أخي عبدالرحمن هل رحلت حقا ؟ ! ..

سليم عمر

عندما أتذكر السنوات الطويلة التي جمعتنا ، و التي تجاوزت الأربعة عقود ، و عندما أستذكر الأحداث التي مرت علينا ، و شاركنا في صنعها ، أو التي تشاركنا في مرارتها ، و عندما تعيدني الذكريات الكثيرة إلى تلك الأوقات الطيبة التي ظللتنا ، عندما أتذكر كل ذلك ، لا أصدق أنك رحلت ، و أن رحيلك الأبدي قد ختم هذا المشوار الطويل ، و أن تلك الروح النقية ، و تلك السريرة الصافية ، و تلك الاشراقة المميزة ، قد ارتحلتْ إلى الأبد ، و أن دروب المفتي و الصالحية و العزيزية و تل حجر و الغويران قد خلتْ من خطواتك ، و أن الحسكة بناسها و أجناسها ، و بمحافلها و مجالسها و مواكبها قد فقدتْ رمزا من رموزها ،
 فلطالما تردد صدى صوتك في كل ركن من أركانها ، و لطالما افتخرتْ بهذا الرمز ، و قد اقترن اسمها باسمك ، فهي لم تذكر أبدا إلا و ذكر معها عبد الرحمن ، فقد تركت في المكان بصماتك التي لا يمكن لها أن تمحى ، و لقد نسجت في نفوس من التقيت آثارا لا يمكن لها أن تزول ، و لقد تركت برحيلك فراغا في صدري ، لا أعتقد أن أحدا سيملأه من بعدك ، فلقد امتدت بنا الأيام و السنون منذ أن تعرفت عليك قبل سنوات تجاوزت الستة و الأربعين عاما ، حتى أني خلتها أنها لن تنتهي أبدا ، و أن هذا التواصل معك سيدوم أبد الدهر ، و لكنك رحلت ، و خلفت كل ذلك وراءك .
كان ذلك سنة ست و ستين من القرن الماضي ، و في يوم قائظ مغبر من أيام الخريف ، عنما خرجنا من المعهد مبكرين ، و قد كان العام الدراسي في أيامه الأولى ، و قد كنا قدمنا من غير نسق ، و كنا قلة ، نريد أن نؤكد على حضورنا ، و أن  نأخذ فكرة عن المعهد ، و كنا الدفعة الأخيرة من معهد إعداد المعلمين في الحسكة ، عندما التقيتك أول مرة ، تنظر من خلال نظارة سميكة ، و ما تفتأ تمسح بالسبابة قطرات العرق المتجمعة على جانبي أنفك ، و تتأبط كتابا بيسراك ، و قد كان الكتاب يلازمك في حلك و ترحالك ، تنتهز الفرصة في أي وقت لتقرأ المزيد ، و لو تسنى لك لقرأت المزيد المزيد ، و لكتبت و كتبت و أبدعت ، فقد كنت قد خلقت من أجل أن تقرأ ، و أن تكتب ، و قد نشأت في بيت يقدّر العلم ، و تتلمذت على يدي العالم الجليل الملا حسن ، و أنت الذي امتلكت مشاعر و أحاسيس تدفقت من صدرك ، فغمرتْ من حولك ، و غرست فيهم الأمل و النقاء و المحبة و الصدق ، إلا أنك وجدت نفسك كالكثيرين منا ، و قد اندفعْت إلى السياسة تحت ضغط واقع مرّ قاس جرّعنا الألم و الذل و المهانة حتى أنهك منا الروح و الجسد ، ولم يترك لنا فرصة الاختيار ، غير أن نرفضه ، و أن نثور عليه .
نعم .

كان ذلك أول مرة التقيت فيها عبدالرحمن ، و لم أكن قد سمعت به من قبل ، و إذا لم تخني الذاكرة ، فإن أسرته كانت قد انتقلت للتو من مدينة عامودا ، و أنه قد أكمل تعليمه الاعدادي هناك ، و لو أنه درس الاعدادية في الحسكة لكنت قد تعرفت إليه من قبل ، إذ أن وقتها لم يكن فيها غير إعدادية الثورة ، و قد درست فيها سنوات ثلاث ، و لم تقع عيناي عليه طوال تلك السنين ، إلا أني عرفته في الأيام الأولى من العام الدراسي الأول في المعهد ، و لأننا كنا قلة لا يزيد عددنا عن الأربعين ، فسرعان ما تعرف الواحد منا على الآخر ، لتتوطد المعرفة إلى صداقة ، و سرعان ما تحولنا إلى مجموعات ذات توجهات سياسية مختلفة ، متماسكة من الداخل ، و متناحرة فيما بينها ، قوميون متشددون منقسمون و متصارعون بين يسار و يمين ، يواجهون رفض الماركسيين لهم بشراسة ، و بعثيون يرفضون وجود هذه التوجهات مجتمعة.

و مع أن ذلك كان سببا في توطيد العلاقة مع عبد الرحمن ، إلا أن السنوات الطويلة التي جمعتنا قد فعلت فعلها في ترسيخ هذه العلاقة ، و تحولها إلى لحمة و مودة و صفاء نادر .
فما أن انقضت سنوات المعهد الأربع ، حتى ضمتنا قاعات جامعة دمشق ، و حدائق هذه المدينة المتألقة ، و حاراتها القديمة ، و أسواقها التاريخية ، و أركان المسجد الأموي ، و فندق علي باشا في قلب المرجة ، و فيما بعد ، وقبل ذلك ، و بين كل ذلك ، جمعنا طريق واحد ، و نهج واحد ، و هدف واحد ، نذرنا له أنفسنا ، و عندما تعود بي الذاكرة إلى الوراء ، لا أتذكر أبدا ، أن التواصل ، و نقاء المودة ، قد انقطع بيننا في يوم من الأيام ، عندما قرّبت بيننا الأمكنة ، و فيما بعد عندما باعدت بيننا ، و لا أتذكر أن هذه العلاقة الطيبة ، و الصداقة الحميمة العميقة ، قد شابتها شائبة في يوم من الأيام .
لم يتسنّ لي أن ألقي عليك نظرة الوداع ، و أن ألوح لك بيدي ، و أن أشيعك إلى مثواك الأخير، سأفعل ذلك من هنا ، من بلاد المهجر :
وداعا أخي عبدالرحمن  .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح…

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…

صالح جانكو حينما يتوهم القائمون على سلطة الأمر الواقع المؤقتة بأنهم قد شكلوا دولة من خلال هذه الهيكلية الكرتونية، بل الكاريكاتورية المضحكة المبكية المتمثلة في تلك الحكومة التي تم تفصيلها وفقاً لرغبة وتوجهات ( رئيس الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية)وعلى مقاسه والذي احتكر كل المناصب والسلطات و الوزارات السيادية لنفسه ولجماعته من هيئة تحرير الشام ، أما باقي الوزارات تم تسليمها…

خالد جميل محمد جسّدت مؤسسة البارزاني الخيرية تلك القاعدة التي تنصّ على أن العمل هو ما يَمنحُ الأقوالَ قيمتَها لا العكس؛ فقد أثبتت للكُرد وغير الكُرد أنها خيرُ حضن للمحتاجين إلى المساعدات والمعونات والرعاية المادية والمعنوية، ومن ذلك أنها كانت في مقدمة الجهات التي استقبلَت كُرْدَ رۆژاڤایێ کُردستان (كُردستان سوريا)، فعلاً وقولاً، وقدّمت لهم الكثير مما كانوا يحتاجونه في أحلك…