لن أتحدث بعد هذا اليوم

محي الدين عيسو


قررت أن أكون مواطناً مثاليا وبذلك سأكون كالنعامة أغرس رأسي في التراب ولا أرى شيئاً ، ولا أزعج أحداً بعد هذا اليوم وهذا يعني بأنني سأكون مرضي الوالدين والسلطة السورية معاً ، فلن أتحدث بعد هذا اليوم عن الفساد الذي يستشري في جميع دوائر الدولة الاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من الدوائر الفاسدة لأنني سأكون عائقاً أمام الاستثمارات الأجنبية والعربية في وطني الذي يقدم لي كل ما احتاجه من وسائل الرفاهية ولا أحرم وطني من المساعدات والقروض الأجنبية وحتى لا أتهم بتهمة نشر الأخبار الكاذبة وإثارة البلبلة بين المواطنين وتعاقبني الأجهزة الأمنية على فعلتي هذه .
لن أتحدث بعد هذا اليوم عن استبداد السلطة وقمعها للمواطن ومنعها حتى الماء والهواء عنه ولن أقول أنها  تمارس أبشع أنواع الظلم عليه في سبيل الحفاظ على المكتسبات التي نالها بطرق غير شرعية ، وتستبد كل من يحاول أن يرفع صوته في وجه الاستبداد ، وتمارس سياسة الوصاية على المواطن عبر كم الأفواه وخنق الكلمة الحرة حتى تكون السلطة السورية راضية عني وتقول بأنني مواطن صالح من الدرجة الأولى ولست طالحاً كبقية الناس الذين يتهمون السلطة السورية بالاستبداد لن أتحدث بعد هذا اليوم عن التغيير الديمقراطي في سوريا وسأطالب الجميع بعدم التحدث عنها ، لأن هؤلاء الذين يطالبون بالتغيير هم أناس مرتبطون بالخارج وعملاء للإمبريالية الصهيونية والرجعية ويحاولون زعزعة الاستقرار الذي يتسم به مجتمعنا وسأكون مع هؤلاء الطلبة والأجهزة الأمنية التي  تخرج  في قمع الاعتصامات  حتى أنال شهادة حسن السلوك من الأجهزة الأمنية التي تسهر ليلاً نهارا ، صيفاً شتاءاً لحماية المواطن السوري من هذه الثلة التي تنادي بالتغيير الديمقراطي ، وسأتدرب على التصفيق منذ هذه اللحظة لأكون بين المصفقين والمزمرين والمطبلين لسياستنا الحكيمة وأحفظ عن ظهر قلب مقولة لا للتغيير ، نعم للأجهزة الأمنية بجميع فروعها .
لن أتحدث بعد هذا اليوم عن التخلف والأمية ومناهج التعليم وهجرة الطلبة والعلماء إلى الدول الغربية وسأغمض عيني عن القرى القصبات الخالية من وسائل الخدمة والصرف الصحي ، ولن أقول بأن الجامعات السورية لا تستوعب هذا الكم الهائل من الطلبة وأن المتخرجين أصبحوا متسولين في الشوارع بحثاُ عن فرص العمل حتى لا أتهم بالكذب والنفاق والثرثرة لن أتحدث بعد هذا اليوم عن الاقتصاد السوري الذي يستطيع أن ينافس أقوى الدول العربية وهو ينهب من قبل بعض المتنفذين في الدولة ، وأن البترول السوري محفوظ في أيدي أمينة حتى لا يكون مصيري كمصير عارف دليلة عالم الاقتصاد الذي حكم عليه عشر سنوات وهو في نهاية عمره ، لن أقول أبداً بأن هناك ملايين الدولارات لكبار المسؤولين في البنوك الأوربية ويستطيع شراء حي بأكمله في أجمل عاصمة أوربية أقسم بالله العظيم لن أتحدث بعد هذا اليوم عن الفقر والجوع الذي يتعرض له الشعب السوري وسأقول بأن قصة 30 % الذين يعيشون تحت خط  الفقر هي أكذوبة غايتها النيل من سلامة وطننا واستقراره ، وأن أي موظف سوري يستطيع أن يؤمن مستقبله ومستقبل أولاده وأحفاده من خلال الراتب الذي يتقاضه ، ولا أحد في وطني يرتشي ، لن أفتح فمي وسأغمض عيني مرة أخرى أمام هؤلاء الضباط الذين يملكون المزارع والفيلات والمعامل والمصانع والحشم والخدم (العساكر) لا بل سأقول بأنهم يسهرون لحماية الوطن والمواطن وأموالهم تلك هي من تعبهم وجهدهم وعرقهم لأكون مواطن من رتبة الخمس نجوم  أمام الأجهزة الأمنية لن أتحدث بعد هذا اليوم عن الأكراد المجردين من الجنسية حسب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 لا بل سأقول وأحفظ عن ظهر قلب وأردد بأن هؤلاء جاؤوا من تركيا فاحتضنتهم  الدولة السورية ومنحتهم الأراضي الزراعية وسمحت لهم بامتلاك البيوت والعقارات التجارية والتوظيف في الدوائر الحكومية واستكمال الدراسات الجامعية والنوم في الفنادق السورية ، وأن محمد طلب هلال لم يقدم مشروعاً يوصي بأن تعمد الدولة إلى تهجير الأكراد إلى الداخل مع التوزيع في الداخل مع ملاحظة عناصر الخطر أولاً فأول وتطبيق سياسة التجهيل أي عدم إنشاء مدارس أو معاهد لأن بنائها أثبت عكس المطلوب بشكل صارخ وسحب الجنسية السورية منهم ومن ثم تهجيرهم وسد باب العمل أمامهم حتى نجعلهم في وضع غير مستقر وغير قادرين على التحرك كي يكونوا أمام الرحيل في كل وقت ، ولن أقول بأن العقلية الشوفينية عربت أسماء القرى والمدن الكردية إلى عدنانية وعمرانية وقحطانية وإلى آخر القائمة المعربة لن أتحدث أبداً عن عدد السجون المنتشرة على طول البلاد وعرضها لأنها بنيت خصيصاً لمعاقبة المجرمين والثرثارين من أمثال رياض الترك وعارف دليلة وأنور البني وميشيل كيلو ورياض سيف ومأمون الحمصي وكمال اللبواني وغيرهم من الحقودين أصحاب الألسن الطويلة ، ولا أحد في سجون الأجهزة الأمنية يتعرض للتعذيب لأنه ممنوع حسب الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب التي صادقت عليها سوريا لا بل سأقول بأن الذي يمارس التعذيب (وهو نادر جداً) يتعرض للعقوبة والمسائلة من الجهات الأعلى مسؤولية ويفصل من وظيفته التي حصل عليها بالانتخابات الديمقراطية عن طريق صناديق الاقتراع ، وأن السجون في سوريا هي من أفضل المدارس التعليمية ؟ فهل يستطيع أحد أن ينكر بأن أغلبية المترجمين السوريين هم من خريجي السجون السورية التي أصبحت أكثر من المدارس والمشافي سأتوب بعد هذا اليوم ولن أتحدث عن حقوق الإنسان في سوريا ، ولن أطالب باحترام المواثيق الدولية لأن الأجهزة الأمنية هي التي تصنع الإنسان من لا شيء ، وأنا أتحدى جميع المدافعين عن حقوق الإنسان بأن يقولوا أو أن يلمحوا بعدم عدالة الأجهزة الأمنية في التعامل مع المعتقلين فجميع المعتقلين سواسية في التعامل الإنساني والأخلاقي في المفارز الأمنية ؟ لن أتحدث بعد هذا اليوم عن المادة الثامنة من الدستور السوري والتي تجيز لحزب البعث قيادة الدولة والمجتمع والجبهة الوطنية الكرتونية ولن أطالب بتعديلها أو تغييرها – لا سمح الله – فهذه المادة أصبحت من التراث الوطني والقومي للشعب السوري وجزء لا يتجزأ من المبادئ السامية التي انطلقت عليها أفكار حزب البعث الحاكم لا بل سأقول بأن قانون الأحزاب هو أمر تافه لا معنى له ، فلماذا تزداد عدد الأحزاب وتزداد معها الصراعات فالشعب السوري كله حزب واحد وجبهة واحدة ويدا واحدة ، ثم لماذا تزداد عدد الجرائد والمطبوعات ويكثر اللعي والحكي الفاضي فهناك ثلاث جرائد رسمية ( الثورة – تشرين – البعث) تستطيع تغطية الأخبار المحلية والعربية والدولية لا بل لكل منها ملحقها الثقافي أيضاً .
لن أتحدث بعد هذا اليوم عن حالة الطوارئ والأحكام العرفية في البلاد منذ عام 1963 ولن أقول بأن الشعب السوري هو رهينة بيد السلطة في صراعها مع إسرائيل حسب ما تدعي هي ، ولن أتحدث عن المنتديات التي أغلقت في كل من دمشق وحلب والقامشلي وغيرها من المحافظات السورية وأخيراً لن أتحدث أبداً عن سوريا بعد هذا اليوم وسأغير موجة كتاباتي للحديث عن جنوب السودان وموريتانية والصومال لأكون مواطناً صالحاً مرفوع الهامة أمشي منتصب القامة أمشي
وأنا أمشي
وأنا أمشي
وأنا أمشي

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، من جديد، وعلى نحو متفاقم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، انطلاقاً من أصداء قضايا محقة وملحة، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…