المأزق الذي وصلت إليه سوريا، كان من السهل تجنبه، في ما لو كان هناك مجرد صاحب ضمير حي، ذي دور فاعل، في قلب النظام، ليصغي إلى لسان حال هذه الثورة التي لم تندلع لمجرد جريمة اقتلاع أظافر أطفال درعا، فحسب، بل لأن تلك الحادثة، كانت مجرد عامل، لاستنهاض الهمم، لأنَّ ذلك الحدث الأليم سرعان ما دعا إلى استذكار تاريخ من جرائم هذا النظام، ضمن دورة زمانية، تتراوح عبر مسافة أربعة عقود ونيف، حيث في ذاكرة كل سوري شريف عشرات القصص التي رآها بأم عينيه، ناهيك، عن أنه قد كان ضحيتها، مادام صاحب موقف، لا مجرد مصفق ببغاوي، كما أن فرصاً عديدة، مرت، كان في إمكان النظام استغلالها، لتجنيب البلد من الكارثة التي صنعها بنفسه، وهو في التالي لمحاولة تجنب ذاته من الكارثة نفسها، في ما لو كانت لديه ذرة حتى من الغريزة البهيمية، المتعلقة بالقطيع، والمكان، وليس الغيرة الوطنية التي تأكد للعالم كله، أنه يفتقدها، كما هومفتقد للمنظومة الأخلاقية، تفصيلاً وجملة.
لقد أشارت المدعوة بثينة شعبان- وأين هي الآن من مجازر مدينتها وقبر أمها؟؟- لقد أشارت في بداية الاحتجاجات السلمية إلى مصير يترقب سوريا، من دون استمرارية النظام، الأمر الذي راح هذا النظام الدموي يسوق سوريا باتجاهه، ويترجمه، كتهديد للثورة، إن لم يرضخ الثوار، ولم يذعنوا للإصلاحات الموعودة التي جاء “الدستور الممسوخ” ليشير إلى حقيقتها، بعد أن صاغته أجهزة المخابرات السورية، في مكاتبها، لتصوت عليه، بنفسها، نيابة عن الشعب، ظناً من النظام أن هذا الدستور الذي أحرقه الثوار، في كل مدننا الصامدة ، قادر أن يشكل ضمانة لتأبيد من نوع آخر، وكأن أربعة وعشرين مليون سوري، تعد رئاسة بشار الأسد بمثابة خبزهم، وهوائهم، وضمانة لحظتهم الحاضرة، بل ومستقبلهم، بينما في استمرار وجود هذا النظام الدموي تهديد لكل ذلك.
استطاع النظام أن يدفع سوريا -حتى الآن- باتجاه دوامة العنف، التي ابتلعت الآلاف من أبناء وطننا، إلى الدرجة التي صارت عشرات الأسر أثراً بعد عين، وامحت أسماء أبنائها كاملة من سجلات الحياة والنفوس، ناهيك عن حلول الخوف، ليبلغ ذروته، يتقاسمه القاتل والضحية، في آن واحد، حيث ليس من سوري، خارج دائرة سطوته، بل إن كل ثقافة الحقد التي زرعها النظام، طوال مسيرته الدموية، تمّت ترجمتها على حساب أرواح الأبرياء، في ظل سياسة : “إما أن أحكم وإما أن أحرق سوريا..!”، وهذا وحده كاف، ليبين فكر هذه الفئة الحاكمة، والمجرمة، بل ولا وطنيتها، وعدم انتمائها، حتى إلى ثقافة الحياة و البشر والعصر..!
إن المنظومة الأخلاقية، للشعب السوري، بمختلف فسيفسائه، تستند إلى قاعدة متينة، لم يتمكن النظام المجرم بتفكيكها، إلا في ظل هذه الثورة، حيث راح يدخل ثقافة الريبة، بأعلى وتائرها التدميرية، بعد طوال محاولات لزرعها، تحسباً لمثل هذه الثورة، في نفوس الناس، حيث مصطلح التشبيح الذي أسس له، ورعاه، بات الآن واقعاً، لم يفتأ أن يطلق كلتا يدي مأجوريه، ليرتكبوا الفظائع، من نحر، وحرق، ودمار، بعد أن اشترى لهم ما يكفي من السلاح الفتاك بالمال المسروق من جيب الضحية، لقتله، كي يمارس مع الجندي سياسة أخرى وهي: اقتل أو تقتل..!، وصار هناك، الآن، حديث عن نسبة عالية ممن تصيب الرصاصة رؤوسهم من الخلف، بعد أن كانت هذه الجريمة ممارسة حصرية ب” حق المجند الكردي” وحده، وهاهو النظام الأرعن، المنفلت، يدفع بالمواطن السوري إلى أن يحتله اليأس، في أن يفكر أن هذا النظام الذي لم يسمع كلمة “ارحل” التي نطق بها الملايين من السوريين، منذ عام كامل وإلى اللحظة، حتى وإن كان ثمنها أرواحهم، بل راح يتوهم أنه قادر على إطفاء جذوة هذه الكلمة، بإطفاء أرواح المواطنين، وهو الذي لا يفتأ يعلن أنه ليس معنياً، إلا بالحكم، حتى وإن راحت سوريا والسوريون إلى الجحيم…!
لقد أوصل النظام الأبله، العاتي، أدواته التشبيحية، إلى حد، لايمكن أحدهم عن التراجع، في ما أقدم عليه، لا بل أنه لايزال يصور الأمر على أنه مجرد متفرج على مايتم من صراع لا يعنيه، وليس مؤلفاً ومخرجاً للفتنة التي ينتبه إليها الأخيار، من كل أشكال الفسيفساء، وإن كان هناك قتلة رخيصون، قد ينتمون لكل هذه الأشكال، يمثلون على المسرح السوري اشتراكية القتل، كي يمرر حكام دهماء في الصين وروسيا وغيرهما، هذه الخصيصة، ليستميتوا في الدفاع عنه، كي يكونوا بذلك محرضين، وشركاء في ارتكاب “جرائم ضد البشرية” على حدِّ سواء مع المجرم السوري نفسه، إذ بات الرقم القياسي لأعداد الضحايا يتراوح يومياً بين ثلاثين ومئة وخمسين ضحية، في الحساب المعلوم، ناهيك عمن ينحر من الوريد إلى الوريد في الأقبية والزنازين، بل صارت مدن سورية كثيرة وكأنها “مدن الأشباح” لا سلطان فيها، إلا الخوف المتجبر.
ومن ضمن الثقافة التي تنعش النظام، ما يتم من تكريس لشق صفوف الثورة، من خلال التشكيك بهذا الطرف المعارض أو ذاك، إما باسم الموقف من التدخل الأجنبي، أو من خلال استغلال “هفوات” بعض رموز المعارضة، بل ومحاولة تقسيم المعارضة نفسها، إلى خارجية، وداخلية، وكأن الخارج ليس امتداداً وضميراً للداخل، أو العكس، بل إن هناك من راح يدأب للتشكيك -مثلاً- بالمجلس الوطني السوري الذي يعد بالرغم من كل الأخطاء التي ساورت بنائه، العاجل، كأن دخله “بعض” الذين يرفضون الآخر، و هم خير رسل لعقل النظام نفسه، حتى وإن دخل السجن، أو لوحق- يالتفاهة هذا العقل المضلل..!- أرقى حالة للمعارضة السورية، ولا بد من دعمه، مادام أن النظام يكن له كل هذا الحق، من دون أن يكون هذا الدعم قفزاً فوق نقده الصائب، لمواصلة مساره إلى أن يتم إسقاط النظام، وإرساء دعائم سوريا الجديدة.
وحقاً، إن ما يبدو للعيان الآن، من واقع مأسوي، إنه لمن صنع النظام السفاح، ذاته، فمسرحيته التي وزع أدوارها على نحو بارع، هاهي الآن في “فصلها الأخير” بينما النظارة الأقربون، والأبعدون، كلهم يمارس فرجته، لتكون سوريا “بلا أصدقاء” ولئلا يتجاوز التضامن الأممي إلا نوساناً بين عبارات، يرددها بعض النظارة، في الوقت الذي كان يمكن قول الكلمة الأخيرة التي بات واحدة كهيلاري كلنتون أو أوباما أو ساركوزي يقولونها، الآن، قد قيلت في نيسان 2011، وليس الآن…..!، لأن من لديه الاستعداد في ارتكاب مجزرة في درعا، وأن يحرق حمص وباب عمرها، أو حماة، وإدلب، أو الزبداني، والرستن، وجسر الشغور…إلخ… قادر أن يرتكب ألف مجزرة في سوريا، أو في العالم، مادام أن وزير خارجيته قد هدد ب”محو أوربا كلها من خريطة العالم”، وهو ما يجعلنا نؤكد أن الأسرة الدولية متقاعسة عن أداء دورها الإنساني، وهناك مؤامرة على الإنسان السوري، لإغراقه في حرب أهلية، يظل عقل الإنسان السوري أكبر من إيجاد مكان لها، ضمن سياسة الانتقام والثأر التي أسس لها السفاح المجرم.
إننا جميعاً، كغيارى على سوريا، مطالبون بأن نعمل على أكثر من جبهة، وهي إرساء قواعد الطمأنينة لجميع مكونات سوريا، على حد سواء، مؤكدين أن سوريا للسوريين، وأن لا مكان فيها بعد اليوم للفكر الواحد، والنظام الواحد، فهي سوريا المسيحي كما هي سوريا المسلم والإيزيدي والعلماني، وهي سوريا الكردي كما هي سوريا العربي، مادام أن لا حل إلا عبر تعدديتها، حتى وإن ظهر على أكتاف الثورة بعض الذين يصبون الزيت على النار، ممن لا فرق بينهم والنظام الدموي، حتى وإن كان هذا النظام المجرم سبباً في السماح لهم بارتداء “ثياب المخلصين”، أية كانت ألوان ثيابهم هذه.
ثمة نار يزكم نشيشها أنوف مواطني سوريا، أجمعين، وهي نار أشعلها النظام نفسه، ليؤكد أن لا استقرار في سوريا من دونه، وهي الورقة الأخيرة التي يلعبها، الآن، وعلينا جميعاً، أن ننتبه منها، لئلا تجهز على الأخضر مع اليابس، فنحول بذلك، من دون تحقيق أمنية السفاح السوري، وهو يعرف أن الدور الذي يلعبه على مسرح وطننا، قد وصل إلى نهاياته، وإن الستارة ستسدل عليه، من دون رجعى، بعد أن احترقت أوراقه جميعها.