الكاتب السوري واستعادة الروح الجماعية

  حليم يوسف

لاشك أن الكتابة الأدبية عمل فردي بالأساس، يتحدد مستواها الابداعي وفق امكانيات شخصية تختلف من كاتب الى آخر.

الا أن التأثير في الوعي الجمالي العام لدى المتلقي من خلال قيام الأدب بدوره الاجتماعي في تحقيق التغيير، بالمعنى المعرفي للكلمة،  يخضع لعوامل خارجة عن ارادة الكاتب- الفرد ليمتد الى المحيط العام في بعده السياسي والاجتماعي والثقافي .

من هنا يأخذ الحديث عن دور المؤسسة في نقل الكتابة من حيزها الفردي المنغلق على الذات الى حيزجماعي أرحب يكون فيه للكتابة امتدادا اجتماعيا وللكاتب احتكاكا مباشرا بالشأن العام في بلده وبين ناسه، أهمية خاصة.
ويمكن النظر الى هذا الدور على أنه بمثابة محاولة بناء جسورالتواصل بين الكاتب وبين مجتمعه، والحد من تعمق حالة الاغتراب التي ترافق الكاتب في مسعاه الدونكيشوتي نحو اعلاء مكانة الحق والخيروالجمال، في ظل سلطة تلغي الحق لصالح الاستبداد وتستبدل الخير بالفساد وتساهم في ترسيخ قيم القبح والجريمة”المقوننة”لصالح الغاء الجمال كقيمة وكذائقة.

كما هوالحال في سوريا الرازحة منذ أكثر من أربعين عام  تحت نير نظام حكم انقلابي يديره العسكر المنحدرين من حزب يحمل ايديولوجية هي خليط من النازية والفاشية.

وسرعان ما تم الغاء دور الحزب ومؤسسات الدولة كلها لصالح بناء جيش القائد المفدى ونسج شبكة من الأجهزة الأمنية الخاضعة لسلطة القائد المطلقة ومنحها كافة الصلاحيات التي تمنح عادة لمؤسسات تدير شؤون المجتمع والدولة، وتجنيد مئات الآلاف من المخبرين لأداء المهمة الموكلة اليهم وبكل أمانة، وهي التخريب التدريجي للروح الانسانية لدى السوريين وتحويلهم الى قطعان من الصامتين والمسبحين بحمد وبركة قائد الأمة الاستثنائي وانجازاته التاريخية والى الأبد.

فتحولت سوريا بذلك الى بلاد العجائب والمفارقات.

فمن ناحية باتت هناك هياكل أحزاب تدير شؤون البلاد، وفي الوقت نفسه لاوجودلأي حزب, خاصة بعد ابعاد الناس عن السياسة من خلال قتل واخفاء المعارضين في زنازين لاتعرف أماكنها.

ثمة وجود لهياكل أحزاب وما من سياسة.

بني في كل مدينة هيكلا لمركزثقافي، وفي الوقت نفسه لاحول ولاقوة لمدير ذلك المركز أمام الرقابة المشددة لمخبرصغيرمسؤول عن ادارة شؤون المركز، هذا ان لم يقم مدير المركز نفسه بذلك الدور.

فصارت لدينا مراكز ثقافية بلا ثقافة.

وقس على ذلك، النقابات ومنظمات المجتمع المدني التي حملت أسماء لهياكل بائسة تدار من قبل الأجهزة الأمنية.

وبذلك تمكن هذا الثالوث المتداخل، الحزب – العسكر – المخابرات، من التغلغل في جميع جوانب حياة السوريين وأمعن في قتل الروح المعرفية لديهم ليسهل اقتيادهم واخضاعهم الى سلطة الأمر الواقع التي كانت تتطلع أن تستمر الى الأبد.

ولم يشذ اتحاد الكتاب العرب عن مثيله من الاتحادات والمنظمات الشعبية السالفة الذكر.

وتكاد المفارقة تبلغ ذروتها في هذا المنحى، عندما نتذكر بأن الكتابة الابداعية تميل بطبيعتها الى الحركة والتجديد والتغيير،وهي تتناقض بشكل صارخ مع السلطة التي تميل الى الثبات والسكون وبقاء الأمور على ما هي عليه.
لقد نجحت السلطة في تفريغ الشيئ من معناه واستبدال الشيئ بنقيضه.

وقد رفعت الثورة السورية المشتعلة منذ آذار 2011 الغطاء عن الكثير من حقائق لا تتعلق بالسلطة فحسب, بل بنا أيضا و بمدى ضخامة الأوهام التي تحيط بنظرتنا الى الأمور.

وفجرت معها الكثير من الأسئلة التي تشبه في جوانب كثيرة منها أسئلة الأطفال الأولى.

فهل نحن أمام مشهد دولة لها مؤسساتها ومرافقها وهيئاتها ونظاما حاكما يدير شؤونها السياسية، أم أننا أمام مشهد عصابة مدججة بالعسكر والأسلحة؟
اذا كان المشهد الثاني هو الأقرب الى المشهد السوري، فمن العبث الحديث عن وضع مؤسسة مدنية تمثل الكتاب السوريين في بلاد يكون فيها وجود ما يسمى بالدولة محلا للشبهة والالتباس.

الا أن خصوصية الكتابة الأدبية في بعدها الفردي يحيلنا للاشارة الى ضرورة الفصل بين اتحاد الكتاب العرب كهيكل ملحق بالسلطة التي قدمت نفسها كعصابة محترفة القتل مؤخرا وبين الدور الذي لعبه بعض الكتاب السوريين المرموقين في منحى خدمة الثقافة السورية،  والذين كانوا أعضاء في هذا الاتحاد.

وقد أدى هذا الوضع الى انكفاء الكاتب السوري على ذاته أكثر فأكثر، مبتعدا عن العمل الجماعي لانعدام العمل المؤسساتي.

وقاد هذا الوضع الى انعدام الروح الجماعية لدى الكاتب السوري الذي لايزال يخوض تجربته الكتابية دون أية التفاتة تذكر من مؤسسة أو”جماعة” تمثله أو تساهم في فتح القنوات أمام انتشار أوترجمة نتاجاته الابداعية.

وهنا أستثني الكتاب الذين أنتجتهم السلطة وكذلك موظفيها.

ولازلت أتذكر اجابة أحد أعضاء وفد اتحاد كتاب روسيا في فرع اتحاد الكتاب العرب في حلب في حوالي العام 1995لدى السؤال عن معلوماته عن الأدب السوري، فقال بأنهم يعرفون الأدب السوري من خلال روايات قائد الجيش الشعبي السوري آنذاك، المترجمة الى الروسية.

وهناك قسم من الكتاب السوريين يمكن العثور على أسمائهم في سجلات هذا الاتحاد دون أن يعني ذلك لهم شيئا.

وهنا لست بصدد تقييم هذه التجربة، بقدر ما أود لفت الانتباه الى الآثار الناجمة عن غياب الروح الجماعية التي تعتبر تحصيلا حاصلا لغياب المؤسسات والافتقاد الى امتلاك تقاليد العمل المؤسساتي.

وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه تأسيس رابطة الكتاب السوريين وتفعيل آلية عملها في المستقبل القريب.
ان انشاء الرابطة في هذا الوقت السوري العصيب وفي وقت الثورة والسقوط اليومي لعشرات الشهداء في سبيل الحرية، يكسبها بعدا وجدانيا وأخلاقيا خاصا، بالاضافة الى بعديها الثقافي والسياسي.

الا أن ذلك لايحول دون الوقوع في الارباك أيضا.

ويمكننا اعتباربروز بعض الأسماء المعروفة بانخراطها في العمل السياسي لصالح الثورة في رابطة الكتاب لصالح غياب وتراجع بعض الأسماء الأدبية، أحد وجوه انعكاسات هذا المناخ السياسي المشحون.


ان تجاوز مرحلة وضع اللبنة الأساسية لانشاء رابطة للكتاب السوريين والانتهاء من انتخابات الأمانة العامة, رغم الأخطاء التي رافقتها، والتي تتطلب وقفة خاصة لدراستها وازالة أسبابها، يعتبر انجازا للعمل الجماعي للكتاب السوريين ولابد من تقديم الشكر لكل من ساهم في انجاح هذه الخطوة.

ان هذه الخطوة تفتح الباب على تحديات جدية أمام الكتاب السوريين الذين التفوا حول هذه الرابطة وأصبحوا أعضاء فيها بشكل عام وعلى الكتاب المنتخبين كأعضاء أمانة عامة بشكل خاص.

والتحدي الأكبر يتجسد في امكانية ايجاد آلية عملية تستطيع الرابطة من خلالها احتضان جميع الكتاب السوريين بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية والدينية والقومية، مع مراعاة الخصوصية اللغوية, خاصة للكتاب الأكراد الذين يكتبون بلغتهم الأم، لتصبح الرابطة نموذجا جميلا لسورية المستقبل التي نتمناها أن تكون لكل السوريين.

ان الثورة السورية هي ثورة منحازة للطبيعة وقد أعادت السوريين الى طبيعتهم المحبة للحرية والعيش بكرامة.

وعدا عن أنها أيقظت في نفوسهم الاحساس بالانتماء، فانها كشفت أيضا عن جوانب مضيئة من انسانيتهم المهدورة منذ حوالي نصف قرن.

وكذلك التساؤل عما اذا كانت الثورة قد أعادت الى الكتاب السوريين الروح الجماعية يظل تساؤلا مشروعا في ضوء المستجدات الحالية، التي يعتبر انشاء رابطة الكتاب السوريين تجليا ملفتا من تجلياتها الملموسة.

هذه الروح التي غطتها أعمدة الغبار المتصاعدة منذ نصف قرن من اتحادات الكتاب، ومن المنافي، ومن المسافات الهائلة التي لاتزال تفصل بعضهم عن بعضهم الآخر؟
ان مستقبل رابطة الكتاب السوريين والمصير الذي سيؤول اليه هذا “المولود الجديد”، سيكشف عن جوانب هامة من الاجابة على هذا السؤال.
…………………………………………………………
موقع رابطة الكتاب السوريين

http://syrianswa.org/ar

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…