إن الثقافة مسألة خيار استراتيجي، وليس تكتيكاً وتحين فرصة، وقضية كبرى ومصيرية تضع المعني في مواجهة الحرية التي تبقيه في واجهة الأحداث، كما لو أنه الوحيد في العالم، وأنه الوحيد المعني بعمران الكون ومرجعاً لكل متحول.
يكون المثقف معنياً بكل ما هو مؤثر، بكل شاردة وورادة من حوله، من جهة التشخيص وسبر المكونات، دون السؤال إذا ما كان بذلك يثير هذا الطرف أو ذاك.
في الواقع الكردي” الواقع” بمعان ٍ شتى، لا يغرّنَّ المعني بالشأن الثقافي أنه في عدَاد المثقف لأنه يتعرض لشأن يقرّبه مما هو ثقافي.
إن عشرات الموضوعات أو آلافها، لا تصيّره مثقفاً البتة، حيث تتكاثر إنشائياته: كلمات لها علاقة مباشرة بما هو انطباعي أو عاطفي عابر، لا تخلو من شعبوية وشراء ذمم، كما هو حال المقروء في مواقعنا الالكترونية وغيرها.
إن أحدهم، لا يعجبه العجب، إذا تلمَّس أن كتابة سواه لا تعجبه فيكتب عنه مسفّهاً إياه، أو يبدأ بتكذيبه لأنه لا ينتمي إلى أرومة عقيدية أو تكتلية أو تحزبية تعنيه، أو يراوغ سعياً إلى تشويه سمعته، لأنه يكون مختلفاً عنه، أو يلفّق من التهم الكثير الكثير منها، مستجيباً لما هو سائد، للطعن في سمعة هذا أو ذاك، ولأن سوق مثل هذه النماذج رائجة كردياً.
ليس مثقفاً من يجد أذناً صاغية، لأنه يعبّر عن رغبة شخصية أو جماعية أو تحزبية، وله غاية من ذلك.
ليس مثقفاً من يفكّر في موضوع لأنه ساخن، ويفصح عن علاقة قائمة في المجتمع لها صلة بما هو دعائي.
ليس مثقفاً من يتحدث أو يكتب استجابة لدعوة أو بناء على طلب مباشر أو غير مباشر، أو لنيل مكسب، أو حظوة، أو لأنه بذلك يعتقد أنه يزيح من يجده خصماً من أمامه ويسترضي آخرين.
ليس مثقفاً من لا يفكر بالمقروء أو يصغي إلى متحدث ما، خارج نطاق محسوبية معينة، وليس من منطلق وجاهة، أو منبت اجتماعي، أو ثلة لها وزنها التعبوي والاستزلامي، أو لاستقطاب معين وخلق سمعة شعبوية.
ليس مثقفاً من يبحث عن تجار يسلعنون كلامه، أو يملون عليه ما يعتبرونه هو المطلوب، مهما كان منصبه أو موقعه.
ليس مثقفاً من ينسى أنه صاحب اسم، وشخصية، وأن عليه تشكيل شخصيته لتكون مختلفة عن أي شخصية أخرى.
ما أكثر الذين يكتبون أو يتحدثون هنا وهناك، وتُسلَّط عليهم الأضواء، كما يصفَّق لهم، وكلهم انتشاء، وربما يرفَعون على الأكف، والمسالة ليست أكثر من رفعهم وتركيبهم على الخوازيق.
ما أكثر الخوازيق الكردية باسم الثقافة كردستانياً.
إنها عدوى الألقاب، حيث يسمى أحدهم كاتباً، أو باحثاً، أو مفكراً، أو لا يرضى دون الباحث وربما المفكر لقباً، لأن ثمة تنافساً بين الذين يريدون لهذا المناخ الموبوء أن تتسع مساحته، وثمة من يستسيغ العيش فيها.
إنها الحالة المستنقعية، وفي المستنقع لا يوجد سوى ما هو مقرف وباعث على القرف، وما هو منفّر جمالياً.
وأعتقد أنه في وضع كهذا، لو أن الذي يبحث عما هو ثقافي، وفي أمكنة مختلفة، وكان هناك من يعرض الألقاب بالنقود، لوجدنا الأغلبية قد وقع خيارهم على الأرخص، لأن الإقدام على ما هو غال ٍ في الحالة هذه، يتطلب نوعاً من التفاني، والرهان على حياة قائمة، يتقرر فيها مصير الشخص، بينما الذين يقدِمون على شراء الأغلى، فليس لأنهم يبحثون عن الأفضل، و،هم يستحقون هاتيك الألقاب، وإنما لكي يظهروا أنهم أصحاب مواقع، وليكون نجوماً.
الثقافة متَّهمة إذاً! الثقافة هي التي تصنع ألقابها على قدر الحرية المعاشة، وتفرز مراتب لذلك، من خلال المعطى الاجتماعي والسياسي.
في هذا الوضع، قد يمضي أحدهم سنوات في السجن، وتكون قضيته عادلة، دون أن يكون جديراً بحمل اسم مثقف، أو سياسي مثقف، حيث إن الثقافة لها منحى آخر من خلال الوعي وكيفية التفاعل مع الآخرين وتفعيل الحرية بالذات.
إن الذي يسهل التاُثير في رأيه وشحنه بتصورات يقوم بتحويلها إلى كتابة، وباسم مثقف، من خلال ذبح جدي أجرب، أو دجاجة جرباء، في وسعه- وبسهولة- أن يعرض وطنه وشعبه وإنسانيته في سوق النخاسة هنا وهناك، والأمثلة كثيرة! هذا ينطبق على الذين “يسوّدون” صفحات كثيرة وكلهم اعتقاد أنهم في متن الثقافة، بينما لا يستحقون أن يقرأوا ولو سطراً واحداً مما كتبوه في ندوة ثقافية مصغرة، لأن المقدَّم ليس أكثر من كلام شعبوي، يستثير الانفعالات، وفي مجتمع يحتاج إلى الكثير من الجرعات الثقافية الصحية.
على المثقف أن يتحرك باستمرار في الاتجاه المعاكس منتظراً زمنه الخاص.
إنها ظاهرة المثقف الكردي وما يمكن تسميته بـ” خيانة الوصايا”، وهي: الكذب، والنفاق، والمراوغة، والتضليل، والتشويه، وسوء الظن، والسفالة، والانتهازية، والمتاجرة بالكلام، وسرعة التحول من مكان لآخر، والمجاملة….الخ.
على المثقف، والكردي هو ما أعنيه، أن يكون حامل “أطلس” العالم: هذا الذي عوقب بحمل قبة السماء، بسبب تمرده، أن يكون أورفيوساً، هذا الذي نظر إلى الخلف توقاً إلى حبيبته، لأنه فضَّل رغبة ثانية واحدة في رؤيتها على كل شيء، أن يكون سيزيفاً، الذي تحمل البقاء في الجحيم وهو يحمل صخرة من الأدنى إلى الأعلى، عقوبة على تحديه وثورته في الجحيم، طالما أن يلم بكل صغيرة أو كبيرة في الجحيم… وحيث ما زلنا نلفظ أسماءهم ونستعيدها كما نستشهد بها في مناسبات مختلفة خارج حدودها القومية.
لقد كان هؤلاء مثقفين على طريقتهم.
القضية إذاً هي قضية الانفتاح الأقصى على العالم وبناء الذات، هي كيفية معايشة الحرية، بعيداً عن سلطة مال، أو جاه، لغة إطراء هنا وهناك، ولدى الكرد، الكثير من هذه الحالة المستشرية أو العدوى المستفحلة.
ثمة ذيلية أو ذيليات مريعة في الواقع الثقافي الكردي، أنَّى يكون الكردي، ويعيش الوباء الكارثي المتعلق بوعي الكردية! القضية هي قضية تمثُّل الحرية، وتحمل المسئولية التي تواجِه حاملها باستمرار بما لا يشتهي طبعاً.
الثقافة الكردية تعيش بؤسها الفظيع، ممهورة بعلامة التجرد من الثقافة التي تجعلها أهلاً لأن تجاور ثقافات الآخرين، لأن ثمة مناخاً موبوءاً، كما قلت، والذين يرضون بالهواء الفاسد فيه، لا يفسحون في المجال للذين لديهم جهاز تنفس سليم.
تتطلب الثقافة الكردية الكثير من الوقت لكي تعيش سويتها في وعي الحرية والإمكانات الذاتية، وما يعنيه الرأي نفسه من مردود ثقافي وتقديم الحجة، والتحرر من سلطة الوجاهات والعبودية التي تكبّل الذات من الداخل.
لننتظر الطوفان إذاً!