مساطر من المعارضة

دلور ميقري

1

أعوام ثلاثة، كانت قد مرّت على وأد ربيع دمشق، عندما أينع آذارُ 2004 في مدينة القامشلي.

انتفاضة أكراد سورية، التي شملت عامئذٍ مناطقهم في الجزيرة وكوباني وعفرين، كانت رداً على سياسة التمييز العنصري للبعث الحاكم المتضافرة بالطائفية والفساد والاستبداد.

من ناحية أخرى، فإن تلك الانتفاضة كان من المقدّر لها أن تشملَ باقي محافظات القطر، لولا أن قوى المعارضة رأت فيها مجرّد محاولة لتكرار ما راحَ يُعرف بـ ” السيناريو العراقي “.

 عموماً، لم يكن موقف المثقف السوري أكثر موضوعية بهذا الخصوص، حيث بدأت تترى المقالات على صفحات الجرائد والنت، علاوة على الإطلالات في هذه الفضائية وتلك؛ وكلها تنضحُ بالمواقف الشوفينية والمتشنجة.
الكثيرُ من المثقفين السوريين، ممن خذلوا ربيع عام 2004 استناداً لمبررات قومية عربية، هم أنفسهم الذين يرتكبون الإثمَ ذاته بحق ربيع عام 2011؛ وهذه المرة، ويا للعَجَب، ينطلقون مما يسمّونه الخشية على مصير وحقوق الأقليات: أيْ أنّ ” الشبيحة الديرية ” هم من يقمعون احتجاجات المناطق الكردية؛ و ” المدفعية الحمصية ” هيَ من تدكّ قرى طرطوس واللاذقية؛ و ” الدبابات الحموية ” تجتاح قصبات مصياف والسلمية؛ و ” الفرقة الرابعة الحورانية ” ترتكب الفظائع في جبل الدروز ..
2
في عين العام 2004، وتحديداً في شهر أيار، تسنى لي التعرّف عن قرب (كيلا أستخدم كلمة ” شخصياً “، المبتذلة) على نموذج من هذا المثقف، المعارض، الذي سبق لي توصيفه.

إذ لبيتُ وقتذاك دعوة لحضور مؤتمر باسم ” الحوار الوطني السوري “، برعاية المنظمة العربية لحقوق الإنسان في أوروبة؛ وهيَ المنظمة التي يستثمرها كلّ من هيثم المناع وزوجته اللبنانية، فيوليت داغر: كأنما همّ ” الحوار الوطني ” يتلبّسُ صاحبنا، المناع، مذ ذاك الحين.

بيْدَ أنّ هذا، حديثٌ آخر.
ولكي يَعطي المؤتمرَ، العتيد، زخماً أوسع عربياً، فقد بادرَ منظمُهُ إلى دعوة ضيوف من لبنان والعراق والسودان وتونس.

هذه الأخيرة، ويا للمصادفة، كان يُمثلها الشخصُ نفسه، الذي سيصبح رئيساً للجمهورية إثرَ ظفر ” ثورة الياسمين  “؛ أيْ المنصف المرزوقي.

وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فإنّ أحد شبيحة الإعلام، المُحتفي بهم وطن الأرز، كان حاضراً ثمة أيضاً؛ وهوَ فيصل جلول: هذا الشخص، كان قد استعملَ في مداخلته أمام المؤتمرين التعبيراتِ ذاتها، عن المقاومة والممانعة، التي يسوقها اليوم تبريراً لموقفه المناهض لثورة الشعب السوريّ.
في الأمسية الربيعية، العذبة، الشاهدة على وصولي إلى الفندق الباريسي، جمعتني إحدى الطاولات، اتفاقا، مع ثلاثة من المعارضين: المرحوم الشاعر محمد الحسناوي وزهير سالم وعمار القربي.

الأولان، كما عرفتُ لاحقا، كانا يمثلان الأخوان المسلمين.

أما جليسهما، فإنني لم أكن لأشكّ يومئذٍ باختلافه عنهما؛ فكرياً، على الأقل.

فبما أن حديث سهرتنا تلك، اللطيفة، كان يدور جلّه عن أدب نجيب محفوظ، فقد اتفقت آراء أولئك السادة على كونه ـ كذا ـ يحملُ بذورَ التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ؛ بما أنّ رواياته خلتْ من أيّ شخصية فلسطينية، فضلاً عن عدم تطرق أيّ منها لقضية العرب المركزية، الكذا: أيْ كأنما شخصيات محفوظ، الشعبية، تنتمي لكوكب زحل أو المريخ؛ وليست مستلهَمَة من ضمن عشرات ألوف المصريين، الذين قدموا أرواحهم فداء لتحرير الأراضي العربية المحتلة منذ نكبة 1948 مروراً بنكسة 1967 وانتهاء بوَكسة 1973..
3
خارج قاعة المؤتمر، وخلال إحدى الاستراحات، لفتَ نظري شخصٌ ربعة القامة، يتعكّز على عصا، يبدو من حركاته الحذرة، المريبة، أنه غير مرحّب به في ذلك المكان.

” إنه نزار نيّوف “، هكذا هتفَ أحدهم فيما كان يتقدّم لتحيّة ذلك الشخص.

وبطبيعة الحال، كنتُ أعرفُ أنّ هذا النيّوف هوَ سجين سياسيّ، سابقا، يقيم حديثاً في باريس إثرَ حصوله على جائزة مخصصة للصحافيين المنكّل بهم من أنظمة بلادهم.

على أنّ  شهرة ” رجُل العكّاز ” كانت أمضى من غيره، ولا غرو: فإن أجهزة الأمن، السورية، لم تكن تكفّ عن اختطافه؛ تارة في اللاذقية وأخرى في بلجيكا: فيما بعد، بشرنا الرّجلُ بأنّ إنسانية المسئولين عن هذه الأجهزة، إنما بسبب كونهم يشاركونه في اعتناق الطريقة التروتسكية نفسها.

شيل الله يا سيّد بدوي.

 
قلنا أنه حصلَ لي الشرف، بالتعرّف على المناضل نزار نيّوف.

ثمّ رأيتني، على الأثر، مع صديقين آخرين في الطريق إلى شقته الصغيرة، المعتلية بناءً من عدّة أدوار يقوم على مبعدة يسيرة من قاعة المؤتمر.

ثمة، في حجرة الجلوس، سألتُ نزارَ، أولاً، عن صحّته؛ بما أنّ مرضه، سرطان العمود الفقري، كان حتى ذلك الحين محوَر حديث الإعلام عنه.

فغمغمَ بجملة مبهمة، ما يُستشفّ منها عن صموده قدّام هذا المرض العضال، الذي لا يقلّ رأفة وإنسانية عن أجهزة الأمن السورية.

المهم، أنني خلال الدردشة الودّية ألممتُ بمواهب أخرى لنزارنا، غير صموده الأسطوري أمام تلك المُعضلات، المَوْسومة: فالرّجُل شاعرٌ وكاتب وصحفي و..

رسام كاريكاتور.

رسومه، التي عرضها على ناظر الحضور بفخر، كانت نسخ ” كوبيا ” من أصولها المعرّفة بتوقيع الفنان المعروف، علي فرزات: اللهمّ إلا إذا كان هذا الأخير مجرّد منتحل، وليسَ مبدعاً بقدَر القامة الربعة..

بما أن المبدع، كما يقال، هوَ نبيّ زمانه؛ فلم يكفّ ” رجُل العكاز ” عن إبهار ضيوفه برؤاه البعيدة النظر: ” عمار القربي، كان يجند الشباب لصالح تنظيم ” القاعدة ” ويرسلهم إلى العراق.

زوجته، بهية مارديني، مرتبطة مباشرة ً بمكتب آصف شوكت.

هيثم المناع، بعدما حصل على مكرمة العفو الرئاسي، يُحضّر نفسه للعب دور مهم في الحكومة السورية، المقبلة “.

أما تأكيد نيّوف، بأن البيان الختامي لمؤتمرنا، المعارض، يُجرى إعداده في حجرة السفيرة السورية بباريس، فإنني أشهدُ بكونه ” نبوءة ” حقّ لها أن تتحقق في اليوم التالي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…

إبراهيم اليوسف إنَّ إشكالية العقل الأحادي تكمن في تجزئته للحقائق، وتعامله بانتقائية تخدم مصالحه الضيقة، متجاهلاً التعقيدات التي تصوغ واقع الشعوب. هذه الإشكالية تطفو على السطح بجلاء في الموقف من الكرد، حيث يُطلب من الكرد السوريين إدانة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وكأنهم هم من جاؤوا به، أو أنهم هم من تبنوه بإجماع مطلق. الحقيقة أن “ب ك ك”…

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…