روني علي
لا شك أن الدخول في مناقشة واقع الحركة (الحزبية) الكردية خصوصاً، أو محاولة إجراء بعض الإسقاطات على مفاعيل الحراك السياسي الكردي عموماً، تشكل معضلة حقيقية، وفقاً للمنظومات التي تتحكم في آليات العمل الحزبي، تلك التي أنتجت، عبر تجربتها، العديد من المظاهر السلبية، المؤثرة في المشهد الثقافي / السياسي، وذلك بحكم ما حصل من تهميش للجانب المعرفي في رسم الموقف، وتقطيع في الأوصال هنا وهناك، ومن تراكمات؛ خلقت حالة من الترهل في الأداء والمفاهيم، والذي يستند بمجمله إلى رواسب تاريخية؛ من جهة الأدوات والخطاب والآليات والشخوص، وجعلت منها أن تكون منشغلة في ذاتها وبذاتها ولذاتها، حيث أشكال الهدم، والانقسام والنسف والتشكيك والتخوين والتقزيم..
إلخ
بحيث لم تتمكن – هذه الحركة – وعلى مدى عقود من الزمن، من تكوين تجربة سياسية / فكرية بمعناها الحقيقي في الواقع الكردي، بل كل ما أفرزتها؛ هي عصيبات تنظيمية، يحتل هرمها رمز قائد، بغض النظر عن إمكاناته ومؤهلاته، وفي القاعدة؛ تشكيلة فاقدة لبوصلتها في أغلب الأحيان، وتتخبط بين القرار والأمر والارتجال، والتي – هذه الحالة – ساهمت في شحن الأزمات، ومد حالات التناحر بمسوغات لا صلة لها بالأهداف التي تبرر الوجود الحزبي، خاصةً في مجال الولادات القيصرية / الانشطارية، التي خضعت وتخضع لها بين الفينة والأخرى، إما نتيجة الفراغ المعرفي، وإما بتدبير وتخطيط متقنين، وإن كانت في بعض الأحيان، بأيدي قد تكون مبتدئة، إن لم نقل جاهلة بتسيير آلية العمل، فنكون بقدرة قادر أمام حالات جنينية لا ندرك هويتها وماهيتها، بل الغاية منها، خاصةً إذا جاءت إسقاطاتنا وقراءاتنا للواقع الكردي من منطلق علماني، وتصنيفنا لأدواته التنظيمية/ السياسية، من مدلول سياسي / فكري .
وعليه، فسوف نخرج بنتيجة أشبه ما تكون حتمية وقريبة إلى العقل والمنطق، بأن هذا الواقع لا يحتمل كل هذا التخبط والتشظي والانقسام، والذي وصل إلى حالة يمكن أن نسميها بالفساد السياسي / التنظيمي (الحزبي).
وإذا كنا ندرك حقيقة؛ أن الوعي الكردي، بشقيه السياسي والمعرفي، قد ولد في أحشاء ثقافة؛ كانت السمة الأبرز فيها هي الركون إلى ما هو أمر واقع بفعل السلطة والسلطان، وكذلك إلى إفرازات المصالح الدولية، والإيديولوجيات التي تراكمت في خضم الصراعات والتوازنات، وأن المعادلة التي أنتجت إنساننا الكردي، كانت – وما تزال – تركن إلى اضطهاد أكثر من مزدوج، إضافة إلى العلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري، والتفكير القبلي الذي نخر في العقل الحزبي، وما كان يدور من رحى حروب سياسية وإيديولوجية واقتصادية في الرقع الجغرافية التي تحتضن كردستان، سواء الإقليمية منها أو الدولية، لكان الواقع الحزبي، من حيث الأشكال والمظاهر، مبرراً إلى حد ما، ولكانت الأزمة التي تلفها، في الجوانب السياسية، التنظيمية، والفكرية، من غياب البعد المعرفي في رسم الموقف، واستنادها إلى آليات تنظيمية لا تنسجم مع متطلبات الواقع، وكذلك افتقادها إلى صيغ فكرية؛ في الموقف والتعاطي السياسي، مبرراً هي الأخرى، وذلك انسجاماً مع قناعتنا بأنه لا يمكن الحكم على الماضي بعقلية المستقبل أو حتى الراهن، وذلك لوجود الفروقات، واختلاف شكل وأدوات الحراك، إضافةً إلى التطور التاريخي الذي له استحقاقاته وذهنيته المختلفة من مرحلة إلى أخرى ..
إلا أن معطيات الحالة السياسية الراهنة؛ على ضوء ما يجري من تغييرات على الصعيد الكوني، إضافةً إلى روح العصر – عصر التقانة والاتصالات – ومفاهيم التعددية وحرية الرأي، وما تتطلبها من وضوح وشفافية، بعيداً عن أساليب المواربة وتحليل النصوص من وجهة نظر أحادية الجانب، ينبغي أن تشكل دافعاً لنا، للاستنهاض بقوانا، بغية الخروج من مفاهيم مرحلة السكون، وتنشيط وتفعيل أدوات الحوار والتحاور، من أجل إظهار الحقائق، وكشف ما هو مستور، وبالتالي الدخول في معالجة جذور المشكلة وأبعادها، في خطوة تهدف إلى بلورة توجه سياسي، في عملية إعادة بناء الواقع الكردي، بما يتلاءم مع حقيقة وجوده كقضية أرض وشعب، وبما يخدم حقه في تقرير مصيره وفق معطيات الظرف السياسي، وتطورات الوضع الكردي، ليحتل موقعه ضمن سياقه الطبيعي والموضوعي، والذي يتطلب جهوداً مخلصة من جانب المهتمين والسادة أصحاب القرار، في أطرنا السياسية – الحزبية، وكذلك أصحاب الرأي، والمشتغلين في الحقل الثقافي، الذين ولأسباب شتى، يقفون على مسافة معينة من أداء وممارسات الحركة الحزبية، سواء في الداخل أو في الخارج، للوقوف على بعض القضايا العالقة في الطرح السياسي الكردي، أو بعض المتناقضات التي تحويها البرامج الحزبية، وعلى مدى صحة ما يتم تناوله وتداوله من مواقف ومشاريع بين الفينة والأخرى، انطلاقاً من قناعة؛ أن لا محرمات ولا قدسية في النقاش والحوار، ولا يوجد من هو أعلى مرتبة من احترام الإنسان لنفسه، وفوق اعتبارات الأخلاق، كوننا لسنا في مرحلة تجسيد السلطات الزمنية والروحية في الشخوص، وإن كنا نمارسه – بل يمارسه البعض منا – إما جهلاً أو خجلاً، لأن سمات المرحلة، وأشكال الفعل، واستحقاقات النضال الكردي، تتطلب تأطير وتوظيف الخطاب والأدوات النضالية الكردية، على أسس ومرتكزات منهجية، تواكب روح العصر من جهة، وممارسة النقد البناء، وديمقراطية التعامل، وشفافية الطرح من جهة ثانية، وذلك بغية مد جسور التفاعل والتواصل بين الأطر الحزبية، والشرائح الاجتماعية والسياسية والثقافية المختلفة، بغية تفعيل الموقف السياسي المعبر – إلى حد ما – عن نبض الشارع، وتدارك أسباب جمود الأداء السياسي، والعمل على هدم ما يعيق التطور الطبيعي للحركة الكردية، وإن كنا على قناعة؛ بأن أزمة الحركة الكردية هي في جوهرها أزمة بنيوية، لا تتوقف على عامل أو دور أو شخص معين، ولكن هذه العوامل والأدوار مجتمعة، تشكل بدورها روافد لبلورة وتعميق هذه الأزمة .
فلا نخفي الحقيقة ولا نأتي بجديد إن كررنا وقلنا؛ بأن الحركة الحزبية الكردية في سوريا، في رصدها لآفاق المستقبل، وتعاملها مع الاستحقاقات الوطنية والقومية، حين طرحها لرؤيتها حيال ما تتطلب منها من مواقف وآراء، ما تزال منشغلة في حلقة تكاد تكون مفرغة، وفاقدة لبوصلتها في الجانبين السياسي والمعرفي ..
وأن هذه الحركة المشتتة بين مجموعة من الأطر والأطر المتداخلة أو المختلفة والمخالفة، غالبيتها مغيبة عن الفعل والقرار منذ زمن، بحكم استنفاذها لعوامل وجودها، إذا ما احتكمنا في ذلك إلى مقومات الحزب، سواء من حيث العوامل الذاتية أو الموضوعية، وبالتالي سوف لن تكون لها إرادة الفعل، وإدارة الموقف إلا من خلال توازنات خاصةً بها، أو خاضعة لمشيئة إملاءات فوقية، وأن هذا العجز السياسي لدى الحزب الكردي، له أسبابه ومسبباته، الذاتية منها والموضوعية، فمنه ما يتصل – كما أسلفنا – بالتراكمات التاريخية، والعوامل التي أحاطت بولادة الحزب، إلى جانب المشاريع التي أفرزتها ثقافة السلطة، والتي كانت تصيب الأحزاب في مقتل، من حيث التبلور والانتشار والاستقرار، ومنه ما يتصل بأدوات الحزب السياسية والتنظيمية نفسه، وكذلك آليات اتخاذه للقرار، إضافةً إلى شكل وآلية تشكيل القيادة، وكذلك دورها ومقوماتها، وكيفية صناعتها، وهذا ما هو واضح لدى العامة والخاصة، من المتابعين للشأن الحزبي الكردي .
وقد شكل كل ذلك من الأسباب التي أعاقت سبيل تطور الحزب، وإمكانية التجاوب مع ما هو مطلوب منه كأداة نضالية، في سبيل تجاوز مثل هذه الحالات، اعتماداً على المخزون المعرفي لدى شرائح لا بأس بها من المجتمع الكردي، والتراث النضالي الذي حفر مساراته في وجدان قطاعات لا يستهان بها من أبناء هذا المجتمع ..
ولعل ما يلفت الانتباه ويؤكد على ما نذهب إليه، هي جملة المتناقضات المستمرة في الخطاب الحزبي الكردي، بالترافق مع حيثيات كل مرحلة، وخاصةً إذا استندنا إلى نقطتين أو ثلاثة، شكلت بالنسبة للواقعين، الوطني والقومي، انعطافة حقيقية وتاريخية في مجال العمل السياسي، وأسست في ذهنية الشارع السوري عموماً، والكردي على وجه الخصوص، ملامح خطاب جديد، قد يهدم مقومات ما كان يشكل بالنسبة له – الشارع – طقوس العمل السياسي المتوارث، بغض النظر عن الخلفية التي يستند عليها كل طرف أو جهة، وبغض النظر عن المنابع الفكرية والثقافية التي تؤسس لهذا الخطاب ..
فمن المعلوم؛ أن الحركة الحزبية الكردية كانت تنتهج منذ انطلاقتها، باستثناء فترة الانطلاقة، خيارات سياسية مطلبية، وسط جملة من المشاريع التي كانت تستهدف القضية الكردية، وأن هذه المطالب كانت منقسمة بين تيارات سياسية وولاءات إيديولوجية معينة، والتي كانت تسبب في توتير الأجواء وتشحين ظاهرة التشرذم، بحيث أن القواسم المشتركة نفسها، كانت عرضة للخلاف والاختلاف، وذلك لدوافع وأسباب تتعلق بنمطية الذهنية الحزبية، إضافةً إلى الأجندات التي كانت تهدف إلى ضرب الحركة بعضها بالبعض، وأن الطرح الحزبي والممارسة السياسية، وكذلك التفاعل مع المتغيرات، لم تكن تتجاوز حدود الجغرافيا المسيجة، أو تحاول الإفلات من كماشة المشاريع السلطوية، بمعنى أن العمل الحزبي والسياسي الكردي، كان محصوراً ضمن سقف مطلبي، ومرتبط إلى حد ما بتوجهات النظام السياسي وأجنداته في البلد ..
ولكن وبعد أن تغيرت المعادلة السياسية الدولية، إبان سقوط المعسكر الاشتراكي، وما استجد من وقائع جديدة لصالح القضية الكردية، إثر انتفاضة كردستان العراق في التسعينيات من القرن المنصرم، وقيام حكومة كردية شبه مستقلة، جرى تحول طفيف على واقع الحراك السياسي الكردي في سوريا، وإن لم يتجاوز في الجوهر، المحددات السياسية المفروضة، بحكم الواقع السياسي الذي فرضه النظام، وإنما كان التغيير منصباً في الشكل، بحيث تقلصت ظاهرة المهاترات إلى حد ما، وتبلور ملامح خطاب جديد يدعوا إلى التعايش والتفاهم، وأرادت الحركة الحزبية الإيحاء بأنها متفاعلة مع الوقائع، وذلك عبر تقديمها لبعض النماذج الشكلية، أو عبر بعض التقاطعات السياسية، كنوع من الاستجابة مع المتغيرات، أو الإيحاء بأنها في طريقها نحو التغيير، إلى أن كانت الهبة الكردية التي رافقت مشروع التغيير في المنطقة، وانعكست بشكل أو بآخر ما جرى في العراق من سقوط، وما طرأ في سوريا من ظاهرة الحراك السياسي، والتي بمجملها، تصب في دائرة الصوت الذي يهدف إلى التغيير، وفي حقل الاستحقاقات التي تفرض نفسها منذ عقود ..
وإن كان الاعتقاد السائد آنذاك، بأن ما جرى يجب أن يكون قد شكل دافعاً للحركة الحزبية بأن تعيد القراءة لمفردات خطابها السياسي وآليات عملها التنظيمي، وبالتالي الخروج من القمقم الحزبوي الضيق إلى آفاق تتمكن من خلالها ترجمة القول والادعاء إلى فعل وممارسة، خاصةً وأن أسباب ومعومات الترهل السياسي باتت معروفة، وأن آليات المعالجة باتت في متناول اليد، إذا ما تجاوزنا عقدة الأنا، والتخلص من سطوة المشاريع الاحتوائية .
وفي الحقيقة؛ فإن ما أفرزتها الهبة الكردية من وقائع على الأرض، وما تلاه من تفاعل جماهيري إبان اغتيال الشيخ الخزنوي، خاصةً من جهة مشاعر الشارع وبروزه كقوة حقيقة في الفعل النضالي، وما فرضتها استحقاقات مشروع التغيير في الحالة الوطنية، سواء من جهة المفاهيم، أو من جهة الأجندات التي استندت إلى مرجعيات، ثقافية كانت، أو إيديولوجية وبراغماتية، وسواء تستند إلى الداخل الوطني، أو تتجه صوب خيارات خارجية، أدخلت الحركة الحزبية الكردية، من جديد، ضمن دائرة النكوص والبحث عن الذات، وبالتالي فتحت الأبواب على الطرح السياسي الحزبي، وأدخلت مفهوم الحزبية في زاوية ضيقة جداً، وسط دوامة اللا استقرار واللا موقف واللا خطاب، وإن ظهر على السطح بعض القوى التي أرادت أن تنحى باتجاه التعبير عن إرادتها، والدخول مع الشارع في عملية الارتقاء النضالي، من خلال توظيفها لبعض المناسبات، وذلك عبر بعض الاحتجاجات أو المسيرات أو الاعتصامات ..
إلا أن ذلك لم تكن سوى مواقف مناسباتيه، إذا استندنا إلى عامل الفكر والموقف والمشروع السياسي، وإن كانت تشكل خطوات جريئة وإيجابية، وتسجل لأصحابها على أنها مواقف سياسية متقدمة، لكنها بحاجة إلى توظيف وتأطير بما تشكل منهجية سياسية ضمن سياقات الفعل النضالي ..
ووسط هذا الازدحام، وبالترافق مع ظاهرة التغيير التي تعصف بالنموذج السياسي والثقافي والسلطوي المتداول في المنطقة، وكذلك ضمن دائرة التناقضات السياسية في أوساط المعارضة السورية عموماً، تبلورت بعض الأجندات في شكل إطارين سياسيين، تجسد أحدهما في إعلان دمشق، والآخر في جبهة الخلاص الوطني، ولكل منهما رؤيته الخاصة به، سواء بحكم التشكيلة التي تعتمد عليها، وكذلك الخيارات التي تنطلق منها، أو من جهة المعايير السياسية التي توظفها حيال مفهوم التغيير، والحوامل أو المرتكزات أو الرهنات التي تستند إليها، وبالتالي فهي قد تكون متفقة حول الأزمة التي تلف البلد، لكنها مختلفة من حيث آليات الخروج منها، وهي في جوهرها تتعلق بموضوع السلطة، وحضورها كنظام قائم على مورثات القمع والثقافة الشمولية، وكطرف ما زال له حضوره الفاعل ضمن نطاق الفعل السياسي، وتوازنات المعارضة، إضافة إلى البذرة الثقافية التي تشكل الحاضن لهما، والتي تقف عائقاً في وجه قراءة الواقع بعيداً عن أشكال النسف والاقصاء والاحتواء ..
وإذا ما أخذنا هذه التطورات بعين الاعتبار، وما جرى ويجري في لبنان وفلسطين والعراق، وما يتمخض عن ظاهرة الإرهاب في المنطقة، كنتاج لبذرة فكرية سلفية، وأيضاً ما يتفاقم من أزمات ومخاضات نتيجة البعد السياسي المذهبي للمحاور الإقليمية، وكذلك جملة المشاريع التي تنبئ بأن المنطقة في طريقها إلى إعادة الترتيب، لكان لنا الحق في أن نطرح التساؤل التالي : أين تقف الحركة الحزبية الكردية بحزيباتها المنقسمة على ذاتها، وبخطابها البعيد عن التوازن والاتزان، وكذلك بمواقفها التي لا صلة لها لا بالبعد السياسي، ولا بالجانب المعرفي، من مجريات الأحداث والتوازنات ..؟.
خاصةً وأننا ندرك جيداً ذاك البون الشاسع بين مهمة اليوم، وسط خيارات سياسية دولية مفتوحة، وما جرى في الأمس في أحضان التوازنات الداخلية والإقليمية، لكوننا؛ وكحالة وطنية في سوريا، شأننا شأن غيرنا، ينبغي أن نتأثر بمجمل ما يجري ونؤثر فيها، ونحتل مرتبة لا بأس بها ضمن الحراك الدائر بشأن التغيير، إضافةً إلى العديد من المسائل والقضايا الوطنية العالقة، كالحريات الديمقراطية ومسائل التعددية السياسية والقومية، التي تفرض نفسها على بساط البحث والنقاش، وتبحث لنفسها عن حلول ومخارج، أو من جهة الدفع صوب تحقيق ما هو مثبت في برامج الأحزاب الكردية حول انتزاع الحقوق القومية، كان لنا أن نستدعي الذاكرة، والبحث في التفاصيل التاريخية التي دفع الكرد ضريبتها جراء عدم امتلاكه لأجنداته القومية الخاصة به، وبالتالي إضاعته لكل الفرص التي كانت من شأنها أن تعيد له موقعه على الخارطة الجيوسياسية ..
ومن هنا؛ وبما أننا نعيش مرحلةً قد نُخدع فيها مرةً أخرى، إذا ما استندنا إلى ذات العقلية، نستطيع القول؛ بأن المنطق يستدعي منا العمل على إفساح المجال أمام الطاقات وإطلاقها، من أجل تلافي أسباب مجمل التراكمات في الوضع الداخلي، لأن منطق القوة واحتكار كل الدولة من قبل جهة بعينها، لم يعد يجد نفعاً أمام بلورة مفاهيم العدل والحريات، وأن التستر على الحقائق وطمس معالمها، لا يواكبان الشفافية التي أصبحت السمة البارزة للعصر، والأهم من هذا وذاك، هي القراءة الصحيحة التي يجب أن تمتلكها التعبيرات السياسية نفسها لواقع الحال، وإلمامها بروافد التغيير الوطني، والقوى المحركة له، بمعنى آخر، تفهم المعضلة الحقيقية في حالة الانكماش السياسي الذي يعانيه المواطن، وذلك بعيداً عن ضبابية الطرح والركون إلى لغة المراهنات، كالتي نراها في خطاب وممارسات غالبية القوى العربية تجاه أهم قضية من قضايا التغيير الديمقراطي الوطني في سوريا، وهي القضية الكردية بتداعياتها وإفرازاتها واستحقاقاتها، بدلاً من تعاملنا كحالة سياسية / تنظيمية كردية مع القضايا المطروحة، وفق آليات السوق التجاري، وعقلية التاجر في تفاعله مع البضاعة بحسب درجة العرض والطلب، والتي تخضع بدورها – البضاعة – سواء في مرحلة الكساد أو الازدهار إلى عوامل مختلفة، تعود في جزء منها إلى نموذج السياسة الاقتصادية المتبعة، وفي بعضها الآخر إلى الشكل الإداري الذي ينتهجه النظام السياسي، وبدلاً من بناء الحواجز في وجه الفئات المثقفة كي تجد موقعها ضمن الخارطة السياسية الكردية …
إذاً؛ نحن الآن أمام مرحلة بسماتها وموازين القوة فيها، وكذلك أمام خيارات سياسية لا مكان فيها للحلول الوسطى، فإما أن نواكب مشاريع التغيير عبر البعد الفكري والسياسي، وإما أن نلتحق من جديد بخيارات الأنظمة والتوافقات الإقليمية، بمعنى آخر، لا بد من تجسيد خطاب سياسي يؤسس لفعل نضالي، ويرتقي بالقضية الكردية كي تحتل موقعها ضمن استحقاقات المستقبل، وهذا ما لا يمكن تحقيقه أو الوصول إليه مقارنة بالواقع المعاش حزبياً، أو إذا ما التزمنا نفس الأدوات ونفس المنهجية المتوارثة في التعامل مع الوسط والمحيط …
فالتغيير الذي لا بد من الاستناد عليه والانطلاق منه، هو تغيير الذهنية، والإقلاع عن الموروثات الثقافية التي تشكلت بحكم ثقافة السلطة، وعليه فإن ما نبتغيه من ترتيبات أو مشاريع تجميعية بهدف مواكبة روح العصر، لا بد أن تستند إلى الفهم الحقيقي للتغيير، وكذلك إلى إيماننا بالتغيير، ولا تكون مستندة مرةً أخرى على سياسة إدارة الأزمة في الواقع الكردي، لأن ما نشهده الآن عبر سياسات الحزب الكردي، وما نعايشه من مواقف متناقضة ومتضاربة تركن إليها عبر تعاطيه مع الشأنين الوطني والقومي، تنبئ بأن التغيير المنشود في أجندة الحزب ما هو سوى عملية الرهان لا أكثر، بل هو اللحاق بمشاريع قد تعيد الحالة الكردية إلى نقطة الصفر، وتنتزع منها ما حققته الشارع الكردي من خطوات ومكاسب …
فعملية الدخول في اصطفافات سياسية وطنية، لا بد من أن تستند إلى رؤية سياسية كردية حول مفهومها لقضية الشعب الكردي، ولا بد من تجسيدها ضمن الخطاب السياسي لأي محور أو إطار يتفاعل معه، وقبل كل هذا وذاك، لا بد من تفهم الآليات التي تستند عليها تلك الأطر والمحاور، وعدم الوقوع في التناقض حين إجرائها للمقاربة بين البعدين القومي والوطني، لأننا، وبكل أسف، نرى هذا التخبط في الأداء الحزبي الكردي، فهو من جهة يدعوا إلى الانخراط في تسويات سياسية وطنية، ومن جهة أخرى يبحث عن قواسم مشتركة بين التعبيرات الحزبية الكردية في طرحها لمفاهيم المرجعية أو الإطار السياسي الشامل أو المؤتمر القومي، ومن هنا فإن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هو: إلى ماذا ستستند هذه القواسم المشتركة، ومن أية أرضية ستنطلق، وعبر أية رؤية سوف تتفاعل، لأن هناك في الوسط الحزبي الكردي من هو منخرط في إطار يعتمد على الأجندات الداخلية، ومنه من يغازل الآخر المعتمد على الأجندات الخارجية، بينما المطلوب كردياً؛ هو صياغة مشروع سياسي، وفق محددات الفهم الكردي للتغيير، والانطلاق منه إلى الآخر، وإلا فإن ما يتم الحديث عنه الآن من خيارات سياسية تجميعية في الواقع الكردي، هو ضرب من الوهم لا أكثر، فإذا كان هناك من يهدف وراء تشكيل مثل هكذا مرجعية، إلحاق القضية الكردية بأي من هذه الأجندات المطروحة، أو وضع الحركة الكردية ضمن سقف محدد سلفاً يرضي من خلاله توجهات النظام، فإن في ذلك قصور عن فهم وتفهم الوضع الكردي واستحقاقاته النضالية، لأن حاجة المرحلة بالنسبة إلى الواقع الكردي لا تحتاج إلى أطر تجميعية بالشكل المطروح، بقدر حاجتها إلى خطاب سياسي ورؤية كردية تجسد البعد القومي لقضية نضاله، وبالتالي فإن المرجعية المنشودة وفق ما يتم طرحه من آليات وتعبيرات، هو ليس سوى عملية ترسيخ لما هو قائم من تشتت في البنى الحزبية، وبما هو راسخ من توازنات، وبالتالي الحفاظ على الأشكال المفروضة على الواقع الكردي بحكم الأمر الواقع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن تشكيل مثل هكذا مرجعية واستناداً إلى الظواهر السائدة في الواقع الحزبي الكردي، خاصة من جهة تشتت رؤى سياسية بين أكثر من تيار وطرف، هو عملية إجهاض لتلك القوى التي تحاول أن تعتمد على الخيارات النضالية السلمية الجماهيرية، بمعنى آخر، إن هذه العملية لا تصب سوى في خانة إدارة الأزمة الحزبية ليس إلا…
فإذا كانت هناك إرادة تهدف الترتيب للبيت الكردي، وتحاول إخراج الحركة الحزبية من أزمتها، وإلحاقها بركب التغيير، فإن ذلك يجب أن يمر – حسب اعتقادي – عبر الوحدات التنظيمية بين الأطر المتقاربة من حيث المنهج والممارسة أولاً، ومن ثم صياغة مشروع سياسي يجسد الخطاب الكردي ثانياً، وليس كما يروج له الآن من مشروع تجميعي يهدف إلى الحفاظ على الأجسام الحزبية، وإعطاء الكبير والصغير صوتاً يعادل الآخر في القرار والتقرير، لأن هذا يذكرنا بما أقدمت عليها الحركة الحزبية في تاريخها، وخاصةً عند المنعطفات الحادة، وإبان كل هزة في الجسم الحزبي، وكل نكسة في سياسات النظام، بحيث كانت تتهافت إلى صياغة أطر تجميعية بغية الحفاظ على وضعها، ومواجهة الشارع بخطاب موحد كنوع من ذر الرماد في العيون، وكجزء من إدارة أزمتها الداخلية، إضافةً إلى التفاعل مع مشاريع السلطة من زاوية محددة، يتفق عبرها الكل ولا يكون هناك خارج عليه، وإن كنا ندرك بأن مثل هكذا طرح قد لا يتوافق مع مشاعر الشارع؛ الذي يدعوا إلى نوع من التكاتف وتجميع الطاقات بين الأطر الحزبية، وذلك بحكم عجزها وتململها من الوضع السائد ….
إن القراءة الموضوعية لما يجري في الوسط الكردي من إرهاصات وتجاذبات حيال استحقاقات الوضع الداخلي، وما تفرزها سياسات النظام من ردود أفعال في الشارع السوري عموماً والكردي على وجه الخصوص، يحيلنا إلى التمعن في خلفية الدعوات التي تهدف إلى تجميع الأطر الحزبية في خانة واحدة، والتي تصب في مجملها – شئنا أم أبينا – ضمن خانة احتواء المد الجماهيري، وسد المنافذ في وجهه، وبالتالي إحراق تلك الأوراق التي تحتمي بها بعض القوى التي تحركت في الآونة الأخيرة وتفاعلت مع الشارع، وإدخالها ضمن سياقات سياسة الأمر الواقع، وهذا ما ينذر بأن المستقبل محكوم عليه بالإفلاس كردياً، إذا ما انتهجنا هذا النموذج من الأداء …..