لو أن بضعا من كتابنا فكروا وكتبوا كما يفكر ويكتب الناقد والكاتب الكردي الكبير الأستاذ إبراهيم محمود لكان الوضع في كردستان الغربية شيئا آخر.
فتحليله هذا يصيب كبد الحقيقة، وينبه إلى ما هو مطلوب، إلا أن قلما محاربا واحدا لا يمكنه مقارعة خصم بحجم دولة.
وليس هذا فحسب، بل قلمه محارب من قبل أقرانه قبل غيرهم، ومن قبل القادة السياسيين والمنظرين الكرد قبل الخصم.
أولئك الذين يحاولون زيغ الأبصار عما يقدمه ناقدنا من تحليل موضوعي لنواقصنا.
هذا التجاهل بعينه خدمة مجانية للخصم، وجرعة منومة أو مسكنة للحالة المرضية.
ودليل على تخلف الحركة عن أقرانها.
كوننا عشنا ونعيش في مجتمع غير ديمقراطي، يرى في النقد عداوة وليس وصفة لتصحيح المعوج.
وعليه لا بد أن نعلن النفير على من يوجه أي نقد سلبي إلينا، ونبذل بما استطعنا من تحطيمه وسحقه.
والذي يتوقع من الناقد أن يمدح بما ليس فيه حتى يكون مقبولا لديه، لن يكون سوى ضعيف النفس والإرادة وغير قادر على تثقيف اعوجاجه.
لله الشكر، نحن الكرد، كثير عددنا من هذا الصنف.
لو أننا اتبعنا المنهج العلمي في تقبل ما يعيبنا والعمل على تلافيه، لما كنا في هذه الحالة المزرية.
حيث تعج المواقع الإنترنيتية بالمقالات، إلا أنها لا تتناول اعوجاجنا من جوانبنا النضالية وغير النضالية وخطأ نهجنا بما تقتضيه الحالة لنصححها.
فهي تتناول الجوانب التي تلامس الموضوع ولا تحركه أو تزيحه من موضعه.
علاوة على الزخم الهائل من المقالات المكتوبة يوميا لا نجد ما يدفع بالقضية نحو الحل ولا ما يدفعنا نحن نحو إصلاح أنفسنا، أو تردعنا كي لا نستخدم العنف والتعويض عنه بالحوار النافع.
وقفت على مقالة الأستاذ محمود المعنونة بـ”بيان ثقافي أول إلى …” فوجدته يعالج حالة طالما أنا والدكتور عباس تناقشنا فيها، بخصوص كتابنا ومثقفينا.
ربما تكون رؤيتي مغايرة بعض الشيء لرؤية ناقدنا؛ حيث يعتبر هو: الكتاب والأدباء أسرى رجالات السياسة والأحزاب وقادتها… وأنا أرى أن الأدباء والكتاب والمثقفين هم أطباء المجتمع كما الحال لدى أطباء الأمراض الجسدية والنفسية.
فالكاتب والأديب يرى علل المجتمع ويشخصها ويوصف لها علاجا، إن كان ممكنا.
غير أن غالبية أدبائنا ومثقفينا وكتابنا يجتمعون حول طاولة السياسة ولا يفارقونها إلا لغايات خاصة.
هذه الحالة غير صحية، إن جاز التعبير، فالكاتب والأديب والمثقف في المجتمعات الأخرى يأخذون أدوارهم ومراكزهم بما تقتضيها حالات المجتمع وظروفه والمراحل التي يمر بها.
والغريب في حالتنا أن هؤلاء الأدباء والكتاب… يتبعون منحيين اثنين أولهما مواجهة الأحزاب وقادتها بشكل يخرج عن نطاق اللزوم.
ويكررون نفس الأوصاف بعبارات شتى، وكأنها جديدة ومكتشفة للتو.
هذا النهج لا يفيد المجتمع ولا القارئ ولا الراغب في اعتراك الخضم النضالي.
كل ما يقدمونه يزيد من تعمية بصيرة الجماهير وتنمية مداركها على غير الضروري.
وهكذا عندما تتخذ أحزابنا ومعها جماهيرنا وحراكنا السياسي موقفا، غالبا، نراها مترددة وغير واثقة.
والمتردد وغير الواثق لا يجاريه تطور المقدرة حتى ولو صدق موقفه.
فيعاني نفس الشيء في موقف قادم وقادم دون أي تحسن في مقدرته، إن كانت نضالية أو غيرها.
وكم من مرة تراجعت حركتنا السياسية عن مواقف اتخذتها ففقدت بذلك من احترامها ومكانتها.
وما إرث نصف قرن من النضال سوى دليل واضح على هذه الذهنية.
والمنحنى الثاني الدفاع المستميت في صحة مسار الحركة وقادتها.
فيحدث تصادم، غالبا ما يكون حادا، ويتحول إلى عداوة شديدة.
نتيجة تطاحن الرؤيتين فيما بينهما؛ يُخلق صراع داخلي يؤدي إلى التآكل الذاتي، كالحديد الذي يصيبه الصدأ، فمع مرور الزمن لا يبقى منه سوى الهش المتفتت.
وهذا العمل بالذات ما ترتكن إليه الحركة ومعهم غالبية الأدباء والكتاب على طاولة السياسية.
والجماهير المنقسمة بشقيها تظن أن ما يقدمونه لها هو عين الصواب.
وهو عينه تسعى السلطة في توفيره بشتى الوسائل.
والعلة الكامنة في الأديب والكاتب والمثقف من الاتجاهين هي أن كليهما يحلمان بقيادة الحراك السياسي؛ حيث يجدان أنهما أكثر ثقافة واطلاعا ومعرفة… من هذه القيادة التي جاءت في ظروف لم يكن التعلم متوفرا بالقدر الكافي كما هو الآن، فيصعب عليهما إتباع هذه القيادة التي دون مستواهما تعليما وثقافة… فمهاجم الحركة يحاول بكتاباته، الفارغة مضمونا لترقية مفاهيم الجماهير، من تنحية القيادة السياسية، والدالة مسيرتها النصف قرنية على ضعفها ووهنها وعجزها وعدم جدارتها في تحقيق المطالب والحقوق الكردية، غير أنه (المهاجم) لا يفلح في ذلك.
والسبب بسيط لكونه يهاجم بنفس الأسلوب القديم والمعتمد لدى القيادة السياسية في تسيير الحركة الكردية، تسييرا كانت نتائجه الحزام والإحصاء والحصار الاقتصادي، عدا حرق الأطفال والمساجين واستقدام الغمريين.
فمن الصعب في هذه الحالة إزاحة المجرب (القيادة السياسية) في نظر الجماهير واستبدالها بالجديد غير المجرب.
بالرغم من الوسائل الحالية المتاحة لتطوير هذه القيادة من نفسها إلى تلك الدرجة المساوية لهذين الاتجاهين غير أنها وقفت عاجزة عن ذلك، ولم تفعل شيئا.
وكذلك أولئك المدافعون عن الحركة السياسية يظنون بدفاعهم هذا ستتخلى القيادة، ذات التاريخ المتعثر في النضال، لهم عن مكانتها.
بينما لو كان كلا الاتجاهين على مستوى وعي نضالي كافٍ، لوسعوا من مدارك الجماهير بتبيان النواقص الكامنة في المجتمع والجماهير كليهما وكذلك عدم جدارة القيادة العتيدة في تطورها نحو الأجدد، علاوة على كيفية مقارعة النظام المستبد والسبل الكفيلة لذلك، بدلا من الكتابات التي لا تفضي إلى شيء سوى التعمية.
حينها، وبطبيعة الحال، كان لا بد من اندثار هذه القيادة اندثارا تاما، وذهابها إلى متحف التاريخ.
مع الأسف هذين الاتجاهين من المجتمعين على الطاولة السياسية لا يختلفان عن القيادة العتيدة في قِدمها وأسلوبها بشيء، سوى بمقدرتهم الكبيرة على الكتابة.
ولكن أي كتابة! كتابة وصفية، لا تغور في الأعماق لتخلق من الأجيال قادة يستردون حقوقنا بكل جدارة.
لو أن كتابنا وأدباءنا تنبهوا إلى هذه النواحي وتخصصوا في جوانب نواقصنا، لكان، على مدى نصف قرن من نضالنا، لدينا تراكم من الخبرة ما يكفي لمواجهة الخصم وبقوة.
كما ترون الآن، بالرغم من انشغال السلطة بمشاكلها، لا زلنا نعاني نفس الوضعية السابقة لما قبل انشغالها.
فلا الساسة هم على ذاك المستوى الذي يؤهلهم للاستفادة من الوضع القائم في تحقيق مطالبنا، ولا الكتاب والأدباء والمثقفون بقادرين على إيقاظ المجتمع والجماهير للتحول نحو المفيد…
بهذا المنطق نبقى تابعين ولجهات خارجية بدواعي مختلفة ومتنوعة.
وبالتبعية هذه نفقد شخصيتنا وخصوصيتنا.
وأكثر من هذا نتحول إلى متقاتلين فيما بيننا على نصرة من هم خارج مصالحنا.
وكم من شهيد سقط بسبب مشاحنة لصالح جهة خارجية، وكم من الشباب استشهدوا بعيدا مسقط رأسهم حالمين بتحقيق كردستان، وإن كانت غير جزئهم الملحق.
والحالة هذه لا بد من أن نتحول، مستقبلا، إلى لبنان الخمسينات وإلى نهاية الاحتلال السوري له.
وهذه مصيبة كبيرة، وكتابنا ومثقفونا بعيدون كل البعد عن هذا التصور.
فيما مضى كنا نموت كشهداء في أجزاء كردستان المتناثرة بين عدة دول؛ وفي هذه الحالة سننقتل من أجل غيرنا، فلا شهادة وطنية تظلنا بظلها، ولا مكسبا وطنيا نكسبه لغربنا الكردستاني.
سنموت ليستفيد الغير.
فمن لا يعمل من أجل ألا نتحول إلى لبنان كردي ليس جديرا أن يكون وطنيا صادقا.
وهذه المهمة وغيرها ملقاة على عاتق الكتاب والأدباء والمثقفين قبل غيرهم.
وناقدنا الأستاذ محمود يحاول جاهدا لفت الانتباه إلى هذه النواحي في مقالاته؛ ولكن، على ما يبدو، لا جدوى من إشاراته.
بل صار في مرمى السهام يتلقاها من كل جانب.
لو أن بضعا من كتابنا وأدبائنا تكاتفوا معه في هذا المجال لدشنوا سويا عهدا طال انتظاره ما يقارب من نصف قرن.