يتشكل الإنتماء نتيجة لمشاعر انسانية جماعية باعثها مشاعرالحب والعاطفة أو البغض والكراهية للأخر…
فقد أبيدت الملايين من الشعوب السلافية.
وقد كانت للمشاعر الجماعية دورا رئيساً في تجميع القوة الجماهيرية لتلتف حول القائد الفرد أو القيادة والقيام بالثورة والانتفاضة كما هو الحال مع حركات التحرر الوطني في بداية القرن العشرين ولا زالت هي المحرك الرئيسي للتاريخ فضلاً عن المصالح الاقتصادية المشتركة.
ففي كل من ايران والعراق وتركيا وسوريا “يعاني الشعب الكردي من الظلم بسبب الخلاف في السلالة واللغة على الرغم من وحدة الدين.
وتراكمت المشاعر الانسانية الجماعية حتى فرضت نفسها في شكل حروب محلية على الحدود، مرة داخل تركيا، وأخرى مع العراق، ولكن الصراع مستمر ودون طائل، وليس له من حل إلا “قبول الأخر” من خلال الحوار وليس من خلال السلاح والقهر.
وقد قامت تركيا في منتصف عام 1997 بحرب نظامية سافرة داخل حدود العراق بحجة القضاء على الحركة الكردية وذلك إرضاء لقوى خارج المنطقة”.
وإذا رجعنا إلى تاريخ تركيا بدءاً من أول حكومة تركية في العصر الحديث وحتى الأن نجد أنها أتبعت سياسة نشر الكراهية بين الأتراك ضد القومية الكوردية، بهدف تذويبهم في بوتقة القومية التركية مستخدمين وسائل القمع والبطش والقتل وترحيل نشطاء ومناضلي الحركة الكوردية من مناطقهم الأصلية إلى مناطق تركية بعيدة، وهذا ما جلب ضرراً كبيراً بالأكراد الذين عانوا الكثير من هذه الممارسات العنصرية اللإنسانية.
وكذلك في سوريا حيث مارس حزب البعث العربي الاشتراكي سياسة عنصرية تبث الكراهية في المجتمع السوري ضد الكورد عن طريق لصق افتراءات واشاعات كاذبة بالحركة القومية الكوردية ووصفها مرةً بـ(حركة انفصالية)، ومرة يقولون أن (الكورد اسرائيل ثانية)، ومرة أخرى يصرح أحد المسؤولين علناً أن (أي اعتراف بالكورد هو تفتيت للوحدة الوطنية).
بهذه العقلية الشوفينية زرع منظري البعث السوري والعراقي كراهية مقيتة تجاه الكورد وهذا ما يفسد العلاقة الانسانية ويغيب روح والتأخي بين الشعبين العربي والكوردي مما يعيق التعايش السلمي بينهما.
تاريخ الانسانية هو سجل الصراع الدائر بين البشر منذ الأزمنة القديمة، صراع بين البيض والسود، صراع بين الديانات، بين المذاهب والطوائف، بين القوميات الكبيرة من جانب والقوميات الصغيرة من جانب أخر، بين الأمم، بين الطبقات الاجتماعية الفقيرة والغنية، بين الأكثرية والأقلية.
الصراع الجديد بين الشرق والغرب، بين المسيحية والاسلام، بين الشمال والجنوب، بين الكرد من جانب والترك والفرس والعرب من جانب أخر، بين السنة والشيعة في الدول العربية، بين الباسك والحكومة الاسبانية، بين جنوب لبنان وشماله، بين جنوب السودان وشماله، بين الجنوب والوسط والشمال في العراق… الخ.
ثمة حالات عديدة تحتدم فيها الصراع بين جماعات ينتمون إلى قومية معينة أو إلى مذهب معين وجماعات ينتمون إلى قومية أو مذهب أخر وعلى سبيل المثال نجد على حدود كل من تركيا والعراق حروباً تكمن أحياناً وتشتعل أحياناً أخرى “بسبب مشاعر جماعية طبيعية لشعب عرف باسم “الأكراد” رغب في أن يكون له دولته مستقلة، ولكن اتفقت رغبة الحكومات المجاورة التي بها أقلية كردية على اضطهاد هذه الحركة على الرغم من أن الديانة السائدة في كل هذه الدول بما فيهم الأكراد أنفسهم هي الإسلام ويطرح السؤال نفسه على الساحة هل الصراع بسبب السلالة أو اللغة أي أن للصراع جانب ثقافي أو هما معاً[i] .
وكذلك في ايرلندا نجد صراعاً قديماً بين الكاثوليك والبروتستانت وفي العراق بين الشيعة والسنة وكلاهما ينتمون إلى نفس الدين.
ثمة نظريتين اساسيتين قبل بهما العالم، هما: نظرية “صراع الطبقات” لكارل ماركس والتي ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر، وبعدها جاءت نظرية “صراع الثقافات” أو ما يسمى أيضاً “صراع الحضارات” التي طرحها المفكر الامريكي صمؤيل هانتكتون والتي أصبحت الدليل النظري للكثير من مواقف سياسات الخارجية الامريكية في الحقبة الحالية.
وثمة أوهاماً تظهر لدى بعض الأطرف الاسلامية في تصعيد الصراع بين الاسلام والغرب بالرغم من أن توازن القوى العالمية ليس في صالح الاسلام ولا يسمح بهكذا صراع من أن تأخذ أبعاداً ميدانية ولاسيما أن الاختلاف الإيديولوجي والثقافي بينهما أمر طبيعي في عالم اليوم ومن الخطأ أن نتصور تفوق أحدهما على الأخرعلماً أن اختلال التوازن في القوى العسكرية بينهما يبدو واضحاً وجلياً.
هنالك علاقة بين الأيديولوجية السائدة في المجتمع وبين نوعين من الثقافة: إما كراهية الأخر أو “قبول الأخر”، ومن الواضح أن النظم الشمولية في مجملها تدعو إلى كراهية الأخر كمنطلق وثقافة سائدة، وعلى هذا الأساس نجد أن النظرية الفاشية التي نشأت من رحم كراهية الأخر تمحورت حول تفضيل الجنس الأبيض – وفي مقدمته العرق الأنكلوسكسوني – على الأجناس الأخرى.
وهذا ما أدى إلى نشوب حرب كونية وهو الحرب العالمية الثانية التي كلّفت البشرية ثمناً باهظاً إلى أن تمكنت من قهر الفاشية والقضاء عليها من خلال تحالف قوتين أساسيتين: النظام الرأسمالي الليبرالي في أوروبا الغربية وأمريكا والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي.
وبعد الانتهاء من الحرب العالمية، بدأت حقبة جديدة سميت بحقبة الحرب الباردة بين الأيديولوجية الليبرالية الرأسمالية وبين الماركسية التي تتبنى النظام الشمولي، وقد أنتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي لأن الأيديولوجيا التي كانت تتبناها تقوم – رغم معاداتها للفاشية – على تقسيم البشر إلى ثوريين ومعادين للثورة، ولذا ظهرت عبارات: (عملاء الاستعمار، وعملاء الرجعية)[ii].
وشهدت الحركة الماركسية تشرزماً على كافة المستويات وباتت تشجع لثقافة “كراهية الأخر” في أول صدام فكري أو خلاف في الرأي مع الأخر الخصم.
وكثير من الدراسات تثبت أن المناخ الذي ساد هذه الشعوب خلال فترة الحكم الشيوعي لم يكن صحياً وكان الناس العاديين يخشون سطوة السلطة، وكان البشر يتجسسون على بعض، مما سبب الانتكاسة في المجتمع.
وبعد حرب الخليج (Gulf War) توقفت الحرب الباردة، ودخلنا في حقبة جديدة تسمى بـ “صراع الحضارات” والأن أننا نعيش فترة الصراع بين الغرب والاسلام، وكل طرف يحاول إثارة كل ما يزيد الكراهية تجاه الأخر.
والكراهية المتبادلة بين العرب واسرائيل يشكل عاملاً كبيراً في صيرورة الصراع بينهما، مما يعقد الحل شيئاً فشيئاً.
والأن لو تأملنا بالقارة الأوربية نجد أن الحدود بين دولها قد تم إزالتها، وبات المواطن يتمتع بكامل حقوقه دون أي تمييز، إلى جانب الاعتراف الرسمي بالتعددية الثقافية والسياسية بين سائر القوميات أكثرية كانت أم أقلية، لم تعد مسألة الإنتماء والهوية مشكلة مستعصية على الحل، مما أدى إلى حالة يسود فيها الاستقرار والأمن والطمأنينة في المجتمع، حالة تخلو من الصراعات الأثنية أو الدينية أو المذهبية.
بينما يختلف الوضع في الشرق الأوسط حيث لا يزال الصراع بكل أشكاله قائماً إذ تسود الإضطرابات والحروب في بعض الأحيان مما تصبح الحياة صعباً ومثقلاً بالمتاعب.
لذا أعتقد أننا كشعوب شرق أوسطية بحاجة ماسة إلى تبني مبادئ حقوق الانسان العالمية، وتبني مبادئ الديمقراطية والعدالة والمساواة بين البشر، ونشر ايديولوجية مبنية على اساس العقلانية والفكر العلمي و”فصل الدين عن الدولة“، وتقريب المسافة بين الطبقات بإقلال الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ونشر ثقافة التسامح وقبول الأخر، والإعتراف التام دستورياً بهذا المختلف اثنياً، ولغوياً، واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ودينياً، ومذهبياً لكي نعيش معاً في دولة مدنية، ديمقراطية، تشاركية، مستقرة، يحكمها الحق والقانون، وليس المخابرات أو حكم الفرد والعائلة، دولة يسودها التحابب والرخاء والاحترام والتأخي بين سائر الإنتماءات وصولاً إلى العيش الكريم بكرامة وحرية تامة.