اللاشعور السياسي الكردي المخصي

 إبراهيم محمود

يسهل القول بأن السياسي الكردي عموماً، وأكثر من غيره من بني جلدته، يعاني من شعور باضطهاد، وحتى بنوع من التبلد الذهني والتشوه النفسي، والعيائية، دون أن يفصح كما يجب عمّا هو عليه، لأن لديه لاشعوراً سياسياً مخصياً، وهو يتميز بعراقته التاريخية، وعلى أعلى مستوى في المجتمع وفي الثقافة وفي التربية، وحتى داخل العائلة وفي الشارع، كما هو الملموس فيما ينمُّ عنه من سلوكات ويُظهِره من تصرفات، بعيداً عن مستجدات عصره ومتطلبات عالمه، دون أن تكون لديه القدرة على الاعتراف بقصوره، وهو مرضه المزمن،
وإلا لانتفى الحديث عما نحن بصدده، ليوجّه هذا العنف فيه نحو أقرب المقربين إليه: العائلة، والرفاق، والذين يحاورونه أو يتواصلون معه، معبّراً عن حرمان من الأمان ووسوسة، وتكتم على وضعه المؤطَّر، أو ربما الاستمتاع، وبنوع من المازوكية مع وضعه هذا، والسادية تجاه الآخر: الناطق بلسانه أو المنتمي إليه في اللغة والمذهب، طالما أن الذي يمثُل أمامه هو فرد قاهر متنفذ، أو مهدّد في هيئة حاكم أو سلطان أو قائد أو محقّق أمني، أو من قي مقام أي من هؤلاء، انطلاقاً من نوعية الثقافة التي تتشكل لديه، وهي مهزومة ببنيتها التخلفية أو الخَلْقية بالذات، وفاقدة للمرونة، وخردة، كما هو شعوره الضمني أنه دون مقام الإنسان توازناً، حيث تاريخ علاقاته مع وسطه، وبدءاً من أفراد عائلته، ومن يكون الآمر الناهي سلطوياً، يؤكد هذه الحقيقة الخصائية، بقدر ما يستلف تبعاً للحاجة، من قوة خصمه أو عدوه المقطّع لجغرافيته، وهو بين شعور بالإعجاب الضمني به كونه الأقوى، وخوف منه وكراهية له، لأنه غير ممتلك للأدوات التي تمكّنه من تجاوزه، وهو محكوم به بأكثر من معنىً، وما يعنيه هذا التقابل والتعارض من بلبلة في السلوك الضمني، وقدرة على تبصر الطريق لرؤية أسلم لمشاكله، ولكينونته ككردي، سواء بالنسبة لحضوره الجزئي أو الكلي ومرارة التفاعل مع القائم، والأحلام المجهضة التي تتفيأ تاريخه المثقَل عليه بالمخاوف.

إن أكثر ما يميّزه هو تركيزه على أنه صاحب قضية! غير أن المفارقة تكمن هنا، وهي أنه لم يفلح كما يجب في تمثيل القضية هذه والتعبير عنها، باعتبارها متنوراً من الداخل، متحرّراً من سلطة المتحكّم به، ومن تصرفاته اليومية، حيث إن أحكامه تسبق شروحاته أو توضيحاته المطلوبة، لانتفائها، وهي تجسّد المشهد البانورامي التاريخي لقهره النوعي.
 يشير اللاشعور إلى ما هو مكبوت، إلى المحظور أو الممنوع التعبير عنه بسلاسة أو تسميته أو تمثُّله وإبقائه في الداخل عميقاً عميقاً، نظراً لأن هناك من يريد ذلك، وما يعنيه هذا الإجراء من ضغط أو عبء نفسي واجتماعي على الشخص، وفرويد هو من بحث فيه منذ أكثر من قرن، في حين أن اللاشعور السياسي يشير إلى معاناة محدَّدة تخص الجانب السياسي والذي يحظّر من جهته على المعنيّ، بضرورة عدم الإدلاء بتصريح أو القيام بفعل يصدمه بممثل السلطة: سلطة البيت، المؤسسة، الدولة..

وقد كان للفرنسي ريجيس دوبريه دور واضح ومؤثر في تبين حقيقة هذا النوع من اللاشعور.

ونجد أن هذا اللاشعور يتنوع ليكون اللاشعور الاجتماعي مثلاً، كما أوضحه إريك فروم، وفي كل تسمية يتشكل لدينا مقام محدد لضغوطات أو محظورات تحُول دون تحرر الشخص أو أكثر، لأن ثمة تهديداً وعقاباً، ومن ذلك يكون الخصاء، أي خوف الابن من معاقبته، بإخصائه، أو تجريده من رجولته من جهة الأب، وإشعار المعني بأنه دون المتحكم به قوة، مع ما يترافق من عذاب وقلق وشعور بالتهديد والقهر في كل لحظة، من قِبَل المحكوم بسلطة الأقوى أو المسيطر في المجتمع.

بالنسبة للكردي عموماً، وعلى أعلى مستوى، ما أكثر ما يظهِره هذا اللاشعور السياسي المخصي، وهو دون قدراته، دون الوعي اللازم لجعل إمكاناته أكثر عافية، وصحته النفسية أكثر سوية، لأن صوتاً آمرياً يقيّده كما هو شعوره من الداخل.

لدى الكردي، والسياسي منه في الواجهة، كمٌّ هائل من التراكمات الكبتية تلك التي تمثَّل حالات منعه عما يريد أو يكون عليه، إنها الحالات التي تترجم قدراته الملجومة، وعدم انشغاله بالعالم من حوله لأنه مقيَّد من الداخل، دون أن يلقي ظلاً على ما هو فيه، أو يتوقف عند المكانة التي هو عليها في الواقع والمجتمع، إنما يكون منشغلاً بذاته، مأخوذاً بها، بما فيها من أوهام، أوهامه على أنه: يقظٌ تجاه ما يجري له وفي محيطه، ومتنبه لكل شاردة وواردة من حوله، ودقيق في ردود أفعاله، وصائب في تصرفاته تجاه مستجدات بيئته أو محيطه الاجتماعي..

وهو سعيد بهذا التفاعل الذاتي- المحيطي، لكنه في الصميم مستعبَد بجملة التصرفات: الحركات والتعابير التي تبيّن فيه ما هو عليه من بؤس الحالة وسوء التدبير.

إنه لا يعرف الحرية الفعلية كونه غير معترف بعجزه، أو عاجز عن التصرف السليم تجاه تحديات واقعه! إن الحديث عن السياسي الكردي يجرنا إلى الحديث عن مجتمع كامل، لا يكون الوحيدَ فيه وبصفته كردياً، فثمة آخرون ممن يتكلمون لغات أخرى، وما يحتاجه هذا التنوع إلى المزيد من الدربة والنضج المستمر والوعي المضاعف، لكن ذلك لن يثنيه عن عزمه في إصدار قرارات تمثَّله أو تعنيه بقدر ما يعتبرها معنية بمجتمعه بالتمام والكمال دون أي تردد، وهو في قرارة نفسه متلبَّس بالجرم المشهود لما يقدّمه: بعيداً عن السوية الشخصية ومراعاة من هم حوله في تنوعهم.

إن تاريخ السياسي الكردي، أوضح من أن يشار إليه أحياناً، حتى من ناحية تعبير” اللاشعور السياسي”، باعتباره تاريخ هزائمه، أو خيباته وإحباطاته التي لا يعترف بها، من خلال انقساماته الحزبية” الأصح: التحزبية دائماً في المجمل”، وانتقالاته من وعي بالانقسام الجانبي والبيني، والخروج على وعيه البائس: الشقي، ومن ثم الدخول في صحوة تنبّه إلى أن ثمة إحاطة بالمشكل، لا تني تقود سريعاً إلى ذات الحالة السابقة، إي تكرار ذات المشهد الخلافي والانقسامي المسرطن.

كأن الكرد في عمومهم، والسيادسي الكردي في الصدارة المرصودة، ليسوا معنيين بالخبرات المعرفية من حولهم، أو ما يصلهم بقائمة النظريات الحديثة وتلك المتنامية، والخبرات العملية، ليكون في مقدورهم تفهم وضعهم، ونوع السيد المستبد فيهم، حيث إن هذه التعمية عن الواقع الفعلي أو العمى الفكري والنفسي، يترجمه واقع التشبث بما هو شعاراتي، أو بالشعارات البرّاقة، ومدى تفسيرها الحرْفي والدقيق لبؤر التوتر الداخلية، أي لاستعباده على أكثر من صعيد.

كأن الكرد في واقع أمرهم، لا يقيمون للتحديات التي تتطلب قدراً لافتاً من الوعي الموازي والتمكن النفسي من تفكيك الملغز حياتياً، وتلك المخاوف وكوابيس الليل والنهار حساباً، تحت طائلة النهي عن الانفتاح، وتوخّي الأمان الكاذب، وهم يصرّحون بها جهاراً، والتناقض الصارخ الذي يسمّي هذا اللاشعور السياسي المخصي بدقة لافتة.

وإذا كان جار الكردي: العربي والتركي والفارسي، وفي تفاوت ملحوظ، مخصياً لوجود سلطة مستبدة تصادر عليه حريته الفعلية، ممثَّلة في أي متنفذ، ولا يطعن في صِلاته معه، أو في سلطته بعقلانية نافذة، فإن الكردي يعاني من خصاء مركَّب، لوجود الأب السياسي الغريب بلغته والأب الآخر الذي يمثله حزبياً، وحيث الحزبي نفسه مخصي في تبعيته لما يعجز عن الإحاطة به بلغته، وفي دائرة أوسع بلغة المسيطَر عليه، كما لو أن اكتفاءه بجهله يعيّشه في وهم السعادة والحرية.

 السياسي الكردي في معاناته التي يغيّبها أو يغطي عليها سجينُ نفسه الأمّارة بالسوء والموسوسة على طول الخط، طالما أن ليس لديه شجاعة الاعتراف بأزمة تفصح عن موقع أو من موقعه في مكانة حزبية أو كلَّفه للقيام بدور معين: عادي أو وجاهي، سجين أفكاره التي تجلّده ليل نهار وهو غير عابىء بها حين تأخذ بذاكرته وقواه النفسية من وضع عطبي إلى آخر، ربما أكثر عطباً أو إصابة بالخلل، وهو يستهين بقوى الآخر: العدو أو الخصم، وحتى بالنسبة لمثيله الكردي حتى وهو نظيره في السياسة، ولكن استعباده الذاتي، يشكّل فيه كائناً معتداً بنفسه، حتى وهو في شقاء وعي مأخوذاً بعقدة الأبوية، وهو محكوم بسواه من جهة مستمتعاً بأبوية الآخر، ليتجنب المسئولية المباشرة، وهو يبرّر أي خطأ مرتكب من قبَله استناداً إلى حزبه أو الظروف القائمة، ليكون لدينا الأب الغائب، الوثن الوهمي، الهلامي، الأب المطلوب والمنهوب معاً، إزاء تناقضاته اليومية وفي المواقف الحاسمة طبعاً، إنه الأب الشبحي المقيم في الذهن ومتحيناً فرص الظهور والتعبير عن ذاته من جهة أخرى، إذا قيّض له أن يتحدث كما لو أنه الأب الذي لا أب سواه: الأب الفحل! لنقل مجدداً، ثمة الكراهية التي يضمرها إزاء المستبد به، أو يظهرها في خطاباته التعبوية وبياناته وشعاراته النارية، حيث تفصح هذه عن اكتوائه الداخلي، إنها ناره التي تتجدد تبعاً لنوعية التعنيف له ، وهي الكراهية التي ترتبط في درجتها لدى صاحب اللاشعور السياسي هذا، بخاصية هذا اللاشعور القادم من الخصم، وعنفه المنفَّذ فيه، حيث لا تصل الكراهية هذه أحياناً كثيرة، إلى مستوى المجابهة المناسبة مع مسبّبه أو فاعله، وهذا ما نتلمسه في تكوين السياسي الكردي في المجمل.

إنه يكره أباه السياسي البغيض والمتحكم فيه، ولكنها كراهية دون المستوى الذي يحرضه على مقاومته الواعية، لأنه مسكون برعبه، أو بالعجز عن تفهمه، كما هو، إن راعينا تاريخ علاقته به، إنه خوفه من ذاته المتشكلة في الداخل.

ولأنه عاجز عن مواجهته، نجده كثيراً ما يوجّه عنفه القائم من داخل الكراهية تلك إلى نظيره الكردي، أو عبر المزيد من التعالي عليه أو التحكم فيه تراتبياً، وحتى تجاهله، مقلّداً المتحكم فيه، بمرارة وحقد يعميان بصيرته كثيراً.

هل نحن في دائرة العيادة النفسية الخاصة بالكردي المشار إليه، أم في نطاق حالات مرَضية مستدامة ومتشعبة حتى الآن وغير مدرَكة بعواقبها أو مآلاتها، ولكنها في الحالتين لا تخفي خصائيتها النافذة على أكثر من صعيد؟ إن الجواب، مهما تنوع، لا يحثنا على مغادرة عالم اللاشعور، وليس سوى اللاشعور السياسي الكردي، ونوع مسئوليته التاريخية إزاء الجاري في وسطه، وتجاه ما يتمثّله من أدوار لا مرجعية له سوى ما هو مقرَّر من الأعلى: الأب، وما يليه من آباء آخرين، لكنهم مشوهون، من الصعب بمكان القول بأنهم يؤدون واجبات الأبوَّة الفعلية وإلى أمد معلوم، حيث لا إصغاء إلى مختلف، أو نظر إلى مغاير، أو متابعة لمفيد، لعقار يخص الحالة المرَضية في جماعيتها الكردية القائمة! ربما أمكن مدُّ المفهوم، ليشمل كل هؤلاء الذين يعتدُّون بصورة الأب: الوثن، أداة القسم، الظهير أو السند، ولي نعمة، هو نفسه غريب على نفسه، وأعني بهم من يتفاعلون معهم، وفق شعبويات خاصة تتناسب ومقام اللاشعور المخصي، شعبويات عقيمة، مرتبطة بآباء عاجزين عن” الإنجاب” لما هو مختلف ومستقل بذاته، وبالتوافق مع المتغيرات.

ليس في الأفق المنظور أي أمل بالتحول الإيجابي راهناً، والخروج من جهنمية اللاشعور السياسي الكردي المخصي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…