إبراهيم محمود
في مركز “سوبارتو” الكردي في قامشلو، بتاريخ 24-4/2012، ألقى الأستاذ الباحث فارس عثمان محاضرة عن دور الكرد في الثورات السورية إبّان الاستعمار الفرنسي لسوريا ما بين عامي 1920-1946..
كان ثمة استفاضة مؤثرة في الحديث عن التاريخ المتعلق بهذه المرحلة، بدءاً من نهاية الحرب العالمية الأولى، والتحضير لغزو فرنسا لسوريا، وكيفية بروز الضابط الكردي يوسف العظمة ووزير الدفاع آنذاك، ومواجهة جيش غورو الفرنسي، في سهل ميسلون واستشهاده هناك، في الوقت الذي تنحَّى جانباً الكثير من أركان جيش الملك فيصل، وحيث خاطب غورو صلاح الدين في قبره في دمشق” ها قد عدنا يا صلاح الدين”، رداً على ما قاله القائد الكردي الإسلامي قبل ثمانين قرون للصليبيين، إثر معركة ” حطين” : لقد خرجتم ولن تعودوا أبداً”
كان ثمة استفاضة مؤثرة في الحديث عن التاريخ المتعلق بهذه المرحلة، بدءاً من نهاية الحرب العالمية الأولى، والتحضير لغزو فرنسا لسوريا، وكيفية بروز الضابط الكردي يوسف العظمة ووزير الدفاع آنذاك، ومواجهة جيش غورو الفرنسي، في سهل ميسلون واستشهاده هناك، في الوقت الذي تنحَّى جانباً الكثير من أركان جيش الملك فيصل، وحيث خاطب غورو صلاح الدين في قبره في دمشق” ها قد عدنا يا صلاح الدين”، رداً على ما قاله القائد الكردي الإسلامي قبل ثمانين قرون للصليبيين، إثر معركة ” حطين” : لقد خرجتم ولن تعودوا أبداً”
مروراً بالثورة السورية الكبرى ودور هنانو وغيره في الثورة السورية ضد المستعمر الفرنسي، وبجملة التغيرات التي عاشتها سوريا ودور الكرد عموماً فيها، حيث امتزج الدم الكردي بالدم العربي وغيره، وانتهاء بجلاء فرنسا عن سوريا عام 1946، ولتشهد سوريا بعدها تحولات مختلفة في ضوء مستجدات المنطقة ورهانات الداخل السوري، اختلفت فيها النظرة إلى الكردي باعتبارها كردياً أكثر من كونه سورياً لدى أولي أمر البلد.
لقد كان هناك كم وافر من المعلومات التاريخية المحصَّل عليها من مصادر تاريخية مختلفة، ولعل الملاحظة الأولى التي يمكن تثبيتها بصدد محاضرته، وهي توصيفية، هي أن اهتمام الباحث بالجانب التاريخي السردي وسعيه إلى حشد المزيد من الوقائع والأحداث والأسماء ذات الصلة بحيثيات المرحلة، كان وراء الإغفال عما كان يجب التوقف عنده: أي التحليل، وهي ملاحظة لا تقلل من أهمية البحث، وإنما تكون بمثابة مكاشفة لطبيعته.
إن ما أحاول التعرض له، في ضوء المثار ضمن البحث، يندرج في سياق تحليلي، ثقافي، نفسي، اجتماعي، بقدر ما يتوخى مقاربة البعد التكويني وحتى الإثني الذي تميَّز به الكردي إبَّان الجاري آنذاك، مع التأكيد على أن البحث يعبّر عن وجهة نظر كاتب كردي، وأن المثار تالياً، يكون بالترادف مع وجهة النظر هذه: الملاحظة الأولى، تتعلق بالرمز الأول في المواجهة للفرنسيين، أي بيوسف العظمة، والخلفية الاجتماعية والنفسية والمعتقدية لهذا الضابط الذي وجد في الاندفاع مع القليل من الرجال غير المدربين، لموجهة جيش معدٍّ لغزو بلد، تعبيراً عن ذات، لا يمكن تجاهل خاصيتها الكردية، كما لو أن عمله كان بدافع التمايز الصامت والمنشود.
وفي السياق، فإنه يلتقي مع سلفه صلاح الدين، الذي صار عدواً مشتركاً من وازع ديني، بحيث تراجع المفهوم الإثني إلى الوراء، أو بقي في الخلف، وما يعبّر كل ذلك عن مفارقة الكرد حين يحاربون على أرض غير أرضهم، وبين جمهور ليس جمهورهم، حتى بالنسبة لقادة ميدانيين آخرين، مثل إبراهيم هنانو، وحساب التاريخ الذي يتشكل بعد رحيلهم أي استشهادهم في سبيل قضية، يتم تحركها بديماغوجية لافتة ضد المعنيين بهم غالباً.
الملاحظة الثانية، تتعلق بموقف غورو الفرنسي من صلاح الدين، وهو يخاطبه، ومفارقة الخطاب، من منتم ٍ إلى ثقافة تاريخية وسياسية واستعمارية لا تخفي نزوعها القومي، إلى منتم ٍ في الواجهة إلى ثقافة دينية اسلامية، وما في ذلك من سخرية مضمرة موجَّهة إلى قائد كردي مجيَّر في هويته، وفي مكان مثقَل عليه بالدلالات.
دون نسيان ما أشار إليه الباحث بـ” حقد غورو”، وهو خلافه تماماً، لأن المرتجى من العدو هو ما يميّزه، وليس ما هو مأمول، أي إن غزوه يفصل بين رغبة مستحيلة وواقعة تنفيها، والمفهوم الأخلاقي يتنحى جانباً هنا.
هذا ينطبق على ما تردَّد حول أن المستعمر الفرنسي اعتمد سياسة” فرّق تسد”، وهي مقولة مكرَّرة في أمكنة كثيرة، أي خارج نطاق محاضرة الباحث طبعاً، إنها مقولة لا تفصح عن حقيقة نشوئها، لأن المستعمر، ولأنه مستعمر، فإنه لا بد أن يعتمد مجموعة آليات ردع وقمع واحتواء لدوام سلطته، ومن تلك، مقولة” فرق تسد”، حيث إن هذه تأتي وصفية، وليست أخلاقية بدورها، طالما أنها تندرج في عِداد السياسة الثقافية الاستعمارية هنا.
الملاحظة الثالثة، وهي تخص موقع الذين شاركوا أخوتهم العرب وغير العرب في التصدي للفرنسيين، إذ نجد مدى اندفاعهم، ربما، وأقول ربما، شعوراً من وعي استباقي يعبّر عن طيب نيّة، وشعور بأخوة سعيدة واهمة ضمناً لا تفصل بين ذوي الإثنيات المختلفة، لعل الرابط الديني المفترَض فاعل هنا، ولعله الإخلاص لما عُرف به الكردي تاريخياً في الإخلاص لقضية تشمل وطناً، لكنه المرسوم بعلامات لم يتحضَّر لها الكردي المقاوم كما كان مسارها التاريخي، إنه الشعور بأن العمل إلى جانب الآخر، جنباً إلى جنب، يوسّع فضاء الأخوة وليس العكس.
ولأن ثمة تنوعاً في المواقف الكردية بالذات، حتى قبل مجيء الفرنسيين إلى سوريا، وعلى سبيل المثال، فإن المتنفذ الكردي الدمشقي عبدالرحمن اليوسف، كان يعارض استقلال سوريا، بقدر ما كان يؤيد نشوء دولة يهودية في فلسطين1، ولنا أن نتخيل الدوافع السياسية والمعتقدية لهكذا موقف، وكيف أن حنينه إلى العثمنة غلَب الاستقلالية لسوريا الواعدة بموازات الذين ثاروا ضد العثمانيين في إطار الثورة العربية الكبرى، وطابعها القومي، حيث القومية فاصلة هنا بين المنتمين إلى الوطن الواحد، بينما في الرابطة الإمبراطورية فقد تتراجع إلى جانب غيرها في التنوع الإثني الذي يُطوى تحت راية الولاء أكثر للمتروبول الامبراطوري، ربما وفق تقدير يتمثل في خطورة المستجد على موقعه، أي” اليوسف” ومن يكون في خانته الإثنية، إذا أردنا أن نفكر وفق معطيات المرحلة، وفي المدى الواسع لساحة سياسية ضمَّت أمماً وألسنة ومنافسات تصاعدت فيما بينها لاحقاً.
هذه الرؤية يمكن مدَّها حتى بالنسبة لموقف الأخوين بدرخان: جلادت وكاميران، بدرخان الذي استفاد من روجيه ليسكو المسئول عن مدرسة اللغات الشرقية، إلى جانب مهامه الاستخباراتية في المنطقة، وقد سمح لجلادت أن يحل محله في المدرسة2، ودون أن ننسى دور الفرنسي في وضع قواعد اللغة الكردية، إنما أيضاً في مواقف جلادت مما كان سياسياً في المنطقة، وتحديداً بالنسبة للنشاط اليهودي، والنشاط الاستخباراتي اليهودي وغير اليهودي: الانكليزي والفرنسي في المنطقة، والوعود التي حبِكت على أساس هذه الأنشطة مجتمعة، ومن ذلك دور كاميران بدرخان وارتباطه بالعمل الاستخاراتي الفرنسي وحتى الاسرائيلي لاحقاً وتقاضيه راتباً من جهة اليهود3، وما كان يرتسم في أفق العلاقات هذه، حيث إن مسئولين كرداً كانوا يمدون بأنظارهم بعيداً إلى ما هو كردستاني تحت تأثير حميّا النشاط اليهودي في فلسطين، وما كنوا يوعدون به من جهة اسرائيل بالذات، وهي الرابطة التي لا يمكن التقليل من قيمتها أو المتوخى من خلالها، إذا نظِر إليها في سياقها التاريخي، وموقع الكرد كقوة تبحث عن سمسار قوي لها دولياً، وعن زبائن مقتدرين يمكنهم التعاطف مع قضيتهم، شأنهم في ذلك شأن آخرين مارسوا هذه اللعبة، وخاصة بعد سنة 1930، إثر فشل ثورات كردية في تركيا4، وما ينبني كل ذلك على نوع من الأسْر الروحي أو الرباط الوجداني الفائق من قبل أولئك الكرد الذي كانوا يعتبرون أن كل ما يجري في تركيا” من ثورات”، هو الذي ينبغي العمل من أجله وبمزيد من الاستقلالية.
هذا يسرّع بالتركيز على الملاحظة الرابعة، وهي أن الجزيرة السورية العليا، والتي تشكلت إثر اقتطاعها من جغرافية كردستان، بقيت على عهدها مثقَلة بوعود رياح الشمال” الحزينة” عندما نستحضر تحركات رجالات الكرد الذين قدموا من الشمال، صوب الجنوب” الجزيرة” وكانت في معظمها خالية من العمران، ثم بدأ العمران فيما بعد( قامشلي، نموذجاً)، وبالتالي، فإنه بقدر ما كانت الجزيرة مستبعدة عن دائرة رهانات الثورة السورية، بسبب خلوها السكاني كما يجب، ولأنها لم تشكل عبئاً على الفرنسيين، بقدر ما كان الذين نزحوا، من الشمال من الكرد، وخاصة حاجو آغا، ومحمود الملي، مأخوذين بإشراقة الثورات والانتفاضات الكردية، ونتائجها المأسوية ، كما في حال ثورة الشيخ سعيد وآكري وديرسم وآرارات…الخ، ليكون حنين الكرد إلى الشمال، تعبيراً عن زخم الحضور الكردي، وأن الجغرافيا الكردية وهي في حداثتها في التقطيع، حافظت على هذا الزخم، وربما نجد حضوراً تاريخياً ودلالياً لهذا الزخم حتى الآن لدى الذين يعتبرون” الشمال” بمثابة الرهان الكردي الأكبر.
إن ذلك من شأنه تكثيف قوى بحثية واستقصائية بصدد الخلفية التاريخية والمحفزات النفسية التي تبقي الكردي على صلة ملموسة بما هو جار ٍ في شماله، كما لو أنه محك تاريخه الذي يروم تدوينه في كلّيته ذات يوم.
ثمة ملاحظة خامسة، تتعلق بكيفية تغلغل الدعاية الفرنسية في الوسط السوري، ونجاحها في تشكيل جيش من الأقليات” الأرمن والشركس والأكراد” لمواجهة الثورة السورية الكبرى، وفق حسابات وعوائد خاصة بها5.
الملاحظة السادسة، تتعلق بطريقة تفكير أولي أمر الكرد مما يجري في التاريخ، ونوعية الاستقلالية في هذا التفكير، وما إذا كانوا يفكرون في إطار الدائرة الجغرافية الضيقة التي تجمعهم مع غيرهم” سورياً أم تركياً أم إيرانياً أم عراقياً”..الخ، أم أنهم ولأسباب متراكمة تاريخياً، ومنها ما هو نفسي وما هو اجتماعي وثقافي، لم يصل بهم تفكيرهم في أكثر القضايا مفصلية إلى النقطة التي يكتشفون فيها حقيقتهم المختلفة عن غيرهم، ليكون ذلك انعطافة في تاريخ ينشدونه ولكنهم عاجزون عن الانتقال إليهم جرَّاء هذا التردد أو التشرذم في قواهم.
ما أشبه اليوم بالأمس، جهة متغيرات من هذا النوع، على صعيد وحدة التفكير ووحدة المصير والهوية المنشودة كردياً، وهي التي تعزّز موقعهم الجغرافي، بقدر ما تسمح لهم في أن يمعنوا النظر في التحديات بعمق أكثر.
=========
إشارات:
1-مكدول، ديڤيد: تاريخ الأكراد الحديث، ترجمة: راج آل محمد، دار الفارابي، بيروت، ط1/ 2004، ص693.
2- راندل، جوناثان: أمة في شقاق، ترجمة: فادي حمّود، دار النهار، بيروت، ط1/1997، ص249.
3- مكدول، ديڤيد: في مصدره المذكور، ص 699.
4- يمكن تتبع ذلك في كتاب (الحركة الكردية في العصر الحديث)، لجليلي جليل، وآخرين، حيث الفصول المتعلقة بأحداث ووقائع في المحيط الجغرافي الكردي المسيطَر عليه تركياً، ف4+ 5+6..
لقد كان هناك كم وافر من المعلومات التاريخية المحصَّل عليها من مصادر تاريخية مختلفة، ولعل الملاحظة الأولى التي يمكن تثبيتها بصدد محاضرته، وهي توصيفية، هي أن اهتمام الباحث بالجانب التاريخي السردي وسعيه إلى حشد المزيد من الوقائع والأحداث والأسماء ذات الصلة بحيثيات المرحلة، كان وراء الإغفال عما كان يجب التوقف عنده: أي التحليل، وهي ملاحظة لا تقلل من أهمية البحث، وإنما تكون بمثابة مكاشفة لطبيعته.
إن ما أحاول التعرض له، في ضوء المثار ضمن البحث، يندرج في سياق تحليلي، ثقافي، نفسي، اجتماعي، بقدر ما يتوخى مقاربة البعد التكويني وحتى الإثني الذي تميَّز به الكردي إبَّان الجاري آنذاك، مع التأكيد على أن البحث يعبّر عن وجهة نظر كاتب كردي، وأن المثار تالياً، يكون بالترادف مع وجهة النظر هذه: الملاحظة الأولى، تتعلق بالرمز الأول في المواجهة للفرنسيين، أي بيوسف العظمة، والخلفية الاجتماعية والنفسية والمعتقدية لهذا الضابط الذي وجد في الاندفاع مع القليل من الرجال غير المدربين، لموجهة جيش معدٍّ لغزو بلد، تعبيراً عن ذات، لا يمكن تجاهل خاصيتها الكردية، كما لو أن عمله كان بدافع التمايز الصامت والمنشود.
وفي السياق، فإنه يلتقي مع سلفه صلاح الدين، الذي صار عدواً مشتركاً من وازع ديني، بحيث تراجع المفهوم الإثني إلى الوراء، أو بقي في الخلف، وما يعبّر كل ذلك عن مفارقة الكرد حين يحاربون على أرض غير أرضهم، وبين جمهور ليس جمهورهم، حتى بالنسبة لقادة ميدانيين آخرين، مثل إبراهيم هنانو، وحساب التاريخ الذي يتشكل بعد رحيلهم أي استشهادهم في سبيل قضية، يتم تحركها بديماغوجية لافتة ضد المعنيين بهم غالباً.
الملاحظة الثانية، تتعلق بموقف غورو الفرنسي من صلاح الدين، وهو يخاطبه، ومفارقة الخطاب، من منتم ٍ إلى ثقافة تاريخية وسياسية واستعمارية لا تخفي نزوعها القومي، إلى منتم ٍ في الواجهة إلى ثقافة دينية اسلامية، وما في ذلك من سخرية مضمرة موجَّهة إلى قائد كردي مجيَّر في هويته، وفي مكان مثقَل عليه بالدلالات.
دون نسيان ما أشار إليه الباحث بـ” حقد غورو”، وهو خلافه تماماً، لأن المرتجى من العدو هو ما يميّزه، وليس ما هو مأمول، أي إن غزوه يفصل بين رغبة مستحيلة وواقعة تنفيها، والمفهوم الأخلاقي يتنحى جانباً هنا.
هذا ينطبق على ما تردَّد حول أن المستعمر الفرنسي اعتمد سياسة” فرّق تسد”، وهي مقولة مكرَّرة في أمكنة كثيرة، أي خارج نطاق محاضرة الباحث طبعاً، إنها مقولة لا تفصح عن حقيقة نشوئها، لأن المستعمر، ولأنه مستعمر، فإنه لا بد أن يعتمد مجموعة آليات ردع وقمع واحتواء لدوام سلطته، ومن تلك، مقولة” فرق تسد”، حيث إن هذه تأتي وصفية، وليست أخلاقية بدورها، طالما أنها تندرج في عِداد السياسة الثقافية الاستعمارية هنا.
الملاحظة الثالثة، وهي تخص موقع الذين شاركوا أخوتهم العرب وغير العرب في التصدي للفرنسيين، إذ نجد مدى اندفاعهم، ربما، وأقول ربما، شعوراً من وعي استباقي يعبّر عن طيب نيّة، وشعور بأخوة سعيدة واهمة ضمناً لا تفصل بين ذوي الإثنيات المختلفة، لعل الرابط الديني المفترَض فاعل هنا، ولعله الإخلاص لما عُرف به الكردي تاريخياً في الإخلاص لقضية تشمل وطناً، لكنه المرسوم بعلامات لم يتحضَّر لها الكردي المقاوم كما كان مسارها التاريخي، إنه الشعور بأن العمل إلى جانب الآخر، جنباً إلى جنب، يوسّع فضاء الأخوة وليس العكس.
ولأن ثمة تنوعاً في المواقف الكردية بالذات، حتى قبل مجيء الفرنسيين إلى سوريا، وعلى سبيل المثال، فإن المتنفذ الكردي الدمشقي عبدالرحمن اليوسف، كان يعارض استقلال سوريا، بقدر ما كان يؤيد نشوء دولة يهودية في فلسطين1، ولنا أن نتخيل الدوافع السياسية والمعتقدية لهكذا موقف، وكيف أن حنينه إلى العثمنة غلَب الاستقلالية لسوريا الواعدة بموازات الذين ثاروا ضد العثمانيين في إطار الثورة العربية الكبرى، وطابعها القومي، حيث القومية فاصلة هنا بين المنتمين إلى الوطن الواحد، بينما في الرابطة الإمبراطورية فقد تتراجع إلى جانب غيرها في التنوع الإثني الذي يُطوى تحت راية الولاء أكثر للمتروبول الامبراطوري، ربما وفق تقدير يتمثل في خطورة المستجد على موقعه، أي” اليوسف” ومن يكون في خانته الإثنية، إذا أردنا أن نفكر وفق معطيات المرحلة، وفي المدى الواسع لساحة سياسية ضمَّت أمماً وألسنة ومنافسات تصاعدت فيما بينها لاحقاً.
هذه الرؤية يمكن مدَّها حتى بالنسبة لموقف الأخوين بدرخان: جلادت وكاميران، بدرخان الذي استفاد من روجيه ليسكو المسئول عن مدرسة اللغات الشرقية، إلى جانب مهامه الاستخباراتية في المنطقة، وقد سمح لجلادت أن يحل محله في المدرسة2، ودون أن ننسى دور الفرنسي في وضع قواعد اللغة الكردية، إنما أيضاً في مواقف جلادت مما كان سياسياً في المنطقة، وتحديداً بالنسبة للنشاط اليهودي، والنشاط الاستخباراتي اليهودي وغير اليهودي: الانكليزي والفرنسي في المنطقة، والوعود التي حبِكت على أساس هذه الأنشطة مجتمعة، ومن ذلك دور كاميران بدرخان وارتباطه بالعمل الاستخاراتي الفرنسي وحتى الاسرائيلي لاحقاً وتقاضيه راتباً من جهة اليهود3، وما كان يرتسم في أفق العلاقات هذه، حيث إن مسئولين كرداً كانوا يمدون بأنظارهم بعيداً إلى ما هو كردستاني تحت تأثير حميّا النشاط اليهودي في فلسطين، وما كنوا يوعدون به من جهة اسرائيل بالذات، وهي الرابطة التي لا يمكن التقليل من قيمتها أو المتوخى من خلالها، إذا نظِر إليها في سياقها التاريخي، وموقع الكرد كقوة تبحث عن سمسار قوي لها دولياً، وعن زبائن مقتدرين يمكنهم التعاطف مع قضيتهم، شأنهم في ذلك شأن آخرين مارسوا هذه اللعبة، وخاصة بعد سنة 1930، إثر فشل ثورات كردية في تركيا4، وما ينبني كل ذلك على نوع من الأسْر الروحي أو الرباط الوجداني الفائق من قبل أولئك الكرد الذي كانوا يعتبرون أن كل ما يجري في تركيا” من ثورات”، هو الذي ينبغي العمل من أجله وبمزيد من الاستقلالية.
هذا يسرّع بالتركيز على الملاحظة الرابعة، وهي أن الجزيرة السورية العليا، والتي تشكلت إثر اقتطاعها من جغرافية كردستان، بقيت على عهدها مثقَلة بوعود رياح الشمال” الحزينة” عندما نستحضر تحركات رجالات الكرد الذين قدموا من الشمال، صوب الجنوب” الجزيرة” وكانت في معظمها خالية من العمران، ثم بدأ العمران فيما بعد( قامشلي، نموذجاً)، وبالتالي، فإنه بقدر ما كانت الجزيرة مستبعدة عن دائرة رهانات الثورة السورية، بسبب خلوها السكاني كما يجب، ولأنها لم تشكل عبئاً على الفرنسيين، بقدر ما كان الذين نزحوا، من الشمال من الكرد، وخاصة حاجو آغا، ومحمود الملي، مأخوذين بإشراقة الثورات والانتفاضات الكردية، ونتائجها المأسوية ، كما في حال ثورة الشيخ سعيد وآكري وديرسم وآرارات…الخ، ليكون حنين الكرد إلى الشمال، تعبيراً عن زخم الحضور الكردي، وأن الجغرافيا الكردية وهي في حداثتها في التقطيع، حافظت على هذا الزخم، وربما نجد حضوراً تاريخياً ودلالياً لهذا الزخم حتى الآن لدى الذين يعتبرون” الشمال” بمثابة الرهان الكردي الأكبر.
إن ذلك من شأنه تكثيف قوى بحثية واستقصائية بصدد الخلفية التاريخية والمحفزات النفسية التي تبقي الكردي على صلة ملموسة بما هو جار ٍ في شماله، كما لو أنه محك تاريخه الذي يروم تدوينه في كلّيته ذات يوم.
ثمة ملاحظة خامسة، تتعلق بكيفية تغلغل الدعاية الفرنسية في الوسط السوري، ونجاحها في تشكيل جيش من الأقليات” الأرمن والشركس والأكراد” لمواجهة الثورة السورية الكبرى، وفق حسابات وعوائد خاصة بها5.
الملاحظة السادسة، تتعلق بطريقة تفكير أولي أمر الكرد مما يجري في التاريخ، ونوعية الاستقلالية في هذا التفكير، وما إذا كانوا يفكرون في إطار الدائرة الجغرافية الضيقة التي تجمعهم مع غيرهم” سورياً أم تركياً أم إيرانياً أم عراقياً”..الخ، أم أنهم ولأسباب متراكمة تاريخياً، ومنها ما هو نفسي وما هو اجتماعي وثقافي، لم يصل بهم تفكيرهم في أكثر القضايا مفصلية إلى النقطة التي يكتشفون فيها حقيقتهم المختلفة عن غيرهم، ليكون ذلك انعطافة في تاريخ ينشدونه ولكنهم عاجزون عن الانتقال إليهم جرَّاء هذا التردد أو التشرذم في قواهم.
ما أشبه اليوم بالأمس، جهة متغيرات من هذا النوع، على صعيد وحدة التفكير ووحدة المصير والهوية المنشودة كردياً، وهي التي تعزّز موقعهم الجغرافي، بقدر ما تسمح لهم في أن يمعنوا النظر في التحديات بعمق أكثر.
=========
إشارات:
1-مكدول، ديڤيد: تاريخ الأكراد الحديث، ترجمة: راج آل محمد، دار الفارابي، بيروت، ط1/ 2004، ص693.
2- راندل، جوناثان: أمة في شقاق، ترجمة: فادي حمّود، دار النهار، بيروت، ط1/1997، ص249.
3- مكدول، ديڤيد: في مصدره المذكور، ص 699.
4- يمكن تتبع ذلك في كتاب (الحركة الكردية في العصر الحديث)، لجليلي جليل، وآخرين، حيث الفصول المتعلقة بأحداث ووقائع في المحيط الجغرافي الكردي المسيطَر عليه تركياً، ف4+ 5+6..
5- مكدول، ديڤيد: المصدر المذكور، ص 694.