاصة السلطان الصالح نجم الدين أيّوب، كان أيضاً من أهم أسباب سقوط السلطنة في أيدي مماليكهم الأتراك سنة (1250 م).
على ضوء هذه الحقائق التاريخية- وغيرُها كثير- نرى أن أفضل وسيلة للقضاء على ظاهرة (الانفلات السَّروكاتي)، وقطع الطريق على ظهور (طاغية) كردي، هو الأخذ بالنهج السياسي الذي اتّبعه الحكماء من أسلافنا قبل أوربا وأمريكا؛ نهج (Kon Gir)، نهج (المجلس القبَلي الأعلى)، لكن بتحويله إلى (مجلس قومي أعلى Kon Gel)، وينبغي أن يبدأ تأسيس هذا المجلس من القاعدة الجماهيرية، فتنتخب كلُّ قرية ومدينة أعضاء (المجلس القومي المحلي)، ويختار كلُّ مجلس محلّي ممثّله في (المجلس القومي المِنطَقي)، ثم تختار مجالس المناطق ممثّليها في (المجلس القومي الإقليمي)، ثم يختار كل مجلس إقليمي ممثّليه في (المجلس القومي الأعلى)، ثم يختار (المجلس القومي الأعلى) قائداً أعلى للأمّة الكردية لمدة يتمّ الاتفاق عليها، مع إمكانية التجديد له مرة واحدة أو أكثر بحسب الظروف، ومع وجود ضوابط وقواعد تضمن اتخاذ القرارات على نحو مشترَك، وتضمن عدم تحوّل (القائد) إلى (طاغية).
ساستنا المحترمين، ما أروع هذا الإنجاز إذا تحقق! وأصدقكم القول بأنه الطريق الوحيد إلى بقائنا كأمّة، والطريق الوحيد إلى تحرير وطننا، وقد يبدو هذا المقترَح صعب المنال، وأقول: إنه لكذلك، لكن دعونا نتذكر أن الصعب غيرُ المستحيل، وعندما تتوافر الإرادة القومية الصلبة، ويعززها الوعيُ القومي المتقدّم والشامل، والعملُ القومي الجادّ والمخلِص، يتحوّل الصعب إلى واقع مُنجَز.
ساستنا المحترمين، دعونا نتذكّرْ أننا بصدد إعادة بناء أمة تمهيداً لتحريرها، في وضع إقليمي معادٍ لنا، وفي وضع عالمي متجاهل لنا، وينبغي أن نبدأ من الآن، إن كل يوم نتأخر فيه عن إعادة بناء الشخصية القومية، وإعادة تأسيس الوعي القومي المشترَك، وإعادة تكوين الرؤية القومية المشترَكة، والتخطيط لإنجاز العمل القومي المشترَك، يعني ضمناً أننا لا نؤجّل فقط حلَّ مشكلتنا الأساسية (إنقاذ وجودنا القومي)، وإنما يعني أيضاً أننا نساعد المحتلين على الاستمرار في الاستهانة بنا والاستمرار في استعبادنا وتشويه إنسانيتنا.
فهل أنتم راضون بذلك؟
وإلى اللقاء في الوصية العاشرة.
3 – 8 – 2012