تقرير بيكر – هاملتون.. والتغيير الكوني

افتتاحية جريدة آزادي *

     تقرير لجنة « مجموعة دراسة العراق » المؤلفة من شخصيات سياسية ودبلوماسية من الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي وخبراء مستقلين والمعروف بتقرير جيمس بايكر- لي هاملتون يتضمن العديد من التوصيات التي لا تنسجم مع التوجهات الدولية، كما يوحي وحسب  العديد من القراءات إلى تبدلات هامة في العمل السياسي الدولي ، ومع صدور هذا التقرير صعدت موجة من خلط الأوراق هنا وهناك ، بين من يرى أن أمريكا  قد غيرت سياستها وأجندتها وأسلوب تعاطيها السياسي مع المجتمع الدولي ومع منطقة الشرق الأوسط تحديدا، وبين من يرى ذلك  اعترافا أمريكيا سافرا بفشل سياستها في المنطقة وإعلانا صارخا عن هزيمتها وهزيمة السياسة الدولية  أمام قوى الإرهاب والاستبداد وبالتالي فلا مناص لها من التراجع على الأقل عن ضغوطاتها حيال إيران وسوريا، كما لا سبيل أمامها – حسب هذا  الزعم- سوى اللجوء إلى طريقة الحوار للوصول إلى الصيغ التوافقية بشأن المنطقة وتفاعلاتها والبدء بموضوع العراق كون التقرير خاصاً بالشأن العراقي وما ينبغي له من توفير أسس وعوامل الأمن والاستقرار للانتقال إلى الجوانب الأخرى في المنطقة وهلم جرا ..

إن التقرير بما يحمل من البنود والفقرات لا يلامس مستويات التوجه الدولي المعاصر في التغيير بل يشير في معانيه ودلالاته المباشرة إلى التراجع الواضح عما تم انجازه في المنطقة على مختلف الأصعدة، من هنا كان قلق قوى وأوساط المنطقة المتفاعلة مع المرحلة وآفاق التطور عامة والقوى الوطنية العراقية خاصة والكردية على وجه الأخص وخشيتها لأن تكون القضية الكردية ضحية الاتفاقات الدولية كما حصل لمرات في العهود السابقة ولاسيما الواردة منه في البنود المتعلقة بما أسمته مراجعة الفيدرالية ومسألة كركوك وقضايا أخرى موضوع الدستور العراقي وما ينبغي له من التعديلات التي يراها التقرير ضرورية تلك التي تتجاوب في وقعها ومعانيها كل التجاوب مع الأنظمة الإقليمية ولقوى الإرهاب التي تسعى لتعطيل المساعي الدولية والجهود الوطنية من أجل استكمال شروط بناء الحياة السياسية الجديدة في العراق تحديدا على طريق التقدم والتطور الديمقراطي الحضاري ، الأمر الذي يوحي بردة قوية إلى الوراء لها تأثيرها المحبط في العراق وعلى مستوى المنطقة عامة، وبالتالي ضرب المصداقية الدولية والأمريكية بالأخص في الصميم ، خصوصا وأن البعض يرى تأكيد ما ذهب إليه سابقا وهو ” أن الرهان على أمريكا والغرب خاسر” على أنها دول مجربة سابقا لا هم لها سوى حماية مصالحها !!
لكن في الواقع يمكن استشفاف العديد من الحقائق خلاف هذا الاتجاه من خلال وقوف ولو بسيط على جانب من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ودورها إلى جانب الدول الصناعية المتطورة الأخرى في قيادة عملية التغيير والتحول الجارية في العالم منذ انهيار منظومة الدول الاشتراكية وما تلا ذلك من سقوط لدول أوربا الشرقية وللأنظمة الاستبدادية والشمولية والأيديولوجيات التابعة لها والتي تتقاطع معها سواء بنتيجة تداعيات ما حصل في دول السوفييت أو تحت تأثير وضغط شعوبها أو نتيجة التدخلات الدولية المباشرة ، حيث أخذ التغيير والتحول الديمقراطي طابعه الاستراتيجي الدولي منذ سقوط جدار برلين وصعود ظاهرة الإرهاب وتجلياتها مع ما حصل في أمريكا منذ 11 أيلول 2001 ، كذلك امتلاك العديد من الدول المتخلفة في طبيعة أنظمتها لأسلحة الدمار الشامل أو مساعيها الجادة في امتلاكها ، إلى أن تبلور التغيير في صيغة مشروع تتوافق عليه الدول الصناعية الثمانية الكبرى مع بقية الدول الصناعية الأوربية تساندها الشعوب الرازحة تحت نير الاستعباد والشعوب التي تعاني من الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية ومن الإرهاب ، ومعها كل القوى والمنظمات الدولية التي تدافع عن حقوق الإنسان وحرياته الطبيعية والتي تقف إلى جانب الشعوب المغلوبة على أمرها ومناصرتها في ضمان حقها في الحرية وتقرير المصير ، بمعنى أن التغيير الديمقراطي في العالم ومكافحة الدكتاتورية والاستبداد ومحاربة الإرهاب والتدخل المباشر في القضايا الإقليمية وما يقتضي ذلك من مشاريع و مواثيق ومعاهدات في هذا الشأن كل ذلك أصبح جانبا أساسيا من الإستراتيجية الأمريكية التي لا رجعة عنها ولا تردد فيها، تلك التي تتجاوز عما كانت عليه من البراغماتية أيام الحرب الباردة ، والتي لدول المنطقة ولعموم الشرق الأوسط أهمية قصوى في هذه السياسة وهذا التوجه الدولي  ..
من هنا، ومع كل ما أثاره التقرير من المخاوف والمحاذير ، فهو لا يتمتع بقوة الإلزام للإدارة الأمريكية أو غيرها ، كونه لا ينطوي سوى على توصيات ليس إلا، وقد يندرج بمضمونه في سياق الممارسات التكتيكية للإدارة الأمريكية التي تتخذ من تناوب ألحزم والليونة أسلوبا جديدا في تعاطيها خصوصا مع الأنظمة الإقليمية، وكسب ود البعض من حلفائها التقليديين ولو لحين، لكنها في نفس الوقت تلجأ غالبا إلى الشدة والعنف بعد كل استمهال ليتبين بجلاء ووضوح المزيد من تورط الآخرين والمزيد من التمادي في الغيّ وارتكاب الأخطاء التي تستوجب القرارات الصارمة من الهيئات الدولية ولاسيما مجلس الأمن ، كما حصل ذلك مع النظام العراقي البائد وتماديه في ممارساته الطائشة خلال السنوات الماضية إلى أن نزل فيه العقاب الأليم ..
لذلك فإن العديد من القراءات تشير إلى نتائج قد لا تحمد عقباها بعد التطورات التي جرت في المنطقة وما تزال لاسيما بعد حرب لبنان والأزمات التي تلتها وخصوصا التداخلات والتشابكات القائمة في سياسات بعض الأنظمة الإقليمية وتماديها السافر في سلوكياتها المغامرة بعد صدور هذا التقرير الذي اتخذته كإقرار أمريكي بانتصار سياساتها وكهزيمة نكراء منيت بها القوات الدولية متجاهلة أن الإدارة الأمريكية ومن في فلكها لن تتراجع عن مواقفها المتميزة وممارستها إلى جانب الآخرين لعملية التغيير والتحول الجارية في العالم لأن الكل يعلم أن أي تراجع دولي في هذا المضمار إنما هو إخفاق لسياستها وأمر مشين لها في جعل العالم بأسره عرضة سهلة للإرهاب والاستبداد والدكتاتورية يبقى من العسير القضاء عليها مستقبلا ، بمعنى أن السياسة الدولية القائمة هي قيد التطوير والتقدم ولا رجعة عنها وكل تفكير خلاف ذلك إنما هو هراء وضرب من الخيال، لذلك فإن الأنظمة الإقليمية ينبغي لها أن لا تراهن على ذلك بل عليها أن تراجع حساباتها بدقة وأن لا تنصاع للأوهام ، وأن تكف عن ممارساتها وسياساتها القمعية لأبناء وطنها وأن تساعد دول جوارها من أجل توفير عوامل الأمن والاستقرار ، وأن تسعى هي الأخرى إلى التفاعل مع حقائق التغيير والتحول الديمقراطي الجاري في العالم ، وأن تعود إلى التفاهم مع هذه القوى الدولية الضاغطة وأن تستكين لشعوبها وتنزل عند متطلباتها ورغباتها المشروعة في حياة سياسية جديدة أساسها الحريات الديمقراطية وسماتها العدل والمساواة في بلدان  تمتاز بعوامل المنعة والتطور ويتمتع أبناؤها بحقوقهم كاملة شعوبا وأفرادا وينعمون بكل أسباب السكينة والهدوء والراحة ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جريدة شهرية يصدرها مكتب الثقافة والاعلام المركزي لحزب آزادي الكردي في سوريا – العدد 380 كانون الاول 2006م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد تقود إلى عواقب وخيمة. لاسيما في السياق الكردي، حيث الوطن المجزأ بين: سوريا، العراق، إيران،…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…