مستنقع الخطيئة في الواقع الكردي

د.

محمود عباس

أدى أجيال السلف واجبهم في متاهات الضياع ما بين الصراع والاختلافات، ونحن نؤدي واجبنا في المنسوخ، بمسيراتالمقارنة، والمقاربة، رغم الاختلافات التاريخية، وضعوا ووضعنا على صفحات التسولالبشري شعاراتالحقيقة والحق، العدل والإنصاف،حول القضية، على جدران الإنسانية، المتنوعة شكلاً، والمتناقضة فكراً ومسيرة، بروح الذل والضعف والجهالة السياسية والثقافية والدبلوماسية.
  وقف المثقف الكردي على الأبعاد الخلفية من مفاهيم الثورات، هاجمتها عند وجودها، ودافعت عنها بغيابها وزوالها، وهم الآن يتدحرجون خلف الثورة الآنية متباطئين فكراً وتحليلاً، تقييماً وتوعية، يكتنف البعض منهم الدهشة والصمت.
 كثيرون رأوا الماضي بكل آثامه، وأدركوا متاهات الحاضر، لكنهم لم يملكوا تلك المدارك المتكاملة والعمق الثقافيالمطلوب لردم الهوة بين المجتمع وآفاق الثورات وغاياتها، لهذا فللمثقف ذنوبه تجاه ضياع القضية على مدى تاريخ سيرورتها،لا تقل عن ذنوب السياسي أو الثوري الفاشل.

كثيراً ما أندمج المثقف والسياسي، رغم اختلافاتهما الآنية، أمام جريمة السكوتالمشبعبالأنانية والذات الفوقية، والمغطى بالوطنية المشكوكة فيها،على الضحالة الفكرية والثقافية والسياسية في المجتمع.

الشعب شاهد على حقائق عهر اللامبالاة هذه من قبل البعض المدرك منهم،  والصامت بسبب التكالب على البحث عن الذات لإبراز الأنا الناقدة بدون مسؤولية، بلا شك تجاوز البعض من الشريحة هذه الحواجز الفكرية، وانتفضوا للبحث عن العقاب اللائق للذات، وخلقوا بعض الإندماج الثقافي والسياسي، مع أنسياب الحاضر، بحثوا في أطراف ضياع الأجيال السابقة التي تاهت في دروب التشتت على خلفيات الكره في النضال جماعة، لكنهم، وللأسف، افرغوا طاقات البحث في النقد العام الضبابي والتهجم السلبي المفعم بالتشائم، بدون محاولة أو قدرة على طرح البديل.
أوصلت الثقافة المهشمة هذه، المجتمع الكردي إلى حواف جدران الصمت، ونهايات أروقة الظلام المسدودة، فلم يبقى حيلة للكردي الواعي أي كان شريحته، إلا بمراجعة ما فعل سابقاً، والتعمق في النفس للخلاص من التأرجح بين الماضي المهترء والحاضر المأزوم والمستقبل الذي يؤمل بسيادة ثقافة الأمل، ولن يكون للكردي ذلك، إلا بإزالة صروح ثقافة عدم تقبل الآخر كما هو، الثقافة المهشمة التي تكمن في اللاشعور واللاإرادة، حيث الكل يطالب الآخر أن يكونوا كما يرغبونه هم، هذا المنطق الذيينخر في بنية الثقافة الحضارية التي يحتاجها المجتمع الكردي.
العديد من الكتاب يبحثون في جعبتهم الثقافية لإبراز مفاهيم كانوا قد اطلعوا عليها، وينشروها على عوانها بارزينالأنا المدركة قبل غاية التبيان، يخلقون بطروحاتهم وقناعاتهم المطلقة هذه عزلة لاإرادية حولهم، محاطة بنزعة التفوق على الهو أو المجتمع الذي لا يدرك بشكل عام ابعاد طروحاتهم ومفاهيمهم، فيتعمقون بالنقد اللاملتزمعلى المجتمع بكل شرائحه إلى حد التهجم والسخرية بالأخر غير المتأثر بثقافة الجعبة، وهنا يتلاقى ثانية الكاتب المتثقف والسياسي الكردي بل ويتلاحمان، مع بعض التجاوز في الأنا المنتمية للحزب.


رغم الماضي والحاضر المحزن، والضياع في ثنايا مصالح الآخرين، حصل الكردي على السعادة والنشوة من الصراع الداخلي على مر التاريخ، الصراع الذي ملئ فراغه المقيت، في أحضان الطبيعة القاسية، والمثقف الزمني النسبي في كل آن أرتحل خلف هذه السعادة باحثاً في الشكليات والنقد الساذج، ولايزال المثقف ينطلق من المعرفة المتراكمة، وكثيراً ما لا يتمكن من إحاطتها بالتحاليل التركيبية، لتبيان اسباب الخلافات بين العقلانية واللاعقلانية أثناء البحث عن الطريق الأصوب لبلوغ الغاية الجمعية،وعوامل الإختلافات متنوعة، تتناسب حسب مستويات الوعي السياسي أو الثقافي أو الإقتصادي.

الصراع نفسه خلق القلق والشك المستديم لدى المثقف قبل السياسي، كثيراً ما يجرفه إلى التهجم الغائب عن المنطق، والموجه إلى سابقيه أو مجايليه، لا يستثني أقرانه إلا نادراً.

كلما توسع الشك وتعمق النقد المبتذل توسعت أجواء الحيرة والارتباك أمام الإحساس بالتفوق على الأقران والحصول على اللذة الداخلية أمام الجدية في نبش الواقع، وهي من الأسباب الرئيسة التي أدت وتؤدي إلى التخلف عن الآخر المشارك مكاناً في تحقيق قضية  المجتمع الجمعية.
 من اسباب هذا التلكوء، عدم إدراك الواقع بشموليته، يتهرب من مقارنة ذاته بالآخر المجاور الحضاري،والأهم هو غياب التوازن بين النزعات المادية والقيم الروحية في الأنا الغارقة في إنفرادية الذات إلى حدود الأنانية.

رافقت هذه النزعةوعلى مدى التاريخ سيطرة المنهج الأخلاقي الداخلي الذاتي على الوعي الأخلاقي الجمعي، والتي عادة ترتد وتعظم الرؤية المنظمة للذات، والاحساس بالتفوق على المجتمع، فهي تخلق على خلفية الصراع بين التكاسل والهمة على العمل الوطني الجمعي، بين الإيمان أو الشك في سمو الغاية، كلها ترتطم بمدى الفهم الحقيقي لأبعاد الغاية أو الجهل بها.
  ينقلنا هذه المدارك إلى النزاعات الصوفية والتجسيدية، الروحية والمادية،لدى المثقف الكردي في إدراك الوجود والبحث في حقيقة تكوين المدارك بين الشعب،كحقيقة أو عدمية الإله نفسه، والذي أثر ويؤثر على وعي الشعب الكردي بأعمق وأوسع الأبعاد، فالتكوين الكردي يغرق في هذا الصراع الداخلي، رغم الانغماس فيه بجدلية صراع الإضاد، فصراعه مع الآخر الكردي ومع ذاته يتشابه وخلق الصراع بين المجسدين والمتصوفين في الروحانيات مثلما للكردي في الثقافة والسياسة دون المرور على أطراف الديانات السماوية أو المدارك الفلسفية الميتافيزيقية، لكن المنطق المسيطر والمشترك بين الحالتين، الذاتي الضيق والمغلق عليه موضوعياً،في الماضي، أوالموجود حاضراً،لا يزال يتيه في أجواء هذا الصراع المرفوض لكن بنقدابتذالي، وجدالات عقيمة، مثله مثل الصراع الذي أدى إلى خلق العدمية في أسباب الحكم قتلاً إجرامياً وصلباً للحلاج أو خلع سبينوزا من السيناغوغات اليهودية.

هذين اللذين التقيا في رؤيتهما الروحانية ما وراء المادة، وإدراكهمالأبعاد الإله بمفاهيمها البعيدة عن فكر الإنسان المكون للإله تجسيماً، كلاهما نقدا وتعمقا في أبعاد الشك بالوجود كما يبحث في الأديان السماوية إلى حدالوصول لأطراف أدراك الغاية من خلق الإنسان للإله.

بينهما صوفية إلهية وميتافيزيقية مدموجة بالروحانيات الرافضة لكنهما يتحدان على ضريح الحرية الفكرية بأبعاد النقد المترامي والمتعمق بالشك النبيل غاية، وهي ما لا يدركه المثقف الكردي عند نقده لمسيرة تاريخه وتاريخالثورات التي أندثرت، الغارقة في التحليلات الساذجة لها، مثلها مثل النضال السياسي الغارق في ضحالة الإملاءات والتشتت والضياع، دون أن يردعه فعل سوي.


  كانت الصرخة صادقة من أجل موت المثقف الكردي أولا، ليندثر السياسي بعده،ولم يأتي النداء عبثاً،فمتاهات المتهالك تحت آلام الأنا المتفوق ثقافة ووعياً، الواثق من جلال التكامل الذاتي مع حيرة السياسي الأعمى،جرفت بهم للبحث عن اسباب حالة عدم الرضى عن الوجود المعاش أو المندثر مع مسيرة التاريخ قروناً، تجلت بانعكاسات عسكرية سياسية ثقافية، ولم يخلُ جيل كردي من محاولة نقل عدم الرضى هذه إلى حالة فعل ثوري، لكن أغلبها صبت في أقبية اشباع الأنا الذاتية وغابت عنها الرضى الجمعية.


   لا يزال الإحباط مسيطراً على الثقافة الآنية، يهيمن على الكردي بكليته، بسبب أنانية السياسي، ومفاهيم التحزب، ومتاهات الكتاب، وتلكأ المثقف وعدم قدرته على طرح البديل المنطقي.الرهبة من المصير القادم الذي يتبدى وكأنه يعيد الماضي المهترئ، فيبقى المجتمع الكردي غائراً في مستنقع الخطيئة مذنباً أمام الذات الحاضرة المشتتة، مع غياب واقعي في بحث دقيق عن تاريخه وحاضره، والأجيال القادمة ستلعن، كما نلعن نحن الآن.
الولايات المتحدة الأمريكية

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لقد شهدت البشرية تحوُّلاً جذرياً في طرق توثيقها للحياة والأحداث، حيث أصبحت الصورة والفيديو- ولأول وهلة- الوسيلتين الرئيسيتين لنقل الواقع وتخليده، على حساب الكلمة المكتوبة. يبدو أن هذا التحول يحمل في طياته نذر موت تدريجي للتوثيق الكتابي، الذي ظل لقرون طويلة الحاضن الأمين للمعرفة والأحداث والوجدان الإنساني. لكن، هل يمكننا التخلي عن الكتابة تماماً؟ هل يمكننا أن ننعيها،…

ا. د. قاسم المندلاوي الكورد في شمال شرق سوريا يعيشون في مناطقهم ولا يشكلون اي تهديد او خطر لا على تركيا ولا على اي طرف آخر، وليس لديهم نية عدوانية تجاه اي احد ، انهم دعاة للسلام في كوردستان والمنطقة والعالم .. ويزيد نفوسهم في سوريا اكثر من 4 مليون نسمة عاشو في دهاليز الظلم و الاضطهاد ومرارة الاحزان…

د. منصور الشمري لا يُمكن فصل تاريخ التنظيمات المتطرفة عن التحولات الكبرى في أنظمة التواصل، فهي مرتبطة بأدوات هذا النظام، ليس فقط من حيث قدرتها على الانتشار واستقطاب الأتباع، بل كذلك من جهة هويتها وطبيعتها الفكرية. وهذا ما تشهد عليه التحولات الكبرى في تاريخ الآيديولوجيات المتطرفة؛ إذ ارتبطت الأفكار المتطرفة في بداياتها بالجماعات الصغرى والضيقة ذات الطبيعة السرية والتكوين المسلح،…

بوتان زيباري في قلب جبال كردستان الشاهقة، حيث تتشابك القمم مع الغيوم وتعزف الوديان أنشودة الحرية الأبدية، تتصارع القضية الكردية بين أمل يتجدد ويأس يتسلل إلى زوايا الذاكرة الجمعية. ليست القضية الكردية مجرد حكاية عن أرض وهوية، بل هي ملحمة إنسانية مكتوبة بمداد الدماء ودموع الأمهات، وحروفها نُقشت على صخور الزمن بقلم الصمود. ولكن، كما هي عادة الروايات الكبرى،…