لا بد من التذكير في البدء بأن رفع الأعلام الكردية يتجاوز سياسات أغلب الأحزاب الكردية، كذلك كتله السياسية و بشكل خاص مجلسيه الأساسيين فلا الإدارة الذاتية التي يتبناها مجلس الشعب لغربي كردستان و لا حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد التي يتبناها المجلس الوطني الكردي و الذي لا يتجاوز سقفه الأعلى الفيدرالية التي لم يعلنها المجلس المذكور صراحةً يخول لهم رفع تلك الأعلام مما يعني أن رفعها لا يتعدى عن كونها ردة فعل استعراضية و لا واقعية تجاه تجاهل المعارضة السورية لحقوق الشعب الكردي.
من جهة أخرى فإن رفع علم ما يعود برمزيته لجهة أو كيان سياسي يوحي بالتبعية لتلك الجهة أو الكيان و هيمنته على القرار السياسي و هو ما تتوجس منه غالبية فصائل المعارضة السورية و شركاء الوطن مثلما يتوجس الكرد من هيمنة الجهات الإقليمية على القرار السياسي لبعض فصائل هذه المعارضة.
من المعلوم إن العلم الوطني يرمز للسيادة الوطنية و إن إزالته أو سقوطه يعني إهداراً لتلك الكرامة يقتضي الدفاع المستميت عنها، و دون ذلك يعني الهزيمة أو الاستسلام و بالتالي القبول بشروط الخصم مما يعني إسقاط الحراك السياسي و المجتمعي السلمي في المناطق الكردية، و من جهة أخرى فإن رفع علم لجهة ما يعني سيادة هذه الجهة على تلك البقعة و لا يجوز إزالة ذلك العلم إلا بزوال تلك السيادة و لكن قد يكون الأمر مختلفاً مع رفع الرايات الحزبية التي قد ترمز إلى وجود حقيقي للحزب على أرض الواقع و إلى سياسة الحزب و قناعات المنتمين إليه و هو لا يرتبط بمسألة السيادة أو الكرامة الوطنية، و في معظم الأحوال فإنه سيتم إزالة هذه الأعلام طوعاً أو كرهاً عاجلاً أم آجلاً مما يثبت عدم واقعية هذا السلوك على المستويين القومي و الوطني.
أما فيما يخص الممارسات التصعيدية التي تمت مؤخراً فإنها بلا أدنى شك تخدم أجندات النظام كونها تخلق قلقاً لدى المكونات الأخرى في المناطق الكردية من هيمنة قسرية للكرد على المفاصل الأساسية و المنشآت الحيوية مما يهدد الاستقرار و السلم الأهليين من جهة، و يخلق مبررات و ذرائع للسلطة باتجاه المزيد من العسكرة و زيادة التواجد العسكري لها بحجة ضرورة استعادة هيبة الدولة من جهة ثانية و خاصةً أن هذه الممارسات حصلت في وقت لا تزال السلطة تسيطر على زمام الأمور مما يوحي _ شئنا أم أبينا – بنوع من التواطؤ المشبوه بين السلطة و تلك الجهات، و ذلك ما يفسر ردة الفعل الهادئة للسلطة تجاه هكذا ممارسات، كما أن السلطة تبتغي من ذلك إرسال رسائل للدول الإقليمية و خاصةً تركيا و حلفائها مفادها أن سقوط النظام يعني سيطرة الكرد على المنطقة الحدودية التي تبلغ مسافتها ما يقارب الألف كيلومتر طولاً و ما قد يشكله ذلك من تهديد للأمن القومي التركي على الأقل حسب وجهة النظر التركية ذاتها مما قد ينتج عنه انحسار التأييد الدولي لحقوق الشعب الكردي بتحوله من قضية شعب إلى قضية إرهاب نظراً لما يشكله الأمن القومي التركي من أهمية بالغة لدى الغرب باعتبار تركيا عضو هام في حلف الناتو.
بذلك تكون السلطة قد تمكنت من حرف الأنظار عن القضية الأساسية المتمثلة بضرورة التغيير باتجاه تحويل الصراع إقليمياً و خلط الأوراق و استدراج الكرد في سوريا إلى فخ تغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي لإلهائهم عن المشاركة في عملية التغيير الداخلية و جعلهم كبش فداء في هذه اللعبة الإقليمية المتعددة الأطراف، و يبدو أن الوقوع في ذلك الفخ ليس بالأمر الصعب بالنظر إلى تصريحات و مواقف بعض السياسيين الكرد سواءً السابقة منها أو اللاحقة و مع وجود التربة الخصبة و الأرضية المناسبة في الفكر السياسي و الميراث الثقافي الكردي.
بالمحصلة فإن هذه الممارسات تتعارض مع السياق العام للثورة السورية التي يعتبر حاملوا لوائها البعد الإستراتيجي للقضية الوطنية السورية عموماً و بالتالي قضية الشعب الكردي التي لن تجد لها حلاً بدون التوافق الوطني عليها، و حيث يفترض أن يكون الكرد من أكثر المستفيدين من عملية التغيير في سوريا.
أعتقد أن سياسة فرض النفوذ بالإكراه و قوة السلاح في المناطق الكردية لن يكتب لها الاستمرار و النجاح على المدى البعيد و مآلها إلى الفشل و لكنها تخلق عقبات جمة أمام المحاولات الجادة و المخلصة لتوحيد الشارع و الخطاب الكردي الذي يعتبر الضمانة الأساسية لتأمين الحقوق المشروعة للشعب الكردي و إن مثل هذه السلوكيات تضر بالمصلحة الوطنية و القومية للكرد و قد تضيع عليه فرصةً تاريخية لا يمكن تعويضها.
إن الاستمرار في الحراك السلمي تماشياً مع السياق العام للثورة السورية و عدم منح المبررات لأية جهة كانت لعسكرة المناطق الكردية هو السبيل الأنجع و الوحيد لتحقيق طموحات الشعب الكردي المشروعة.