ماراتون الدم السوري الكبير

هوشنك بروكا

دخلت الثورة السورية شهرها الثاني عشر، ولا يزال الطريق إلى سوريا بدون الأسد ونظامه، محفوفاً بأكثر من خطرٍ، وأكثر من حربٍ أهليةٍ، على أكثر من مستوى، داخلاً وخارجاً.

أخيراً، صدّق العالم و “أممه المتحدة” بأنّ الأسد ونظامه قد ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، كما جاء في آخر تقريرٍ أممي، نُشر مؤخراً.

الأمر الذي دفع بالبعض من كبار ساسة تلك الأمم وقادتها، إلى وصف الأسد ب”مجرم حرب”، كما جاء على لسان وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون.

اجتماع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أمس، في جينيف، الذي سيناقش آخر التطورات في سوريا، هو خطوة أممية “شفهية” أخرى، في هذا الإتجاه، ل”أرشفة” هذه الجرائم، وإدانتها ببعض بيان، دون أن يستطيع القائمون على شئونه، على الأرجح، فعل أيّ شيءٍ من شأنه أن يمنع، أو يوقف مسلسل العنف والقتل والدمار بحق المدنيين على يد النظام.
بالرغم من كلّ المحاولات الأممية، وجهود الأممين القائمين على شئونها، عربياً وإقليمياً ودولياً، لا تزال القضية السورية تراوح مكانها، فيما الدم السوري الكبير يجري من مجزرةٍ إلى أخرى، ومن ماراتون إلى ماراتونٍ أكبر، تبدو نهايته غير قريبة.
مؤتمر “أصدقاء الشعب السوري” الذي انعقد في الرابع والعشرين من الشهر الجاري بتونس، والذي جاء تتويجاً لكلّ ما سبقته من محاولاتٍ “شقيقة” و”صديقة”، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا وشعبها، جاء ليؤكد مرّةً أخرى “الفشل الأممي”، في إيجاد حلٍّ ممكن للقضية السورية.

المؤتمر “الصديق” هذا، جاء كما كان متوقعاً، مخيباً لآمال وطموحات الشعب السوري وثورته الماضية إلى حريتها وكرامتها، منذ حوالي 12 شهراً.


المؤتمر، رغم توجهه “الصديق”، خرج كغيره من المحاولات والإجتماعات الأممية السابقة بقناعة جديدةٍ قديمة، مفادها أنّ الحالة السورية لا تحتمل أي “تدخل خارجي”(خاصةً التدخل العسكري)، لأسباب باتت معروفة للجميع، لعل أهمها هي تلك التي تتعلق بطبيعة النظام السوري البوليسي، الإستخباراتي، العسكري، الصعبة، ناهيك عن تشابك الوضع السوري وتداخله مع أكثر من قضية قابلة للإشتعال(أو “للزلزلة” على حدّ وصف الرئيس الأسد)، داخلياً وإقليمياً.
لكنّ مقابل هذا “التماطل الأممي” إزاء القضية السورية، أو “الهروب الأممي” من أيّ “تدخلٍ عسكري” في الشأن السوري، علينا أن نقرّ بحقيقة سورية قاسية ومرّة، ألا وهي أنّ فكرة “التدخل الخارجي”، التي أصبحت الآن “ضرورة سورية”، كانت ولا تزال “عقدة داخلية”، تعاني منها المعارضة السورية بكلّ أطيافها، على أكثر من مستوى، قبل أن تكون “عقدةً خارجية”.
قبل حوالي 8 أشهر (أي بعد مرور حوالي 112 يوماً على الثورة السورية)، تعرضت في مقالٍ(المعارضة السورية و”عقدة” التدخل الخارجي) لهذه “العقدة”(ربما الوحيدة) التي جمعت، آنذاك، بين كلّ أطياف المعارضة والموالاة، ووضعتهم في “خندق داخلي واحد” مقابل “خارج أجنبي واحد”.

عقدتئذٍ، طالبت من على هذا المنبر بضرورة كسر المعارضة السورية لهذا “التابو”، وتخليها بالتالي عن “رفضها القاطع للتدخل الخارجي”، الذي سميته آنذاك ب”الشعار الوطني الفضائي” أو “الوطنية الشاعرية”، التي ليس في مقدورها حماية الشعب، من حصار دبابات نظامٍ مصرٍّ على القتل والخراب، حتى آخر سوريا وآخر سوريٍّ فيها.


ثم أوليس “التدخل الخارجي الرحيم”، الذي أصبح الآن ضرورةً سوريةً داخلية، قبل أن تكون ضرورةً خارجية، هو أرحم بكثير من هذا “التدخل الوطني الرجيم”؟
إذن مشكلة سوريا والسوريين، الآن، بعد حوالي 12 شهراً من الثورة المستمرّة، لا تكمن في نظامٍ متفق عليه، بأنه أول المشكلة وآخرها، وإنما هي تكمن أيضاً في المعارضات السورية المتضادة، التي لم تستطع، حتى اللحظة، أن تقدمّ نفسها، لا للداخل ولا للخارج، بإعتبارها حلاًّ قادماً ممكناً.
فعلى الرغم من اتفاق جميع “أصدقاء الشعب السوري” وإجماعهم على ضرورة “تنحي” الأسد ورحيل نظامه الذي انتهى صلاحيته بحسبهم، إلا أنهم ما زالوا مختلفين على السؤال الأهم المؤدي إلى هذا الرحيل، ألا وهو “كيف سيرحل”؟
هؤلاء “الأصدقاء” ليسوا مختلفين على “كيف سيرحل الأسد ونظامه؟” فحسب، وإنما هم مختلفون أيضاً على “من سيخلفه وكيف”؟
هناك إذن، خشيةٌ غربيةٌ حقيقية (أميركية بالدرجة الأولى) من البديل القادم الذي سيحكم سوريا.

فلا يزال هناك بعض أميركي مسؤول، كما تقول آخر التصريحات، يخشى من أن لا يكون “البديل أحسن من الأسد”.

فالبديل القادم في سوريا مهمٌ بالنسبة للغرب، بقدر أهمية إسرائيل، التي لم توقع حتى الآن، مع سوريا، “معاهدة سلام”، كما جرى مع مصر والأردن وفلسطين.
هذا فضلاً عن أن تشرذم المعارضة السورية وانقسامها على نفسها، لا يزال يثير الكثير من الشكوك، حول مصداقيتها ك”بديل قادم”، يخلق الكثير من علامات الإستفهام، التي تحتاج إلى أكثر من جواب.
فهذه المعارضة نفسها، لم تتفق بعد، فيما بينها، على أيّ بديل قادم، شرعي، يمكن أن يحكم سوريا من بعد الأسد.

ليس هناك على مستوى المعارضات السورية نفسها، بديلٌ واحد، أو حلّ واحد للمشكلة السورية، وإنما هناك “بدائل” و”حلول” كثيرة، بينها من الخلافات، أكثر من الإختلافات، ومن الشقاق أكثر من الوفاق والإتفاق.


الحلول والبدائل، تتعدد سورياً، بتعدد العواصم التي باتت تحتضن وتستقطب هذه المعارضات السورية، هنا وهناك.

فالبديل السوري القادم، مثلاً، من منظور “معارضة دمشق”، الممثلة ب”هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الوطني الديمقراطي”، ليس كبديل “معارضة استانبول” الممثلة ب”المجلس الوطني السوري”، وبديل هذا الأخير يختلف عن بديل “معارضة الميدان” الممثلة ب”الجيش السوري الحرّ”.

ولاننسى أنّ بين هذا البديل وذاك، بدأت بوادر بدائل أخرى، من منظورات أخرى، لمعارضات سورية أخرى، تطفو على سطح المشكلة السورية، مثل بديل “معارضة هولير”، عاصمة إقليم كردستان الممثلة ب”المجلس الوطني الكردي في سوريا”، وبديل “معارضة استانبول/ القاهرة” الممثلة ب”تيار التغيير الوطني السوري”، وبديل “معارضة الرياض/ الدوحة” الممثلة ب”مجموعة العمل الوطني” المنشقة حديثاً، عن “المجلس الوطني السوري”، والتي تعتبر نفسها مقرّبة، بل و”منبثقة” من “الجيش السوري الحرّ”.
والحالُ، إذا لم تستطع كلّ هذه المعارضات السورية في الداخل السوري القريب، بعد حوالي سنةٍ من جريان الدم السوري في ماراتونه الكبير، أن تتفق حتى الآن على الحد الأدنى من سوريا، أيّ على “بديلٍ واحد”، و”حلٍّ موحد” للأزمة السورية، فكيف يمكننا مطالبة الخارج البعيد بذلك؟
كيف يمكن لنا أن نطالب هذا الخارج بالإتفاق على سوريا قادمة، واحدة، من دون الأسد، و”سوريا المعارضة” نفسها، براهنها وقادمها، لا تزال محلّ أكثر من خلافٍ وإختلاف، بين أكثر من معارضةٍ سورية في الداخل والخارج؟
إذا كانت مشكلة شعوب ثورات الربيع العربي الجارة، إبان الثورة، في صراعها مع الديكتاتورية مشكلة واحدة، فإنّ مشكلة السوريين وثورتهم مع الديكتاتور، تبدو مزدوجة: مرّة مع النظام كديكتاتورية معلومة، وأخرى مع المعارضة ك”ديكتاتورية مبنية للمجهول”.
وإذا كان هناك ما يبرر  انقسام العالم وأممه من “مجلس الأمن” إلى تونس، على كيفية الخروج بسوريا من ديكتاتورية الأسد، إلى دولة الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والديمقراطية، حيث لكلٍّ مصالحه واستراتيجته الخاصة في الدفاع عنها، إلا أنه ليس هناك أيّ مبررٍّ منطقي لانقسام المعارضات السورية على نفسها، وعدم اتفاقها على سوريا قادمة واحدة لكلّ الشعب السوري، بمختلف قومياته وإثنياته وأديانه وطوائفه وتياراته.


في “الماراتون اليوناني”، قبل حوالي 2500 سنةٍ، كان على المقاتل الأثنيني “فيديبيدس”، أن يقطع المسافة الطويلة ما بين ماراثون وأثينا، جرياً على الأقدام، ليخبر الأثينينيين أنهم انتصروا في معركتهم على الفرس، ليموت بعدها من التعب مرتين: مرةً من تعب المقاومة، وأخرى من تعب النصر.
اما اليوم، في ماراتون الدم السوري الكبير، فلا ندري بعد، كم من الدم، وكم من الدمار والإعتقال والتشريد والقتل بالجملة، وكم من سوريا، سيحتاجه “فيديبيدس السوري”، ليقطع المسافة الطويلة جداً ما بين “أصدقاء سوريا الأسد” و”أصدقاء سوريا الشعب”، ليخبر العالم، قبل موتٍ كثيرٍ بخطوة، بأنّ “سوريا الحرية” قد انتصرت على “سوريا الديكتاتورية”.
hoshengbroka@hotmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…