الثورة السورية والآفاق المرتقبة

  افتتاحية جريدة آزادي *
بقلم رئيس التحرير

تواصل الثورة السورية مسيرتها السلمية وهي أكثر إصرارا على الخطى نحو تحقيق أهدافها الوطنية والجماهيرية النبيلة ، وتزداد زخما وعنفوانا يوما بعد آخر رغم الآلة العسكرية والأمنية التي يعتمدها النظام كخيار وحيد في التعاطي مع الأزمة السورية ، لزهق الأرواح البريئة من الشيوخ والنساء وحتى الأطفال ، وقمع المتظاهرين والمنتفضين تنكيلا وتجريحا وتشريدا واعتقالا ، وقد تصاعدت وتيرة القمع هذه  مع تزايد المبادرات والمشاريع العربية والدولية المطروحة لحل الأزمة ، سواء عبر جامعة الدول العربية أو المجتمع الدولي من خلال الاتحاد الأوربي وهيئة الأمم المتحدة ، ورغم كل العراقيل والعقبات التي تعترض سبيل هذه المشاريع نحو التفعيل ، إلا أن الدلائل والبراهين بمجملها تشير بوضوح إلى تعزيز شرعية هذه الثورة والمساهمة في  تعرية النظام وعزله عن المحيطين العربي والدولي ..
 إن الجهود والمساعي الدولية والعربية الخيرة إنما تدور بمجملها حول عدد من الحلول والخيارات ، منها أن يوقف النظام أساليب العنف والقتل وسحب قوى الجيش والأمن إلى مواقعها الطبيعية وإنهاء كافة مظاهر التسلح والرعب ، وضرورة توفير الحماية اللازمة للمدنيين عبر الممرات الآمنة مع وفرة الحاجيات الضرورية للمواطنين التي تكفل الحياة والعيش بسلام ، أو أن يتم الحوار حول عملية تسليم واستلام السلطة بين النظام والمعارضة الوطنية ، لأن النظام قد أكد بنفسه على جوانب الفساد المستشري في أوصال الدولة والمجتمع مما يعني اعترافه الصريح بعدم صلاحيته للعمل وقيادة البلاد ..

وأمام مشاهد اللوحة السياسية المتداخلة ، وبعض المواقف الدولية المتباينة ولاسيما الموقف الروسي والصيني المساند للنظام عبر استخدام حق النقض ( الفيتو ) في مجلس الأمن ما يشجع النظام على التمسك بزمام الأمور ومقدرات البلاد أكثر ، وما يزيد إصرار النظام على ذلك هو وقوف إيران بشكل سافر إلى جانبه ودون تردد في مدّ يد العون والمساعدة إليه بسخاء في المال والعتاد وحتى بشريا وإعلاميا ، هذا إلى جانب الاختلال في مواقف بعض الدول الإقليمية الأخرى ، والمفارقة هنا أن يلتقي الموقف الإسرائيلي مع الموقف الإيراني تجاه النظام السوري ، وبوادر تراخ واضح في الموقف التركي إزاء الأحداث ، كل ذلك مع تزايد تصريحات مطمئنة للنظام هنا وهناك وأحيانا على مستويات دولية رفيعة توحي بعدم التدخل العسكري في الشؤون السورية ..
ولئن اتخذ النظام من تلك الحالة في الوضع الإقليمي منطلقا نحو المزيد من بطشه الهمجي بالمنتفضين والمتظاهرين دون رادع من ضمير أو وازع إنساني ، إلا أنه لن يستطيع بكل الأحوال أن يطفئ جذوة الثورة المتقدة ، التي غدت ثورة كل أحرار سوريا بكل المكونات المجتمعية والقومية والدينية والسياسية التي تجمع على الأهداف والمصالح الوطنية المشتركة ، التي تتحقق بمجرد انتهاء نظام الاستبداد ومنظومته الأمنية ومؤسساته ذات الاتجاه الشمولي الواحد ، ولتختصر الجماهير وشباب الثورة العبارات تلك – حسما للموقف وقطعا للالتباس – عبر هتافها الشهير في مقولة ” إسقاط النظام ” بكل رموزه وتركيبته ودون حوار إلا من أجل انتقال السلطة إلى المعارضة الوطنية الديمقراطية ..
وأمام هذا الوضع ، فإن المعارضة السياسية هي الأخرى ماضية في اتصالاتها ونشاطاتها على مختلف الأصعدة والمجالات محليا وإقليميا ودوليا ، وهي تسعى بكل إمكاناتها من أجل تقديم الدعم والمساعدة لاستمرارية الثورة في الداخل ، كما تواصل المزيد من العمل والنضال من أجل رص صفوفها عبر تلاحمها ووحدتها مع الثورة وأهدافها ، وما الدعوات التي تطلق في هذا الصدد من أجل حوارات لعقد مؤتمر يتم من خلاله التفاوض على وحدة المعارضة إنما هي دعوات يستفيد منها النظام ، لأن ترتيبات كهذه قد تحتاج لآماد طويلة ربما تستغرق بضعة أشهر لانجازها ذلك إن لم تعترضها عراقيل أو عقبات تحول دونها ، لتسنح المزيد من الوقت أمام النظام ليستعيد جزءا ولو يسيرا من الطاقات والإمكانات التي استهلكها خلال ما يقارب من عام كامل على اندلاع الثورة الوطنية ..
إن المعارضة بكل ألوان طيفها الوطني مدعوة إلى المبادرة في التفاعل والتلاحم مع الثورة وشبابها ، وإلى التفاهم فيما بينها ولو في الحدود الدنيا من البرامج والأهداف ، لأن الظرف يداهم الجميع ، وليس هناك متسع وقت للحوارات المستفيضة التي تحتاج لأزمنة أطول ، والتي تصب بالتالي في مصلحة النظام وإطالة أمد سطوته ، بمعنى أن المرحلة ليست لتقاسم المصالح والمنافع سواء الشخصية أو الحزبية أو الفئوية ، بل تحتاج ربما لبعض الترتيبات الأولية أو الأساسية استعدادا لما بعد التغيير ، شريطة ألا تعيق الثورة أو تعرقل مسيرة النشاط السياسي أو الجماهيري ، بل ينبغي أن تكون دافعا لتسريع عجلتها وتقدمها ..
وفي الجانب الكردي ، هناك بوادر إيجابية من بعض أطياف المعارضة الأساسية لتفهم المزيد من شأن الشعب الكردي وقضيته القومية ، من خلال إعلانه الاستعداد التام لإقرار الاعتراف الدستوري بالهوية القومية للشعب الكردي ، واعتبار القضية الكردية جزءاً أساسياً من القضية الوطنية العامة في البلاد ، والعمل على إلغاء السياسات العنصرية والمراسيم والإجراءات التمييزية المطبقة بحق المواطنين الكرد ، ومعالجة آثارها وتداعياتها، وتعويض المتضررين، والاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي ضمن إطار وحدة سورية ..

أي أن هذه البوادر هي مؤشرات إيجابية لمعالجة وضع الشعب الكردي في سوريا وفق أسس من الديمقراطية والمواثيق الدولية التي تقر بحق الشعوب في تقرير مصيرها ، وكذلك مبعث التفاؤل بمستقبل الشعب الكردي في سوريا ، ودليل واضح على صدق الدعوة باتجاه توحيد المعارضة السورية ، مما يقتضي من المجلس الوطني الكردي في سوريا عبر اجتماعه المرتقب في آذار القادم ، أن يتناول قضايا كهذه بأهميتها اللازمة ، وأن يتخذ منها الحافز الأقوى في المزيد من التفاعل مع أوساط المعارضة السياسية والمزيد من الانخراط في صفوف الثورة السورية ، التي تخدم الشعب الكردي وقضيته العادلة على أكثر من صعيد ، تارة في الشأن الوطني العام وأخرى في الشأن القومي ..
هكذا ومن خلال تفاعلات الثورة السورية واتساع دائرتها وتداعياتها السياسية التي تستقطب المزيد من الدعم والتأييد السياسي الشعبي والعربي والدولي ، ومجمل تلك الإجراءات والمبادرات والمشاريع التي طرحت بشأن الأزمة السورية ، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ، عزل النظام عن محيطه العربي والدولي ، وتوحي بتحولات دراماتيكية سريعة ، تساهم بوضوح في تسريع وتيرة التغيير ، وتبشر بملامح فجر جديد وغد مرتقب ومستقبل واعد ..


26/2/2012

* جـريدة صـادرة عـن مـكـتب الثقـافـة والإعـلام المـركـزي لحــزب آزادي الكــردي في ســوريا / العدد المزدوج (441-442)

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…