ممانعة الجيش الكُردي الحُر: حسابات الربح و الخسارة

حسين جلبي

خلال الأيام القليلة الماضية، شهد الوضع الكُردي السوري حدثين متتالين من العيار الثقيل، بديا للوهلة منفصلين، أشعل أحدهما ناراً في بقايا القلوب الكُردية، كادت للحظات أن تجد لنفسها إمتداداتٍ خارجها، في حين بدا الحدث الآخر و كأنهُ بدايةٌ لنفقٍ طويل يُساق إليه الكُرد السوريون عنوةً، و بداية كذلك لمرحلة خطيرة سيدخلونها رغم أنوفهم.
فقد منع مسلحي حزب العمال الكُردستاني الذين يحتلون المنطقة الحدودية السورية المحاذية لكُردستان العراق مئاتٍ من المقاتلين الكُرد السوريين الذين كانوا قد إنشقوا عن جيش النظام الأسدي أو تجنبوا الإلتحاق بصفوفه، منعوهم من دخول المنطقة الكُردية السورية.
 تلا ذلك بساعاتٍ تصريحات لرئيس الوزراء التركي (أردوغان) عن الوضع الكُردي في سوريا، تضمنت تهديدات صريحة بمهاجمة حزب العمال الكردستاني التركي الذي سلمه النظام السوري ـ حسب أردوغان ـ المناطق الكُردية السورية قبل سحب إداراته منها.
و الواقع أن الكثير مما يحدث في المناطق الكُردية منذُ بدأ الثورة السورية يثير الإستغراب، من ذلك أن المرء لا يعلم من الذي كلف عناصر ذلك الحزب الكُردي التركي بحراسة الحدود السورية مع إقليم كُردستان على مدار الساعة، بحيث يدققون في هوية كل من يتحرك داخل المنطقة السورية من الحدود، و يمنعون من يشاؤون من الإقتراب منها، و بالتالي الدخول إلى الأقليم الكُردي أو العودة منه، لكن الذي أثار الإستغراب أكثر هو ردود الأفعال التي يمكن وصفها بالبرود الشديد لقادة الحركة الكُردية السورية على منع ذلك الحزب تلك القوة الكُردية من دخول المنطقة الكُردية السورية، و ذلك بعد أن جيشت لذلك إعلامياً، حتى أن البعض كاد يذهب في تراجعه عن تأييد ذلك الدخول إلى شكر حزب العمال الكُردستاني على ممانعته تلك، و كأنه إكتشف خطأه، كون هذا القرار أدى ـ حسب رأي ذلك البعض ـ إلى تأجيل المواجهة الكُردية ـ الكُردية، التي سيكون مبررها في مثل هذه الحالة ـ و دائماً طبعاً ـ غير منطقي و غير أخلاقي، و هنا يمكن حقيقةً تفهم عدم المجازفة بإدخال هؤلاء الشبان إلى مدنهم و قراهم لحماية أهاليهم بعد الفراغ الأمني الحاصل، و ذلك بسبب المخاطر المتوقعة على حياتهم بعد كل ذلك الشحن العدائي ضدهم، و بعد تلك الموجة العالية من الكراهية التي حقن البعض أنصاره بها ضدهم، نتيجة الإتهام السخيف لهم بأنهم عملاء للناتو و للبعبع الأردوغاني، فعندما غادر هؤلاء سوريا كانت الغاية هي الحفاظ على أرواحهم أولاً، و أن لا يكونوا وقوداً في حرب العصابة الأسدية على الشعب السوري ثانياً، و لذلك فإن عودتهم في مثل هذه الظروف التي جرى توتيرها ستضعهم بين حجري الرحى الذي أحد طرفيه النظام السوري، لكن ما لا يمكن تفهمه هو أن هذا المنع من الدخول يأتي من جهة كُردية لها مسلحيها الذين يقومون في الظاهر بالمهام ذاتها التي كانت القوة الكُردية مرشحة للقيام بها، حتى قبل أن يشاع عن إنسحابٍ للنظام السوري من المناطق الكُردية، أو تحريرها كما ذهب إلى ذلك البعض، حيث تبين أن لا هذا و لا ذاك صحيحٌ، و أن النظام لا زال موجوداً، و كل ما قام به هو تغيير قفازاته، و أقنعته.
رغم أن سكوت البعض على هذه الإهانة المتمثلة في منعهم من إدخال المقاتلين الكُرد لم يكن فيه من الحكمة الشئ الكثير، و رغم أن ما حصل كان دليل عجز و قلة حيلة، لكن هذا (الخيار الوحيد) الذي كان في الحقيقة رميةً من غير رامٍ قد عظم من عمق المأزق الذي أدخل حزب العمال الكردستاني نفسه فيه، إذ لم يكد أنصار هذا الحزب يحتفلون بهذا الإنتصار المعنوي الذي ثبتهم كلاعبين وحيدين في الملعب الكُردي السوري، حتى جاءت تصريحات أردوغان لتصب الماء البارد على تلك الرؤوس الساخنة، و لتصحوا من ذلك الحلم الجميل على مأزقٍ عميق أدخلت نفسها فيه، و تبدو بصدد جرجرة المنطقة كلها ورائها إليه، بحيث بدا منع الحزب لدخول العسكريين الكُرد لحماية أهاليهم فخاً نصبه لنفسه بإحكام، إن لم الآخرين قد شاركوه في نصبه، أو مهدوا له الطريق إلى ذلك، على الأقل بسكوتهم عليه.
ترى ما الذي حدث حتى غير الأتراك من لهجتهم مؤخراً، فدخلوا مباشرةً في الموضوع الكُردي السوري من بوابة حزب العُمال الكُردستاني، رغم ستة عشر شهراً من التجاهل لحرب الشعارات التي كان يخوضها الحزب ضدهم إنطلاقاً من الأراضي السورية، و دعواته المتكررة لأردوغان إلى المنازلة؟ هل تغيير هذه اللهجة نابعٌ من يقينٍ بالسقوط الوشيك للنظام السوري أم بسيطرة ذلك الحزب على المناطق الكُردية السورية، و التي إحدى مظاهرها منع المقاتلين الكُرد من دخولها، و إبعاد الطبقة السياسية الكُردية إلى كُردستان و غيرها حيث تعيش هناك حالة تشبه اللجوء، و بالنتيجة إحتمال جعل هذه المناطق منطلقاً للهجمات على تركيا؟ أم أن تلك التصريحات هي جزء من مساهمة تركيا في الحرب على النظام السوري و ذلك في الملعب الذي تتقن اللعب فيه، نتيجة خبرتها التركية في التعامل مع الكُرد؟
لكن الأهم من ذلك كله هو: هل تحتمل المناطق الكُردية السورية حرباً تركية تشبه تلك التي جرت على الأراضي الكُردية التركية، و تسببت في مقتل عشرات الآلاف من المواطنين الكُرد و تدمير آلاف القرى الكُردية؟ و هل سيلجأ الحزب إلى إعادة تلك التجربة الكارثية أم سيلجأ إلى تغيير شكل خطابه للمرة الألف، فمثلما أصبح الجيش الحر بين ليلةٍ و ضحاها من (جيشٍ طائفي يتبع أردوغان و الناتو و مُدمر المدن السورية) إلى (جيشٍ شقيق لا تنكر أياديه البيضاء على الثورة)، قد يُصبح اللواء الكُردي بدوره شقيقاً بريئاً من الأردوغانية و لا علاقة له بالناتو، و بالتالي مرحباً به، و يصبح في النهاية واجهةً لمسلحي الحزب، كما أصبح المجلس الوطني الكُردي واجهةً خارجيةً له؟
لكن يبقى السؤال الأهم في وسط كل هذا التخبط هو: أليس من الأجدى تفكيك هذا الخطاب الأيديولوجي مرةً واحدة و إلى الأبد و ترك مصير المنطقة لأبنائها، و خاصةً الجيل الجديد الذي يقارع دكتاتورية بألف رأسٍ و رأس دون أن يخشى شيئاً، بدلاً من صب المزيد من الزيت على الحريق الذي يشتعل في قلوب الكُرد، و جعله يأتي على الجسد المتهالك كله؟

29.07.2012

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…