كما لايجوز البحث في القضية السورية بكل تطوراتها خلال عام الا في اطار ماأطلق عليه بالربيع العربي الذي انبلج فجره في المغرب والمشرق وحقق الانتصار في تونس ومصر وليبيا وجزئيا في اليمن بتحقيق الخطوة المرحلية الأولى في اسقاط نظم الاستبداد والانتقال الى المرحلة التالية الأكثر دقة وصعوبة وهي اعادة بناء الدولة الديموقراطية الحديثة واذا كانت الانتفاضات الثورية في جميع تلك البلدان أو المرشحة مستقبلا تجتمع على مشتركات عامة مثل ازالة الاستبداد والدكتاتورية واستعادة الحرية والكرامة ووقف بدعة التوريث وتحقيق الشراكة والعدل الاجتماعي وتلبية طموحات الشباب وتقويض مراكز القوى الفئوية والأمنية والعائلية المستغلة والناهبة للمال العام ورفع أشكال الاضطهاد ضد الآخر المختلف قوميا وثقافيا ودينيا ومذهبيا واذا كانت هذه الثورات تتماثل أيضا في اجتياز مرحلتين لاستكمال شروط النجاح وفي ظل الاجماع على أولوية عملية اسقاط الأنظمة الاستبدادية فانها تتشارك في حمل هموم ومخاوف المرحلة الثانية في اعادة بناء الدولة الديموقراطية التعددية الحديثة ومواجهة تحدياتها المتنوعة حول انجاز شكل النظام القادم وصياغة الدستور الجديد ودور الاسلام السياسي وهناك الى جانب كل ذلك خصوصيات يتميز بها كل بلد على حدة .
الحقوق , والهوية , والمواطنة في الحالة السورية
لاشك أن الحكومات السورية المتعاقبة منذ فجر الاستقلال لم تحسن التصرف بشأن وضع تعريف موضوعي لحقيقة مكونات الشعب واقترف رواد الاستقلال الأوائل وبينهم كرد سورييون خطأ جسيما عندما تجاهلوا وجود وحقوق المكونات خارج الغالبيتين العربية والمسلمة السنية في أول دستور وطني بل اعتبروا سوريا من الدول البسيطة غير المركبة ومنذ نهاية خمسينات القرن الماضي وبعد تسنم القوى القومية – الناصرية والبعثية – مقاليد الحكم في البلاد وانتهاء المرحلة الديموقراطية النسبية بدأت الأوساط الآيديولوجية المتشددة بمحاولة تكريس ذلك الخطأ التاريخي الى وقائع وذلك بوضع وتنفيذ خطط التعريب القسري عبر التهجير والحرمان من حق المواطنة وتجلى ذلك أكثر بخصوص الكرد وطمس الهويات الأخرى ووضع برامج مدرسية وتربوية من الابتدائي انتهاء بالجامعي تستند الى انكار وتجاهل الآخر القومي والثقافي بشكل خاص وتم كتابة تاريخ سوريا القديم والحديث عبر المكتب الثقافي لقيادة حزب البعث كما تم حظر حتى كتابة كلمة الكردي وأسماء المكونات الأخرى عبر اصدار المئات من المراسيم والقوانين والقرارات الادارية والأمنية وهي موثقة ولاشك أن التيارات السياسية الشيوعية والاسلامية والقومية أفرادا وكقوى في جبهة النظام وخارجها تتحمل جزء من مسؤولية تجاهل واقصاء المكونات الوطنية الأخرى وبمجيء البعث تحول كل شيء بشأن المجتمع والحكم والاقتصاد والمعتقد والحياة السياسية الى المشهد الأحادي : القوم الواحد , الدين الواحد , المذهب الواحد , الحزب الواحد , العائلة الواحدة , الفرد الواحد وذلك خلافا للمبادىء الديموقراطية ولحقيقة تعددية المجتمع السوري الذي يتكون من غالبية عربية – اسلامية ووجود مالايقل عن 45% اما ليسوا عربا أو غير مسلمين سنة وهم : 15% من الكرد و14% من العلويين و10% من المسيحيين و10% من الأرمن والتركمان والشركس والآشوريين والدروز والاسماعيلية والأزيديين واذا كان هناك حذر شديد من تسلق جماعات الاسلام السياسي وسيطرتها على مقاليد السلطة في مرحلة ما بعد اسقاط نظم الاستبداد خوفا على اجهاض الثورات وحرفها عن الأهداف التي قامت من أجلها فان هذا الحذر يتحول الى قلق مشروع في الحالة السورية اذا علمنا أن مايقارب من نصف المجتمع السوري يرى في ذلك وبالاجماع خطرا محتما ولانعتقد أن غالبية النصف الآخر ستستقبل تلك الجماعات بالورود والرياحين .
سوريا من البلدان المتعددة الأقوام والثقافات والمعتقدات اضافة الى السياسات ولاشك أن ثورتها تضم مختلف المكونات المتآلفة المتآخية التي تبحث اضافة الى الحياة الديموقراطية والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات والشراكة الحقة في السلطة والقرار الى اعادة الاعتبار لهوياتها الفرعية في اطار الهوية الوطنية العامة وتثبيت وجودها وحقوقها في مواد الدستور ولاشك أن الكرد كقومية أساسية ثانية في البلاد يرنون الى ازالة كل أشكال الاضطهاد القومي عن كاهلهم ومحو آثار القمع والاقصاء والمخططات العنصرية مثل الحرمان من الآرض وحق المواطنة وانتزاع حقوقه المشروعة حسب ارادتهم بتقرير مصيرهم السياسي والاداري حسب ارادتهم الحرة في اطار سوريا الديموقراطية التعددية الواحدة الموحدة .
لايستقيم الموقف من الكرد عندما ينظر اليهم كضيوف أو متسللين أو مهاجرين فهم من السكان الأصليين قبل ظهور الدولة السورية بل منذ التاريخ السحيق يعيشون على أرض الآباء والأجداد وساهموا في معارك الاستقلال بقيادات وطنية معروفة مثل ( يوسف العظمة وابراهيم هنانو ) وبناء الوطن وقدموا الغالي والرخيص من أجل سيادة البلاد وحريتها وهناك أقوام أخرى مشابهة لذلك فان المواطنة الحقة تتحقق فقط من خلال الاعتراف المتبادل بالوجود والحقوق والشراكة والعيش المشترك والاندماج يتم في بوتقة الوطن على أسس واضحة وليس في بوتقة القومية السائدة الغالبة بصورة قسرية وعلى أساس التعاقد الاجتماعي السياسي الذي يكفله الدستور ويضمنه بين عناصر الوطن بالارادة الحرة وفي أجواء النظام الديموقراطي .
خلاص الهويات الأساسية والفرعية من جحيم القمع والاقصاء وانعتاق القوميات المغلوبة على أمرها المسلوبة الارادة منذ عقود من واقع الذل والتجاهل والتغييب في البلدان المتعددة الأقوام والديانات والطوائف مثل الحالة السورية بفضل الثورة الوطنية الديموقراطية أمر مشروع ولايتناقض مع وحدة البلد أرضا وشعبا بل من شأنه تعزيز الوحدة الوطنية والتلاحم على قاعدة الاتحاد الاختياري وليس القسري لأن الجميع يؤمنون بالعيش المشترك في دولة حرة تعاقدية كما أن ربيع الثورات المنبلج في القرن الواحد والعشرين يتميز عن ثورات القرنين التاسع عشر والعشرين بخصائصها وأهدافها المرتبطة أكثر بقضايا الشعوب الوطنية الداخلية مثل الحرية والعيش الكريم والديموقراطية ورفع صنوف الاضطهاد القومي منها والديني والمذهبي وازالة أنواع الاستغلال والتسلط الاجتماعي منها والآيديولوجي والفئوي والأمني أي تفكيك منظومة الدولة الأمنية الفئوية العائلية وسلطتها القمعية المعادية للشعب واعادة بناء سلطة الدولة بمؤسساتها وبناها وهياكلها وخطابها ومرجعيتها ورموزها وحتى شعاراتها على أساس الشراكة والتوافق ليس بين القوى السياسية المتنوعة فحسب بل بين مكونات الشعب القومية والدينية والمذهبية أيضا وهو نوع جديد متطور وغني من الديموقراطية الصلبة في عصرنا الراهن تعيد الاعتبار الى المبدأ الانساني الخالد: حق تقرير مصير الشعوب .
ربيع الثورات بكل انجازاته الراهنة والمنتظرة وبآفاقه الرحبة كموجة ثورية ثالثة أعقبت ثورات التحرر الوطني من الاستعمار والانتداب بقيادة الطبقات المتنفذة السائدة حينذاك والتي عجزت عن بناء الدولة الوطنية الحديثة وانقلابات العسكر والأوساط البورجوازية الصغيرة التي أرادت اقامة نظم بوليسية جملوكية فئوية عائلية مستبدة شوفينية وقبل هذا وذاك جاءت ردا على نتائج تقسيمات سايكس – بيكو المدروسة والملغومة والمطبقة من دون ارادة شعوب المنطقة والتي أنتجت الواقع الراهن المزري وأفرزت هذه النظم المستبدة وليس اعادة انتاج لتلك الاتفاقية المشؤومة كما يزعم البعض مما استدعى كل ذلك هذه الموجة الربيعية الثورية الشبابية الشعبية العفوية الشجاعة لاعادة التوازن الى الخلل الناشيء منذ انهيار الامبراطورية العثمانية وعبث الاستعمار الغربي بقضايا الشعوب والمصير والأرض والحدود ومجون أنظمة القمع الاستبدادية .
أثبتت الوقائع على الأرض ان الفئات الشبابية من الجيل الجديد التي تتصدر هذه الثورات وتشكل وقودها وتقودها واستحوذت الشرعية الوطنية عن جدارة هي أكثر ادراكا من القوى التقليدية لأهمية مبدأ الاعتراف بالآخر المختلف والشراكة الحقيقية بين مكونات الوطن بمعزل عن النزعات الشوفينية والاقصائية وفي تجربتنا ضمن صفوف المعارضة والثورة السورية خلال عام لاحظنا التطور الايجابي الحاصل في المواقف السياسية تجاه الكرد والمكونات الأخرى وهناك تحول ملحوظ من أجل اعادة النظر في كل مارسمه ووضعه الاستبداد خلال عقود في الدستور والقوانين والمناهج والخطاب والعقول والأذهان وهناك عدة مشاريع لدساتير جديدة لسوريا الجديدة من أبرزها وأغناها مشروع الدستور الذي قدمه الناشط الحقوقي السوري والمعتقل السياسي السابق الأستاذ أنور البني الذي نعكف على تقييمه وتطويره .
في الختام لابد من توجيه خالص الشكر لمركز القدس للدراسات السياسية والعاملين فيه على هذه الفرصة وكل الاحترام للحضور الكريم .
* – ورقة قدمت في (ورشة عمل المواطنة والدولة المدنية الديمقراطية – نحو توافق وطني حول دستور جديد لسورية) التي نظمها مركز القدس للدراسات بالتنسيق مع المعهد الوطني الأمريكي NDI، .
الاردن / البحر الميت 17 – 18 – 19 ـ 4 ـ 2012 .
* – سياسي كردي سوري .