هناك تهمة موجهة للمثقف الكردي هذه الأيام بنموذجه المستقل والتحزبي بأنه بقي حبرا وورق على هامش الأحداث بلا رسالة وتأثير وروح ..؟ لماذا انكفأ ونأى بنفسه عن خوض غمار الحراك العام بشكل فعال واكتفى بالرأي الضبابي والمقالة الذاتية التي تعبر عن وجهة نظر أنانية والخاوية من أي عنصر تجديد وبعيدا عن استحقاقات المرحلة والحراك العام من خلال خطاب تنويري وحداثي ولم يغير في ذاته ومنهجه وبقي في كنف السياسي واتخذه قدوة له وعمل تحت عباءته متواريا عبيدا لا يستطع الانفلات من فلكه خوفا وتشهيرا وظل يعمل بنفس الأدوات والمنهجية على أسس الفكر والموروث الثقافي الكردي البالي الذي أصبح مستنقعا آسنا تتعثر فيه كل محاولة ومسعى نهضوي فكري
إن المتتبع لصفحات المواقع الالكترونية الكردية التي تنشر باللغة العربية يتراءى للمرء أن ما يكتب فيها من مادة ثقافية وفكرية وخبر هي في أغلبها ردود أفعال ونشاط غير منتج لا ترتقي إلى مستوى الثقافة المسئولة كما ينبغي حيناً ولا تخرج من الإطار الشخصي الأناني والرأي الارتجالي أحياناً أخرى “أنا موجود” وهذه الظاهرة لا تبشر بمستقبل مشرق وواعد وإن هذا النمط من الخطاب المصطنع لم يجدي نفعه ولا ينم على وعي وإبداع فكري وثقافي راقي ولا نعتقد بأن الكرد بحاجة إليها أصلاً .
هذه الأزمة البنيوية والإشكالية الأخلاقية يعاني منه الكاتب نفسه وسببه هو ذاته الضائعة والأجواء التي يعيشها وليس غيرها من العوامل الموضوعية كما يزعم البعض للتبرير .
كما أن المواضيع التي يتناولها وهي في أغلبها سطحية إن لم نقل سوقية من نموذج التفكير الفلاحي القروي ولا علاقة لها بتنمية ذهنية القارئ وتغيير مفاهيمه والتأثير على الرأي العام تجاه قضايا لا بد من تغييرها ولا تمت بصلة إلى الثقافة المسئولة والكردايتي وهذا الفعل يشبه ما كان يجري عند السلف من الآباء والأجداد في أزقة وساحات القرى في أوقات اللهو والراحة عند الانتهاء من أعمالهم الخاصة بالتسلية بالكلام عن هذا وذاك دون التطرق إلى مسائل جوهرية تخصهم مما أبقى على المجتمع الكردي التخلف على كافة الأصعدة.
الآن يمطر الشارع الكردي كل يوم بوابل من الخطب والرسائل من كل ألوان الطيف السياسي والفكري والثقافي عبر شبكة وسائل الإعلام المتاحة حيث قلما نجح المثقف الكردي في المقاربة الصحيحة للمسائل التي يتناولها إزاء ما يعيشه من تراكم مشاكل وانسداد سبل التطور.
فهناك أسباب وتفاسير عديدة لهذا الفشل ربما هي سيكولوجية الإنسان الكردي المقهور والشعور بالنقص والدونية وخلل في عوامل بناء الشخصية وعقدة الزعامة والشهرة عند البعض الآخر والبروز من جديد بعد ضياع والبحث عن الذات بأية طريقة كانت للتغطية على الفشل الملازم له في تحقيق ما يدعو إليه .كما أن عدم التحرر أو العتق من طوطمية الموروث الثقافي البالي وهوس فكر المجرد الذي يلازمه والتفرد والتحزب والطيران في أجواء الأيديولوجيات الغريبة البعيدة عن الواقع وعن حقيقة تاريخ الكرد قد أفسح المجال أيضاً لثقافة رد الفعل والنرجسية التي غطت على جوهر الخطاب ووضع الخاص فوق كل اعتبار عام وبالتالي أسس لبيئة ذات مواقف وأفكار مسبقة الصنع مع تعطيل العقل وخلوده للراحة في المسائل المصيرية.
كان من المفترض أن يبقى هدف كل خطاب كردي هو إيصال رسالة تفاعلية في أمر ما ضد أمر ما وتكوين رأي عام و تغيير المفاهيم والموروث المتهالك وتكريس الحسنة منها حسب طبيعته ونوعه … ففي الواقع الراهن الكردي يبقى الخطاب الحداثي والتنويري والنهضوي هي إحدى الوسائل التقنية المؤئرة وصلة الوصل بالدرجة الأولى مع المجتمع والتفاعل مع الحدث القائم للتأثير عليه لتكوين رأي حول شيء ما في ذات الوقت لتغيير رأي عام في شيء ما أيضاً .لذا يخفي بين طياته جوانب إيجابية وسلبية أحيانا حسب طبيعته والغاية التي أرسل من اجله.
ما هو مخزون في ذاكرتنا التاريخية من مفردات وأفكار وثقافة ومن عادات وتقاليد معيقة للتطور الذاتي جعل من المثقف والمتثاقف معا في الغالب بلا رسالة واضحة وأن يسيء إلى المتلقي والحراك المجتمعي من خلال خطاب فج استقطابي نمطي تقليدي وما تضمنه من مواقف وآراء سطحية والقيام بعملية التشخيص والمعالجة بشكل مزاجي من زاوية فردية أنانية تخدم أجندة خاصة على الصعيدين الحزبي أو الشخصي دون الاستناد إلى ثوابت فكرية وثقافية كردوارية بسبب خلو وجدان وتفكير المثقف منها أصلاً كما ينبغي ويجب وما يتطلبه المصالح العليا.
بل يحاول كاتب المقالة أو السياسي ومثله من يعمل في مجال الأدب والفن أو الفعاليات الاجتماعية الأخرى أن يظهر قدراته ومواهبه الشخصية منذ البداية كأولوية لمهام الخطاب والتسلل إلى عقول ووجدان العوام على حساب جوهر المسألة المثارة والمطروحة وغالبا ما يستغل أمية وجهل وعواطف الناس القومية في هذا السياق، ويتم الاقتراب من جوهر المسائل بشعور مفعم بـ الذاتية والفردية حيناً و بالتعالي والتجريد عن القضايا الإستراتيجية التي تهم الجميع أحياناً أخرى وكأن المرسل يعيش لنفسه ومع نفسه وساكنا في جزيرة خالية فلا يتحدث إلا عما يعجبه في عالمه الخاص وما يتطابق مع ما يريد علما أنه يطرح القضايا الجماعية والمصيرية المعقدة والمزمنة ولديه القدرة والاستطاعة في أن يكتب ويؤلف، ولكنه لا يخرج عن ذاتيته وأنانيته، ويظل بسبب ذلك بعيدا عن الغايات الكبرى المنشودة من حيث وظيفة الخطاب الفكري الثقافي ومسؤولياته.